الأحد، 26 فبراير 2017

الولي العابد: محمد بنبراهيم أنصاري (4): بــــــــــدءُ أمــــــــــــرِه.


الولي العابد: محمد بنبراهيم  أنصاري (4):
بــــــــــدءُ أمــــــــــــرِه.
تأليف: إلياس بلكا.

من اليمين محمد بنبراهيم، بالوسط  الحاج محمد بن عبد السلام المصباحي، وبيسار الصورة الأستاذ حسن ميكو). 


 تندرج هذه المقالات في إطار الأدب المناقبي الذي تميّزت به الحضارة الإسلامية ووضَعت فيه آلاف المؤلفات. فقد اعتاد علماؤنا من قديم على الكتابة عن العلماء والصالحين وحكاية أحوالهم، حتى قامت مكتبة كاملة من كتب التراجم والمناقب.. فألّفوا في طبقات الفقهاء، وفي علماء بلد معين، وفي صلحاء زمن محدد.. ونوّعوا وأكثروا.. وهكذا ممّا هو معروف لدى أهل الاختصاص.
أدب المناقب في تراثنا:
وفي الأولياء خاصة كتب أبو نعيم الأصفهاني كتابه العظيم "حلية الأولياء"، واختصره ابن الجوزي في "صفة الصفوة"، وكتب كلٌّ من ابن الملقن والمناوي "طبقات الصوفية"، وكتب الشعراني عن أولياء عصره، وكثير منهم كان لا يزال حيّا أثناء الكتابة عنه.. وكتب البادسي عن صلحاء الريف، والتادلي عن صلحاء المغرب، والتميمي عن عُباد فاس.. ومن آخرهم الكتاني في سلوة الأنفاس.. كما كتب بعضهم عن وليّ معيّن، كما كتبوا عن الشاذلي وعبد القادر الجيلاني والرفاعي، وكتب ابن عطاء الله عن الشاذلي والمرسي، وكتب بعضهم عن أبي يعزى، وكتب ابن قنفذ عن أبي مدين.. وهكذا.. إلى آخره ممّا لا يُعد ولا يُحصى، ولو أن أحدا جرّد البحث عن عدد كتب التراجم والمناقب لوجدها تتجاوز عشرات الآلاف بدون أيّ مبالغة. فالكتابة عن العلماء والأولياء سنّة إسلامية وتقليد حضاري عريق وأدب من أدب علمائنا.. ولا خوف على أجور هؤلاء الصالحين لأنهم أفْضوا إلى ربهم، وإنما يكون الخوف أحيانا من الكتابة عن الأحياء.
أما لماذا نكتب في هذه المقالات عن المعاصرين دون القدامى، فلأن الأوائل مضوا، فمن كُتب عنه أخرجنا ذلك وحققناه، ومن لم يُكتب عنه فلا سبيل اليوم للتعرّف عليه.. بخلاف المحدَثين لا تزال الفرصة قائمة لجمع أخبارهم. ولسبب آخر هو بيان أن فضل الله تعالى لا ينقطع، فهو في كل زمان، مع أن   أكثر الناس يظنون أن الولاية انتهت أو صارت في حكم النادر، لذلك قالوا: المعاصرة حجاب، فأهل العصر لا يعترفون بمعاصريهم إلاّ قليلا. والناس في زمننا إذا قرؤوا في كتب السلوك قالوا: ومن يطيق هذا اليوم، وإنما كان هذا في عهد السلف؟ فنوضّح لهم أن بيننا اليوم ناسا كراما على منهاج هؤلاء في التعبّد والعرفان، وأن الرقيّ الروحي ممكن لكل جيل. وهذا  الأستاذ رحمه الله كان أعجوبة تذكرنا بأنه لا يزال في الأمة رجالٌ كبار على خطى السلف من العُـباد والعارفين والزهاد الصادقين.
وقد يرى القارئ الكريم أنه من الأوْلى ألاّ نكتب عن الصالحين والعلماء، فنترك أحوالهم مستورة مجهولة. فليعلم أن هذه الكتابة مطلوبة،  ولها مقاصد متعددة، هذه بعضها:
1- اقتداءً بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية، فهما يحتويان على قصص كثيرة للأنبياء والصالحين الذين عاشوا قبلنا، كأهل الكهف والخضر وذي القرنين وذي الكفل..
