الجمعة، 17 مايو 2013

الباطنية في الماضي: سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (2).

أكتب  هنا عن بعض القضايا المهمة التي تحتاج إلى جهود الباحثين والمؤلفين، خاصة من جيل الشباب.. فهي قضايا مهمة بالنسبة لحاضر الأمة الإسلامية ومستقبلها، بل إن نهضتنا المنشودة تقوم جزئيا على الدراسة العميقة والجادة لهذه المشكلات وأمثالها، وتقديم الحلول المناسبة لها: حلول تراعي الدين وقواعده، دون أن تغفل عن العصر وطبيعته. واليوم مع الحلقة الثانية للسلسلة، وهي عن الباطنية.

سلسلة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (2).

الباطنية في الماضي (1).  

                                        تأليف : إلياس بلكـا

اليوم نتعرّف على حقل معرفي جديد لا يجدر بالفكر الإسلامي المعاصر أن يتجاهله، ولا بالباحثين الشباب أن يهملوه تمام الإهمال. بل المفروض أن ندرسه ونخصه ببعض البحوث ونُقدم النتائج العلمية والعملية  لجماعات العلماء والدارسين، وأصحاب القرار بأنواعه.. ولسائر الأمة.. ذاكم هو حقل الباطنية. لكن قبل ذلك لابد أن نتعرف على الباطنية: ما هي؟

الباطنية مجال واسع من مجالات النشاط الإنساني، الفكري والروحي، ولا يمكن بحال أن نحيط هنا بقضايا هذا المجال وما فيه من إشكالات وما يحيل عليه من التاريخ الفكري والديني لشعوب مختلفة، في قرون متطاولة. فالباطنية اليوم تخصص مستقل. ولذلك فإنني سأحاول فقط أن أقدم للقارئ فكرة عامة عن هذا الميدان، حتى يكون على بينة منه ومن أثره الممتد إلى يومنا هذا.

      و"الباطنية" لفظ عام يشمل اتجاهات وأفكارا وتصورات متنوعة، وتلتقي فيه ظواهر متعددة هي بمثابة الجداول التي تكون نهرا كبيرا. ولذلك فإن أهم ما ينبغي أن يستصحبه القارئ طوال قراءته لهذا المقال وللذي بعده  هو أن الباطنية ليست مجالا دراسيا واضح المعالم، أو حقلا معرفيا محدد القسمات، بل هو بالأساس- أسلوب في التفكير، وشكل من أشكال النظر في الوجود.

بعض أهم فروع الباطنية وروافدهـا:

      وهي كثيرة، أذكر منها باختصار، قاصدا إلى مجرد التنبيـه :

1-الفيثاغورية: وأساسها الفلسفي هو أن الأرقام تمثل روح الأشياء، وهي لغة الكون، وجميع ما هو كائن أو يكون أمر مرتبط بالأرقام على اختلافها فالرقم 3 مثلا يمثل الزواج، والرقم 4 هو العدالة وتوجد أرقام متحابة، وأخرى متباغضة إلى غير ذلك من "باطنية رياضية". وللمسيحيين الذين درسوا الفيثاغورية أعاجيب في رد كل شيء إلى رقم 3، الذي "يقدسونه" لدلالته على التثليت.

2- التصوف العام :  وأعني به النشاط الروحي الداخلي والمتنوع الذي نجده عند شعوب وأديان شتى. وقد سميتُ هذا النشاط بالتصوف العام، في غياب اصطلاح أدق، ولا حاجة إلى التنبيه على الفروق الجوهرية بين أنواع التصوف هذه، فالتصوف البوذي يختلف عن التصوف المسيحي، وهو بدوره يختلف عن التصوف الإسلامي، خصوصا الذي تواطأ الباحثون على تسميته بالسني. والقاعدة تقتضي دائما أن يتعامل القارئ مع المصطلحات العامة بشيء من الحذر، لأنها مظنة للغلط والوهم.

المقصود أن هذا من مصادر الباطنية، بل هما مجالان متداخلان جدا، ولذلك يجهد المختصون في التمييز بينهما.

وأكثر ما يوجد هذا التداخل في نوع خاص من التصوف عرف بالغرب خاصة ، يمكن أن نسميه بـ: التصوف التأملي أو الإشراقي، و الذي يعتمد على التخيل والرمز، و يحاول أن يغوص في أسرار الغيب و الكون أعنى ذاك الذي يسمونه بـ: Théosophie.

