الولي العابد:      محمد بنبراهيم أنصاري (8):
من ملامح تصوفه.
تأليف: إلياس بلكا.
وصلنا إلى
آخر المقالات عن أستاذي الكبير وصديقي
العزيز، الرجل الطيب المؤمن: محمد
بنبراهيم. وحتى يأخذ القارئ الكريم نصيبَه من الأستاذ وإِرْثه، ألخص له أبرز ملامح تصوفه وتنسّكه:
1-
ترك ما لا يعني:
  أول ما تعلمتُ منه الاشتغال بما يعنيه وترك الفضول من الأفعال والأقوال، فقد كان تجسيدا حيّا لحديث الرسول الكريم: من حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يَعنيه. كان يعرف غايته –التي هي الله- فلا ينشغِـل عنها  بشيء، لا بمُهِمات الأمور ولا بِسفاسفها.
لذلك تعلمت من صمتِه وتأمله أكثر ممّا تعلمت من كلامه، إذ كان يكره القيل والقال، وكان حريصا
على وقته، يؤسفه إذا ضاع في غير طاعة؛ وقد قال الشافعي:
"صحبتُ الصوفية فما انتفعت منهم إلا
بكلمتين، سمعتهم يقولون: الوقت سيف فإن قطعته وإلاّ قطعك. ونفسك إن لم تُشغِلها بالحق،
وإلا شغلتك بالباطل." 
2- الزهــد:
وقد درستُ موضوع الزهد في شبابي، وذلك ضمن
كتابي "الاحتياط: من أصول الشريعة"، وانتهيتُ إلى أن أفضل ما عُرّف به وفُرق عن الورع هو كلام ابن تيمية: "الورَع تركُ ما تخافُ ضررَه في الآخرة، والزهد ترك ما لا ينفعُـك في الآخرة".
 هذا زهد الأستاذ محمد، فقد كان رحمه الله زاهدا في الدنيا، لا يُلقي لها بالا، ولا يجمع لها مالا ولا هَمّاً. فلم يبِعْ ولم يشتر، ولم يَهدم ولم يبنِ، وإذا فعل فعلى
وجه الندور وبِغيره.
ولا يعني الزهد الفقرَ بالضرورة، ولا لباس الرثّ من الثياب وأكل الخشن من الطعام..  بل الزهد من أعمال القلوب، إذ للقلب وِجهة واحدة، فمَهما توجّه إلى الله تعالى انشغل به عن غيره، والعكس صحيح. وقد كانت تُـعجبني أناقة الأستاذ محمد وذوقه في الملبس والمظهر، ثم عرفتُ أن ذلك ليس مِنه، بل بعناية زوجتـِه الكريمة. 
ومن زهده أن الناس إذا خاضوا في الحديث عن حياتهم وعن الدنيا وشؤونها..  يُقلّـل الكلام، فإن تكلم فمسايرةً منه لهم ومجاملة.. ثم إذا ذكر أحدُهم الله والآخرة أو الدين والولاية.. فإذا بصدره يـَنشرِح وبأساريرِه تنْفرِج، فيَحلو له الحديثُ آنئذٍ ويطيب.
وكان عفيفا، حتى إنه لا يقبل حتى
الهدية: لا هدايا المُحبين ولا غيرهم، لا هديةَ سببٍ ولا هدية المحبة الخالصة بلا
سبب.. لكنه يضطر لقبولها إذا أحرجه بعضهم بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقبل
الهدية؛ فيأخذها
حينئذ لكنه لا يفتحها، وقد أهدى له أحدهم مرّة شيئا وغلـّفه في
صندوق، فبقي عند الأستاذ زمانا ولم يفتحه، ثم ذهب لمناسبة فأعطاهم ذلك الصندوق هديةً، ففتحوه وتعجبوا إذ وجدوا فيه مالا كثيرا..
3- بين
جلال وجمال:
وكان حاله يتقلّبُ بين جلال وجمال، فربما انبسط وفرح، لكنه في الأكثر صامت هادئ.. والغالب عليه هو استشعار الجلال ومشاهدة العظمة والكبرياء؛ وكنت أُميّز حالة الجلال إذا اعْتَرتْهُ حين يَكتسي وجهُه طابَعا من الجدّية والجمود. وأخبرني بنفسه أنّه في بداية أمره كان جلالِيّا، وقاسى الأهوال العظام في الطريق. 