2- للتأسّي بهم، فهم قدوة لنا، وحياتهم الطيبة مثال يُحتذى. وكما يوجد أهل الشر ولبعضهم صيت وانتشار.. كذلك ينبغي أن نشهّر أهل الخير حتى يحصل الإيناس بهم والاقتداء بهم.
3- لأن من حكمة الله سبحانه أن يُعرّف ببعض عباده الأخفياء. إذ الصالحون -كما قال علماؤنا- على أصناف: فمنهم من شهّره الله ابتداء وانتهاءً (كالجنيد والشاذلي)، ومنهم من أخفاه الله في بدايته ثم شهّره في نهايته أو بعد موته (كعبد السلام بن مشيش)، ومنهم من شهّره في بدايته ثم أخفاه (ككثير من الأولياء الذي غابوا وانقطعت أخبارهم تماما حتى بحياتهم)، ومنهم من أخفاه في بدايته ونهايته فلا سبيل لمعرفته. وكلّ هذا تدبير من الله، وما العباد إلاّ خدم يسخرهم سبحانه لما يشاء.
4- وقد يُحب الله عبدا فيريد أن يرفع شأنه بين الناس، رغم أن العبد يكون في غاية التواضع والخمول تعظيما للربّ، فيشهّره الله كما قال عن نبيه عليه السلام: (ورفعنا لك ذكرك).
وأكبر ظني أن الأستاذ محمد المتوفى في الصيف الماضي من هؤلاء الذين أخفاهم الله في حياتهم، ثم إنه سبحانه أراد له الظهور الآن إكراما له، ونفعاً للناس. فكأننا مسخَّرون لهذه الغاية بكتابة هذه المقالات عنه ونشرها.
بدء أمره:
ولد الأستاذ محمد بفاس سنة 1942، وبها درس حيث تخرّج من ثانوية مولاي إدريس، ثم اشتغل بمُقتصِديّة الحي الجامعي بجامعة فاس، ظهر المهراز، بدءً من سنة 1961، وتدرّج فيها حتى شغل منصب رئيس الشؤون الاقتصادية لمدة طويلة، قبل أن يتقاعد عن العمل سنة 2003.
وفي سنة 1972 تزوج بالسيدة الفاضلة سعاد الحبابي (نسبة لجبل الحبيب التابع حاليا لتطوان) متّعها الله بالصحة والعافية، وهي من بيت علم ورئاسة، وشرفٍ وديانة، وأخوالُها من شرفاء وزّان، من ذرية الشيخ المربي مولاي التهامي بن محمد، فهي حفيدته، كما كان والدها رحمه الله خليفة ثم قائدا بفاس في الأربعينيات. فكانت نِعم المرأة، كثيرة الاعتمار، ورزقها الله سبحانه صبرا  على استقبال الضيوف والقيام بشؤونهم، إذ كان بيت زوجها دوما عامرا بالضيوف من داخل المغرب وخارجه.
وقد ترك المرحوم منها ذُرية هم: يوسف وحليمة وغيثة، ذرية طيبة بعضها من بعض. كما كان للأستاذ أخوان أطال الله عمرهما وبارك فيهما: السيد عبد الحي، والسيدة الفاضلة آسية. كل هؤلاء أخيار كرام، والناس معادن، خيارُهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقُهوا، كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذن كما رأينا في المقالات السابقة كانت بيئة المرحوم، سواء الأسرية أو المَدينِية، بيئة  تديّن وصلاح من قديم. وقد عاش صاحبنا رضي الله عنه طيلة حياته بفاس. وهنا نسجّل ملاحظة تاريخية واجتماعية، وهي أن الولاية ظاهرة مَدينِية أكثر منها قروية، خلاف ما يرى بعض المؤرخين العرب والأجانب. لذلك يقرر الشيخ الدباغ في كتابه الإبريز أن موطن الأولياء الكبار بالأمصار والمدن الكبيرة، أي في الغالب.
 ثم حدث للأستاذ في أواخر العشرينيات من عمره: جَذبة، أي صحوة وانتباه من الغفلة، لأن الطريق إلى الله تعالى يكون -عند علمائنا في التربية والتصوف- بأحد أمرين: إما بسلوك، بمعنى أن المرء يجتهد في العبادة والذِّكر فيترقّى شيئا فشيئا في مدارج الإيمان والكمال؛ وإما أن الله سبحانه يجذِبه إليه، بلا اختيار من العبد، فينَبِّهه ويُرقيه.. وكلاهما جيد، ويوصل إلى غاية واحدة تسمى: الفَتح، أي معرفة الله معرفة قلبية وروحية، وليس مجرد المعرفة العقلية التي يتحدث عنها علماؤنا في العقائد والكلام. لكن طريقة الجذب أفضل لأنها من الربّ ومِن فِعله المباشر، فهي من باب الفضل المحض، لهذا كانت سريعة توصل إلى الغاية دون كبير عناء، لذا قال الشيخ الفقيه الدردير في منظومته في الأسماء الحسنى: ومُـنَّ عـلينا يا ودود بـجذبةٍ~ بهـا نلحَق الأقـوام مَـنْ سارَ قَبلنا.
وهذا الجذب يكون أحيانا مباغتا بلا سبب، وأحيانا يبتلي الله عبدَه بأمر ما يكون دافعا له للسلوك إليه، كضيقٍ في العيش أو مرض أو وفاة قريب أو مَنع ما.. ونحو ذلك من فنون الابتلاءات.
والذي يظهر من حديثي مع المرحوم أنه سلك بطريقة الجذب إثرَ سبب، لذلك مرّ في هذه السنين الأخيرة في الستينيات وببداية السبعينيات بتجربة روحية صعبة وعنيفة ومتقلّبة، وفيها وقعت له حادثة سير ظل يعاني من بعض آثارها طيلة حياته.
لفهم هذه "الأزمة" الداخلية التي مرّ بها يمكن للقارئ أن يقرأ السيرة الفكرية والروحية الرائعة لأبي حامد الغزالي التي بسطها في كتابه "المنقذ من الضلال"، خاصة في أواخره، وفيها يشرح الغزالي كيف عافت نفسه الدنيا وعجز عن التدريس وانقطع عن الأكل..الخ.. حتى أشرف على الموت.. فكثير من الصالحين مرّوا بمرحلة مّـا من القلق والاضطراب بحثا عن الحقيقة وشوقا لها.. ثم يتداركهم الله برحمته
والذي لا يعرفه معظم  الناس أن الجذب إرادة إلهية لا دخل للعبد فيه، أي لا يكون باختياره، فالجذب اصطفاء، لذا لا يمكن لوْم أحدٍ على ما لا يَدَ له فيه.
شخصيته:
وكانت طبيعة الأستاذ مزيجا عجيبا من الليونة وخفض الجناح وبين القوة  ومتانة الشخصية. ولهذا أسباب، الأول قد يكون هو الطبع، أي طبعه كان كذلك. والثاني هو العمل المهني، فقد كان مسؤولا بحكم وظيفته عن 150 موظفا وعاملا بالحي الجامعي بفاس، فيدير شؤون المأوى والمطعم لالآف الطلاب.. وهذا عمل يومي صعب لا يمكن إلاّ أن يترك آثاره في شخصية صاحبه، فتكون فيها صلابة. والثالث هو أن مشربه الصوفي -كما سيأتي في مقال لاحق- جلالي، وليس جماليا.. وهذا مَشرب صعب، يجعل صاحبَه في عذاب عَذْب دائم، لذلك عانى صاحبنا في صمت وصبر، وهذا لا يمكن للناس -حتى الأقربين- الشعور به لأنّها حياة باطنية.. فانعكس كل ذلك عليه، فكانت له هيبة في النفوس ورفعة.
أما الدنيا فقد أهانها صاحبنا إهانة بليغة، وعامَلها بما تستحق، فلم يكن يلقي لها بالا ولا همّا، أو بتعبير بعض مؤرخي الأولياء في حضارتنا: كان لا يعرف تدبير الدنيا.
لذلك من الأشياء الجميلة في حياته أنه جمعته بصديقيْه بفاس: الأستاذ حسن ميكو والحاج محمد بن عبد السلام المصباحي (الأول في يسار الصورة والثاني بوسطها والأستاذ باليمين) صداقة عميقة ومستقرة لمدة عشرات السنين، وكانت أخوة في الله ولوجهه الكريم، لا مصالح فيها ولا مآرب، فتحابّوا في الله وتعاونوا. وقد ساعداه هذان الرجلان الطيبان الفاضلان على التفرغ لما هو فيه، فكفياه كثيرا من شؤون الحياة اليومية ومشاغلها.. جعل الله ذلك في ميزان حسناتهما ولطف بهما وبأُسَرهما دنيا وأخرى.
يتبع..




هناك 5 تعليقات:

  1. الأستاذ إلياس بلكا السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد هنيئا لك عن أسلوبك الرائع في الكتابة والتحدي في الاستمرار بقرارأتك في الموضوع وبكل حذر وتنسيق وتسلسل في الأحداث وتبريرات وكأنك تعاند أحدا ما أو كأنك تقارع بالقلم ، فأنت حر يا أخي قل حتى أنه غدا العيد من يمنعك، بدون تلميح. أما عن الحاج محمد بنبراهيم الأنصاري الدكالي رحمه الله فعبادته كانت لله تعالى وليست من أجل أن يعرفه الناس متعبدا فالعبادة لله واجب حتمي في وجود الإنسان والعبادة والتعبد درجات وهي بين العبد وربه ليست من أجل الشهرة بين الناس، وحبدا لو كتبت عنه شيئا في حياته لترى ردة فعله، فأنا أعرفه جد المعرفة زيادة عن قرابته معه العائلية كانت لي صلة به روحية، فرحمة الله عليه وعلى والدينا وجميع أموات المسلمين

    ردحذف
  2. ولماذا الموافقة عن التعليق فالتعليق حر أيها الأحرار

    ردحذف
  3. بنبراهيم انصاري عاءشة26 فبراير 2017 في 1:58 م

    رحمك الله يا عمي العزيز واسكنك فسيح جناته.

    ردحذف
  4. بنبراهيم انصاري عاءشة26 فبراير 2017 في 2:03 م

    رحمك الله ياعمي العزيز واسكنك فسيح جناته.

    ردحذف
  5. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أهلا بكم الأستاذ أحمد. شكرا على إطرائك على أسلوبي في الكتابة بارك الله فيك. وبالنسبة لموضوع الكتابة الدينية في الصحافة، هذه والله مشكلة تحيّرتُ فيها حتى استشرت بعض الناس لأنه فعلا أحيانا الجرائد تُداس، لذلك كما لاحظتم بأنفسكم ربما ينبغي نشر بعض الأمور في كتب لا مقالات صحفية. وأذكر حين استشرتُ أحد الصالحين قال لي إن الشيخ العلاوي رحمه الله نشر بعض إنتاجه في صحيفة.. والله أعلم. بالنسبة لموضوع كشف مستور الحاج رحمه الله، قد أكون مخطئا، والله أعلم، فأنا مجتهد وأسأل الله أن يهديني ويغفر لي إن أخطأتُ في هذا النشر ويصفح عني. والأخطاء الواردة في المقالات هي كما ذكرتم، لذلك بإذن الله في المستقبل لابد أن أتصل بكم -إذا لم يكن عندكم مانع- لتصحيح بعض المعلومات.. إذ لم يكن عملي في جمع المعلومات سهلا. جزاكم الله خيرا على نصيحتكم وغيرتكم، وبارك فيكم ووفقكم.

    ردحذف