3- الهرمسية: يقصد بهرمس شيئان : هرمس الإله، الذي تعرفه الأسطورة اليونانية. وهرمس الحكيم الإنسان الذي تنسب إليه مجموعة شتى من العلوم والمعارف تشكل ما يسمى بـ: المدونة الهرمسية. وهي كتابات ونصوص يونانية وضعت في بداية الألفية الأولى للميلاد.

4 الغنوص والغنوصية : الغنوص معرفة متعالية على سائر المعارف الأخرى، فهي قد تستخدمها، لكنها تتعالى عنها. وموضوع هذه المعرفة هو أسرار "العالم الغيبي"، والكائنات السماوية، وإدراك العلاقات غير الظاهرة بين مختلف مستويات الوجود ( مثلا بين الخالق والإنسان والعالم )، فالغنوص هي هذه المعرفة بالذات، والتي تضمن لصاحبها سبيل الخلاص، حيث لا فرق بين الإيمان والمعرفة، فأن تعرف معناه أن تؤمن، وهنا يحتل الجهد الأخلاقي والعملي مكانة ثانوية.

فكأن الغنوص نوع من الإرجاء الذي نعرفه في علم الكلام الإسلامي، أو لنقل كأن الإرجاء نفسه شكل من الغنوص القديم.

ثم ظهر ضمن عالم الغنوص تيار متميز، هو الغنوصية. وقد نشأ في القرون الأولى للمسيحية، وكانت له فكرة خاصة عن الغنوص.. هذه المعرفة التي تكفل لصاحبها الخلاص، وهي فكرة قائمة على رفض العالم الحالي باعتباره سيئا تماما، ومحكوما بقوى الشر    .

5 القبلانيـة :  هذه الكلمة أصلها عبري، وتعني اليوم مجموع المعتقدات والأفكار الباطنية والصوفية والرمزية لليهود.  فهو خليط من الاتجاهات والتيارات التي يجمع بينها طابع من الخفاء والغنـوص..

والباطنية الحديثة تستفيد من كل هذه الروافد وترجع إليها، وإلى غيرها أيضا، مثل: الرواقية، والفكر المسيحي لبعض الرواد، خصوصا كليمون الإسكندري وأورجينوس، وكذا بعض مدارس الفكر الإسلامي ورجاله. 

من خصائص الفكر الباطنـي:

      الباطنية طريقة خاصة في النظر إلى الأشياء، ولذلك تنفرد ببعض الأساليب التي تميزها عن المعرفة العادية، منهـا :

1-التناسب والتقابل، الرمزي والحقيقي، بين جميع أجزاء الكون- المنظور وغير المنظور-، فهي ترتبط فيما بينها بروابط خفية لكنها قابلة للاكتشاف. كما ترتبط المعادن السبعة بالكواكب السبعة، وأطراف جسد الإنسان بالنجوم وهذه الفكرة لخصها الشاعر بقوله يخاطب الإنسان:

وتزعم أنك جرم صغير ***   وفيك انطوى العالم الأكبـر

2- الطبيعة من حولنا أشياء وروابط.. تحمل كلها معاني خاصة يمكن لنا قراءتها.. ولمكوناتها المتنوعة تراتبية وحيـاة.

3 وللخيال في الفكر الباطني نشاط مركزي، فهو الذي يكشف عن أنواع التناسبات في الموجودات، وبه نتعرف على الوساطات بين العالم الغيبي والطبيعة.. فالخيال أداة معرفة الذات والعالم، بطريق الإشراق. وتدين الباطنية الغربية  بهذا الأسلوب الفعال- أي الخيال- إلى المسلميـن.

4 التحول والانقلاب. هذه اللفظة المستفادة من الكيمياء الخفية تعني عدم الفصل بين المعرفة الغنوصية وبين التجربة الداخلية القائمة على المخيلة بالأساس. وهذا شرط لإحداث التحول المطلوب في الذات والعالـم.

5- إن لجميع الأديان والمذاهب الاعتقادية جذعا مشتركا تتوافق عليه وتتواطأ، وهذا يفرض أن نتسامح مع كل الاتجاهات المذهبية، بما أن روحها واحـد.  

6 يتم نقل المعرفة الباطنية من جيل إلى جيل بطرق معينة ومحددة من قديم، قائمة على علاقة تربط بين الأستاذ وتلميذه.