وظني أن
هذا الجلال الذي ملأ قلبه استمرّ معه، وأنه مقامه، وهو سبب ما كان يظهر منه أحيانا
من انزعاج في أخريات أيامه، كما هو مشهور عن أولياء كبار عند اقتراب موتهم. 
وكلّ وليّ يذوق من الجلال والجمال، ولابدّ، لكن أحدهما يكون غالِبا عليه.. فالجلال يُثمر الرهبة والأدب، والجمال يثمِر الرجاء والبسط. وللعلماء كلام طويل في المفاضلة بينهما، وأكثرهم على أنّ غلبة الجلال في هذه الدار الدنيا الفانية أفضل وأعْلى للعبد، لأن الجمال هو الغالب في الدار الأخرى الباقية.
4-  الأدب:
 وحين يتنوّر القلب بالجلال تَسري آثارُه في السالك، فتتَعلّمُ الأدب وتتَشَرّبُه ذاته بجميع  ذراتها وأجزائها.. فينعكس ذلك في تأدبّه مع الله، فكأنه يراه أو يعلم أن الله يراه، فلا يكاد يصدر من هذا العبد ذنب أو سوء أدب، كما بالحديث المشهور: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك.
وقد صدرت من الأستاذ جُملةٌ من كلمات معدودات  -من سنوات طويلة جدا ربما فاقت العشرين- واعتبرها تَخرِم الأدب، فكان لا يزال نادما متأسفا، رغم أنها جملة عفوية ولا شيء فيها في الظاهر، خاصة عندنا معاشر المحجوبين، لكن التأدّب البالغ للأستاذ في الحضرة الإلهية صيّره بالغَ الحساسيّة شديد المراقبة لأحواله الظاهرة والباطنة.
ومن أحسن ما قيل في تعريف التصوف: إنه الأدب  (مع الخالِق ومع الخلـْق)،  فمن زاد عليك في الأدب زاد عليك في التصوف. وقيل: هو مراقبة الأحوال ولزوم الأدب. قال أبو حفص: "التصوف كله آداب، لكلّ وقتٍ واجب، ولكل مقام أدبٌ، فمن لزِم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال، ومن ضيّع الآداب فهو بعيد من حيث يَظن القُرب، ومردود من حيث يرجو القـَبول."
وقد كان الأستاذ فائق الأدب، لا يدّعي مقاما
ولا حالا ولا علما.. ويفوض أمره كله لله.. ولا يحرص ولا يجزع.. ما رأيت مثله في
جمال الرضا وكمال التسليم للقضا. 
5-  بين
الحضرتين الإلهية
والمحمدية: 
والأولياء قسمان: فيهم مَن الغالبُ عليه الحضرة الإلهيةُ، وفيهم من الغالب عليه الحضرةُ المحمدية..  مع كون الجميع  يستفيد من الحضرتين معا ولابد، لكن الاعتبار للأغلب. لذلك عندما زار الشيخُ العلاوي المستغانمي الشامَ في الثلاثينات وتعرّف على الشيخ يوسف النبهاني -المشهور بمدح النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم والتأليف فيه وفي شمائله..- قال الشيخ العلاوي: أردنا أن ننقل سيدي يوسف من الحضرة المحمدية الى الحضرة القدسية، فوجدناهُ مُـتشبِّثا في الحضرة المحمدية، فثبَّتْناه فيها.
والغالب على الأستاذ محمد هو الحضرة الإلهية، والله أعلم.
6-  الذكر:
حال الأستاذ محمد حال الذاكِر لا يفتر، وكان يحضّ على الذكر ويوضح أنه العمدة في الطريق، ويكرّر كثيرا جملة من إنشائه هي: "واذكر ربك حتى يأتيك اليقين".. وهذا متفق عليه بين القوم، فإن أبا علي الدقاق رضى الله عنه كان يقول: "الذكر مَنشور الولاية، فمن وُفق للذّكر فقد أُعطيَ المنشور، ومن سُلب الذكر فقدْ عُزل."  قال الشعراني في شرحه: "أيْ مرسوم مِن الله للعبد بالولاية، كمراسيم ملوك الدنيا بالوظائف، ولله المثل الأعلى. فمن وفِّق لدَوام ذكرِ الله فقد أعطي المرسوم بأنه وليُّ الله جل وعلا، ومن يُسلَب عن الذكر فقد عُزل عن الولاية."
7- صدقُـه في
العبودية لله:
 كان رحمه الله آية في صدق الطلب،
أراد وجه الله وحده، وزهد في غيره من أنواع الحظوظ.. ربما هذه الخصلة هي أشدّ ما
جذبني إليه، بل هي أكبر درس تعلمته منه. فقد كان على خطى السلف من العُـباد والزهاد الصادقين، حريصا على إخفاء أحواله، لا يرى نفسه في شيء صغير أو كبير، بل يتهمها ولا يُـزكيها أبدا.. 
والصدق
سُلم الولاية وأساس السلوك، لذلك كان من علامات ولايته أنني أقارن كلامه -على بساطته الظاهرية-  بما أعرفه من كلام الكبار أمثال الجيلاني والشاذلي وابن عطاء الله والدرقاوي.. فأجده مطابقا، معهم كلهم، أو -على الأقل- مع بعضهم، ما يدلّ على
صحّة سلوكه وسلامة سيره. 
خاتمة
وبداية:
لم يكتب الأستاذ شيئا لأنه كان مُقبلا بكليًّته على الله سبحانه، لكنه ترك مجموعة أوراد هي عُمدته في عُمره وسفرِه إلى ربّه سبحانه؛ وأنوي بحول الله إصدارها في كتاب مستقل، بعد استئذان أسرته الكريمة، لكن ذلك يحتاج لجهد وعمل بالتحقيق
والتعليق حتى يكون الإصدار مناسبا ولائقا بذكرى الوليّ الصالح. ولم أستطع لحدّ الآن أن أجد أصول أكثر
الأوراد المذكورة، ويبدو أن بعضها كان يُتناقل شفويا عند صوفية المغرب في القرون
الأخيرة.
 أطلب من كل أحد يعرف عن المرحوم شيئا أن يخبرني به، وله أفضل الجزاء من الله بإذنه، على بريدي: ilyassbelga@gmail.com  ، أو حساباتي بالفايسبوك والتويتر، أو إلى مدونتي: مدونة إلياس بلكا. وبالمناسبة جميع
مقالاتي السابقة عن الأستاذ بمدونتي المذكورة.
وقد توفي رحمه الله ورضي عنه وأسكنه عنده بعد فجر يوم الاثنين 7 رمضان 1437، موافق 13 يونيو 2016. وهو إن
شاء الله من ملوك الآخرة وكبارها، لكن مؤخرا حكى لي الحاج  المصباحي
-وهو صدوق- أمرا  خاصا استنتجتُ
منه أن روحه طليقة في العالم، ليست محبوسة. إذ الأرواح على أحوال شتى: بعضها حرّ يذهب أينما شاء في هذا
الوجود، لكن معظمها أسيرُ عالم البرزخ..  في
تفاصيل كثيرة راجعها في  كتاب
"الروح" لابن القيم.
وانظر في
أول "الإبريز"، ضمن ما كتبه الفقيه علي بن عبد الله الصباغي رحمه الله، قصةَ
القبور السبعة القديمة، وأنها كانت بمنزل بعض معارف الشيخ الدباغ، ولم يعرفوها
لقِدمها واندثارها، فاتخذوها مكانا لربط الخيل، فقال لهم الشيخ: لا بأس عليكم إلاّ
في القبر الفلاني، لأنه لوليّ مستور مات غريبا، فعليكم بعزله وتوقيره.. وفسّر لهم
السبب بأن روح هذا الولي مُسرّحة، وروح غيره محبوسة في البرزخ. 
لذلك لبعض الصدّيقين والصالحين حياة خاصة بعد "الموت" الذي
هو مجرّد تغيير حال، وليس عدما، وقِس ذلك على حياة الشهداء: (ولا تحسبن الذين قـُتلوا
في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون
بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله
وفضل، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين.)
وفي
الحلقات القادمة بإذن الله سنتعرّف على أكبر الشخصيات التي سلكت بسبب صاحبنا: الدكتور
الأمريكي، الفلسطيني الأصل: حسان اليعقوبي رحمه الله، والذي أسميه: الوليّ
المُدلل.
هكذا كانت هذه المقالات مجرّد لمحات عن حياة
الأستاذ محمد بنبراهيم، زينة فاس وفخرُها، وسيّدها وأميرُها... رحمه الله بأوسع رحمةٍ
وأجملِها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق