السبت، 7 ديسمبر 2013

سلسلة التصوف السلفي (5): في الإخلاص وسجود القلب.


في الإخلاص وسجود القلب
تأليف: إلياس بلكا.
رأينا أن للعلم فضلا عظيما، لكن نية العالم والمتعلم معرضة للفساد. ذلك أن المشكلة  الكبيرة هي صعوبة الإخلاص، فقد سئل واحد من كبار الصالحين عن أشد شيء عالجه في طريق التصفية والتحلية طيلة مجاهداته لعشرات السنين، فأجاب بأنه الإخلاص. ويفسر الشاطبي ذلك في كتابه الموافقات بأن النفس تجد صعوبة هائلة في القيام بشيء ليس لها فيه حظ، وشرط الإخلاص التام ألا يكون للنفس أي حظ.. وهذا صعب جدا، فهوى النفس قوي جدا لا يكاد يملك قمعه إلا النادر في الناس، وهي درجة (الإنسان الكامل) التي أشار إليها الحديث الصحيح: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا ثلاثة.. الحديث. لذلك كان بعض الصوفية يرفض القيام بأي أمر مهما كان بسيطا إذا لم تكن له فيه نية سليمة.. فهو يريد أن تكون حركاته وسكناته كلها لله خالصة.. وهذا كله صحيح وغرض مقبول كما بيّن ذلك الشاطبي إمام المقاصد. لذلك كان بعض الصوفية يقولون: آخر شيء يخرج من قلوب الصديقين: حب الجاه. ويحكي ابن تيمية عن أبي يزيد البسطامي أنه خاطب رب العزة في المنام، وسأله: يا ألله، كيف السبيل إليك. فقال له سبحانه: اترك نفسك وتعال.
والعلم لا يخرج عن هذا الإطار.. فالقضية تؤول إلى الغايات ما هي،  وما المطلوب منا أصلا في الدنيا؟
وكثير ممن ارتفع من السلف والصالحين عاليا وفي المقامات عارجا كان سره هو الإخلاص، كما قال الإمام أحمد عن عبد الله بن المبارك: إنه ما ارتفع مقامه في الدنيا إلا بسريرة بينه وبين ربه لم يكن يعرفها أحد. وكما قالوا أيضا في الإمام مالك وما كان من تلقي الأمة له بالقبول والإمامة، لذلك بارك الله فيه وفي علمه وتآليفه، بينما ألف كثيرون موطآت عديدة، لكن لم يهتم بها الناس، واندثرت بعدهم.
ونظر لصعوبة الإخلاص فقد اعتبره الشارع أفضل العبادات وأعلى الأعمال، كما في قوله تعالى: (قل آمنت بالله ثم استقم)، وهو معنى الإسلام في قوله: (إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين..)، وهو المعنى العميق أيضا لقوله صلى الله عليه وسلم: أفضل الأعمال: لا إله إلا الله.. إشارة إلى إخلاص الأمر كله لله تعالى. والله سبحانه غيور لا يقبل أن يشرك به شيء، بل يحب من العبد أن تكون وجهته جميعها لوجه الله. ولعل هذه الصلة بين التوحيد والإخلاص هي سبب تسمية سورة قل هو الله أحد بـ: سورة الإخلاص، على القول بأن أسماء السور توقيف لا توفيق، كما هو مذهب الجمهور.
والحلّ الذي أشار إليه الشاطبي أيضا هو أن يحرص المرء على سلامة نيته ما أمكنه ذلك، فإن كان لنفسه حظ من العمل فلا بأس به على أساس أن تكون النية الأكبر لله، بمعنى أنه لا بأس أن تكون للمرء نيتان إحداهما خالصة والأخرى نفسية، لكن تكون الأولى أصلية والثانية تابعة.. وهذا الحلّ هو الحل الواقعي الذي يمكن للناس بلوغه بالمجاهدة والمحاولة، أما الإخلاص التام فمجال شاق جدا للمحاولة والمطاولة، لكن لا سبيل لمعرفته، وهذا معنى حديث أنه يمكن للإنسان أن يعمل أعمالا كثيرة لا يكون لها يوم القيامة وزن، وأن بعض الأعمال القليلة هي التي تنجي صاحبها لثقلها في الميزان، وهي الأعمال التي كانت خالصة لله وحده. والمؤمن حين يعمل الطاعات لا يستطيع أن يميز بسهولة هذه من تلك، لذلك كان السلف دائم الخوف ولا يدري هل تقبل أعماله أم تُرد في وجهه. وعلى هذا وأمثاله يتنزل حديث النبي الكريم: القلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. فما شيء أشد تقلبا وتفلتا وتغيرا من القلب، وهو محل النية، كما قال النبي العظيم: ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.
وقد أرشدنا الإسلام إلى أساليب لاكتساب الإخلاص، منها في حديث السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: صدقة السرّ لدرجة أن يد الشمال لا تعلم ما فعلت اليمين، والرجل الذي ذكر الله في مكان خال لم يره أحد فبكى، والذي دعته امرأة ذات جمال فتعفف.. ونحو ذلك، ولذلك كان السلف يحرص مثلا على أن يصلي بالليل والناس نيام.. وقد روي أن الجنيد رحمه الله رُئي في المنام، فسئل عن حاله، وهو إمام الصوفية الذي مهّد علومها واصطلاحاتها، فقال: طاحت تلك الإشارات وذهبت تلك العبارات، ولم تنفعنا إلا ركيعات في جوف الليل..
 لكن حتى الذي يسلك هذا السبيل على خطر، وهو أن يدخله العُجب بالنفس، فيرى نفسه كثير العبادة، بل ربما ظن نفسه من كبار المقربين.. فيرجع الأمر مرة أخرى إلى تجاذب النفس بين الإخلاص لله والإخلاص لنفسها وهواها، لذلك سمى نبينا الرياء بالشرك الخفي لأنه يدخل على النفس من حيث لا تحتسب.. وهنا لابد من توفيق الله للعبد، أعني أنه من دون رحمة الله تعالى لعبده وتقويته له وتقريبه منه.. من دون ذلك من الصعوبة بمكان أن ينجح المرء في صراع النيات هذا. وهذا من معاني ما جاء في عشرات النصوص عن هداية الله وتوفيقه وإعانته لعبده الصالح، وعن خذلانه وإضلاله لغيره: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا).. فالمقصود أن العبد يحرص على المحاولة الدائمة، فإذا عرف الله منه الإصرار والصدق.. جذبه إليه. وإذا جذبه إليه وأدخله حضرته القدسية، فرأى من الأنوار ما رأى، ومن آيات ربه ما قُدر له دون الورى.. فقد فاز واجتاز القنطرة، ولم يعد يُخاف عليه من الشرك ظاهره وخفيه، جليله ودقيقه.. وإن وقع كان يسيرا معفوا عنه، سرعان ما ينتبه له فيستغفر ويعود، لذا لا تخلو العبودية الحقة عن الاستغفار الدائم: كان خير الخلق يستغفر الله سبعين مرة.. والله أعلم، وهو سبحانه أجلّ وأحكم. 
جريدة الأخبار، ملحق دين وفكر، عدد 7 ديسمبر 2012 
يتبع..

هناك تعليق واحد:

  1. جزاك الله خيرا فالشرك الخفي أخطر ما يصيب العبد

    ردحذف