هذه الخصائص لاتقدم لنا الباطنية كما هي في الواقع، بل هي تقرب إلينا صورة عالم هلامي الشكل، حدوده ومضامينه متنوعة ومضطربة.

وليس ضروريا أن تتحقق هذه الخصائص كلها في نسق من الأفكار والرؤى حتى نعتبره باطنيا، بل يكفي بعضها.

أمثلـة :

* كان المذهب الإسماعيلي في التاريخ الإسلامي أهم من احتضن الفكر الباطني واعتنى به، ولذلك كانت كلمة "الباطنية" تكاد تعني هذا المذهب، خصوصا في العصر العباسي الأول، وهو الذي يقصده الغزالي بكتابه "فضائح الباطنية"، المعروف أيضا بالمستظهري.

وقد عقد الغزالي فصلا لتأويلات الباطنية للظواهر، وذكر استدلالهم بالأعداد والحروف ونسبتهم إليها دلالات خاصة ومما قال : " هذا فن من الجهالة اختصت به هذه الفرقة من بين الفرق. فإن طوائف الضلال مع انشعاب كلامهم وانتشار طرقهم في نظم الشبهات لم تتلطخ منهم بهذا الجنس واستركوها(أي وجدوها ركيكة) فقد قالوا إن الثقب على رأس الآدمي سبعة، والسماوات سبعة، والأرضون سبع، والنجوم سبعة، أعني السيارة، وأيام الأسبوع سبعة. فهذا يدل على أن دور الأئمة يتم بسبعة وأن فصول السنة أربعة، فهذا يدل على الأصول الأربعة وزعموا أن البروج اثنا عشر، فتدل على الحجج الاثني عشر (وقالوا) الآدمي على شكل حروف محمد، فإن رأسه كالميم ورجلاه ويداه مبسوطتان كالحاء والفصول السبعة تدل من الروحانيات على الأنبياء السبعة، ومن الجسمانيات على الكواكب السبعة  وهكذا تصرفوا في قول محمد رسول الله، وفي الحروف، وفي أوائل السور وأبرزوا ضروبا من الحماقات تضحك المجانين فضلا عن العقلاء".

    *  يتكون الإنسان من ثلاثة أشياء رئيسيـة :

1- الجسم المادي، وأصله الأرض.

2-  الجسم النجيمي (أو الأثير)، وأصله الطبيعة.

3-  الـروح.

الجسم النجيمي هو "جسم" وسيط يربط بين الجسد المادي والروح، وتأثيرات النجوم في الإنسان تتم عبره. وهذا الشيء الوسيط يبعث أيضا إشعاعا، بسببه نتحرك في العالم بكل حرية، ونتجاوز حدود الزمان والمكان.

وكل هذا يفسر أشياء مما يحدث في الواقع، ولا نعرف علتـه :

      أ توجد ظاهرة يعرفها كل أحد، فنحن أحيانا نذكر أحدا غائبا عنا، ثم فجأة يظهر ويقف أمامنا.. ذلك، لأننا أبصرناه في عالم الأثير أو الأجسام النجيمية.

      ب كثيرا ما تقع بعض الاختراعات أو الاكتشافات في زمن واحد، ومن أشخاص لايعرف بعضهم بعضا، وربما تفصل بينهم مسافات طويلة. إننا حين نفكر ونصل إلى بعض الأفكار والآراء، فإنها لا تبقى أسيرة لرؤوسنا فقط، بل تخرج إلى عالم الأجسام النجيمية أو الكوكبية، تسبح في فضائه الواسع، وتزور ناسا كثرا، أي أن أفكارنا تنتقل في الفضاء الذي يزدحم بهـا.

* ويقرر الباطنيون جملة هائلة من أنواع التشابه بين الإنسان- في روحه وجسده-، وبين العالم: النبات والمعادن، والشموس والكواكب بحيث كأن الخلق كله تم على صورة واحدة. ويذكر المحدَثون منهم كالفرنسي بابوس أشياء جديدة، كالتشابه بين الكريات الحمراء في دم الإنسان- مع المجموعة الشمسية .. وكالتقابل الواضح بين عالم الذرة- بنواتها والإلكترونات الدائرة حولها-، وبين الشمس وكواكبها..                                                          يتبع..

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق