السبت، 10 يناير 2015

ظاهرة صوتية اسمها عدنان إبراهيم.



ظاهرة صوتية اسمها عدنان إبراهيم
 إلياس بلكا
الأستاذ عدنان إبراهيم فلسطيني، درس الطب والعلوم الشرعية، واستقر من فترة طويلة بالنمسا حيث عمل بأحد معاهدها الإسلامية، كما يلقي خطب الجمعة بأحد مساجدها.
ما كنت أعرف شيئا عن الرجل حتى بدأت أسمع عنه منذ سنين قليلة، خاصة حين سألني بعض الشباب عن رأيي فيه وفي أفكاره.. ووعدتهم بأنني سأراجع ما يقوله الأستاذ عدنان وأخبرهم برأيي.
وهنا كانت المفاجأة بالنسبة لي: لا توجد للرجل كتب ولا مؤلفات.. ولا حتى أبحاث أو مقالات علمية.. لا يوجد شيء.. الموجود هو تسجيلات لمحاضرات الأستاذ ودروسه وخطبه بالجمعة وغيرها.. مئات التسجيلات على مدى أكثر من عشر سنين.. تعجبت وقلت هذا لا يمكن، فلنبحث في موقعه الإلكتروني.. فبحثتُ وتأكد لي الأمر.. الموجود على شكل ملفات ب.د.ف أو وورد هو تفريغ لبعض الأشرطة الصوتية..
 إذن كيف نتعرّف على فكره؟ جرّبت أن أستمع لبعض الدروس، فوجدت خليطا من العلم ومن عدم العلم، من جرأة في محلها وأخرى في غير محلها.. لكنني لم أستطع متابعة الاستماع.. إذ من المعروف في العالم كله أن أي إنسان يريد أن يطرح فكرة أو رؤية، خاصة إذا كان يريد من الآخرين أن يتبنّوها ويؤمنوا بها.. فإنه يكتب على الأقل كتابا واحد يشرح فيه بتفصيل هذه الرؤية ويدافع عنها ويدعمها بالأدلة والحجج...
هكذا فعل جميع المفكرين والمصلحين الكبار.. وحتى الصغار: كانط وكونت وهيجل وهيوم وماركس وإنجلز.. في حضارتنا كتب ابن سينا والفارابي والغزالي وابن باجه وابن رشد.. فعرفنا ماذا يريدون وكيف.. وكتب الفقهاء والعلماء والأصوليون والمحدثون والمؤرخون.. فعرفنا كيف يفكرون وماذا يقترحون..
بل كان من مظاهر المعجزة في نبينا عليه الصلاة والسلام أنه كان أميّا. ورغم ذلك أنزل الله سبحانه عليه كتابا نقرأه ونتعرّف عبره على خطاب ربنا العليّ إلينا..
فأن يكون كل إنتاجك أو معظمه مئات من الأشرطة.. فتتناقض هنا وهناك، وتثبت أمرا اليوم ثم تنقضه غدا.. هذا ليس فكرا ولا علما  بله أن يكون مشروعا حضاريا  يريد من الناس أن تتبعه.. هذا إنتاج صوتي، قد تبْرع فيه، لكنك ستبقى ظاهرة صوتية.. تماما كالشيخ كشك رحمه الله، الخطيب المصري المفوّه والذي طالما سحر آذان المستمعين.. والذي كانت أشرطته توزع وتباع بمئات الآلاف.. هذا صحيح. لكن هذا لا يجعل من الشيخ كشك رحمه الله عالما ولا مفكرا ولا مصلحا.. هو بالضبط خطيب. لكن محمد الغزالي ومحمد أبو زهرة ومحمود شاكر ومصطفى المراغي وعبد الحليم محمود.. هؤلاء علماء لأننا نستطيع أن نقرأ لهم وأن نحكم على ما كتبوا..
والمفكرون اليساريون والقوميون أمثال عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وسمير أمين وحسن حنفي وزكي نجيب محمود.. مفكرون كتبوا وأوضحوا. فليست المشكلة أن تكون عندك آراء شاذة أو تخالف الجمهور أو ما عليه الأمة، إذ جماعة كبيرة من أهل الفكر لهم آراؤهم الخاصة أمثال محمد أركون وجمال البنا ونصر حامد أبو زيد.. لكنهم كتبوا وفصّلوا نظرياتهم. فيمكن مناقشتهم لأننا نستطيع فهمهم.
ها هو مثلا الأستاذ عدنان إبراهيم ينتقد صحيح الإمام البخاري وينتقد كثيرا من الأحاديث وعلماء الحديث.. لكنه لم يبيّن لنا أين الخطأ في علوم الحديث؟ في المنهج. هذه علوم أسّستها أجيال من العلماء، وتتابع على بنائها وشرحها والكتابة فيها آلاف العلماء لمدة قرون.. من القرن الأول إلى اليوم. أين المشكلة بالضبط في هذا البناء الضخم؟ هو ليس بناء كاملا لا خطأ فيه، بل قد كتبتُ عن هذا.. لكنه بناء متكامل.. وعظيم أيضا. هذه هي الحقيقة.
إن الناس أحرار في اعتقاداتها، فبعضهم مثلا يرى أن الحديث كله مرفوض، كما يقول القرآنيون، لكن على الأقل هؤلاء بينوا نظرتهم وقدموا رأيا متكاملا..
وإذا قلتَ كثير من الحديث مقبول، أو أكثره، فما هي معاييرك في ذلك. ما هو المقياس الذي تقبل فيه حديثا وترفض آخر. لماذا أحيانا تستدل بحديث في صحيح البخاري، وأحيانا أخرى ترفض حديثا آخر في نفس الكتاب؟
إذن الذي ينقص الأستاذ عدنان أمران: الأول هو المنهج. في الحديث مثلا قدّم لنا منهجك واشرح لنا بالتفصيل البديل عن مدرسة أهل الحديث.. والثاني التأليف الأكاديمي العلمي، بأعرافه المتفق عليها عالميا: إن كنتَ ناقلا فالصحة، أو كنت مدعيا فالدليل، واذكر لنا مصادرك ومراجعك.. مع أرقام الصفحات. وإذا نقلت عن أحد بيّن لنا هل نقلك حرفي أم بالتصرّف.. أمور كثيرة لو أن الأستاذ الفاضل لم يقض شبابه ويهدر طاقته في دراسة الطب ربما كان وجد الفرصة لاكتسابها والتمرّن عليها..
لا يمكنك أن تتكلم -وأنت واقف على منبر الجمعة- في تاريخ الصدر الأول في الإسلام.. فتطلق الأحكام كما يحلو لك، ثم تريد منّا أن نصدق ونؤمن.. لكن ما فعله الدكتور المكناسي محمد أمحزون هو العلم، هو المنهج، حتى لو اختلفت معه.. وذلك حين تفرع سنين لإعداد دكتوراه في التاريخ، فدرس الموضوع كمؤرخ، ثم كانت الثمرة: كتاب "تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدثين"، في مجلدين. قد يكون أتباع الأستاذ عدنان كثيرون، وكثير منهم من الشباب المتعجّـل والكسول الذي لا يستطيع أن يصبر على قراءة 100 صفحة، فهو يفضل أن يُشغـِّل اليوتيوب أثناء قيادته للسيارة في الزحام فيأخذ منه دينه وثقافته، ولا يكتفي بذلك بل يتكلم بثقة تامة في قضايا الخلافة الراشدة وفي علوم السنة النبوية.. بينما لا أتباع لأمحزون.. لكن المؤرخ أو العالِم أو المفكر سيعترف بأمحزون لا بعدنان.

هناك 5 تعليقات:

  1. كلام موزون كالعادة أستاذنا الفاضل، ولكن ألا يمكن أن نقول أنه يستخدم الوسيلة الأكثر انتشارًا التي يسمعها الشباب؟؟

    ردحذف
  2. لا أتحدث عن الوسيلة بل عن المنهج والفكر. لكن لاشك أن اليوتيوب ساهم في انتشار أفكار الأستاذ عدنان

    ردحذف
  3. #في_الصميم مع د.عدنان إبراهيم | الحلقة 14 #روتانا…: http://youtu.be/ps7bdeKDwjU

    تستطيع استاذ الياس ان تستمع لرد عدنان بنفسه

    ردحذف
  4. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  5. كما عهدتك أستاذي طاقة فكرية في معالجة القضايا، فعلا لا يعدو أن يكون وأمثاله مجرد ظواهر صوتية، مادموا لم ينكبوا على بيان المنهج الذي استندوا عليه في القبول والرد، اليوم أستاذي نجن بحاجة ماسة لإعادة إحياء التفكير على أساس ومنهج واضح المعالم في تعاملنا مع تراثنا ولعل مشروع الاستاذ الجابري يحتاج اليوم إلى إعادة استدعاء بين بين جنبات الجامعة.

    ردحذف