الاثنين، 27 مايو 2013

الباطنيـة في القرن الحادي والعشريـن: سلسة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (3).


سلسة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (3).

الباطنيـة في القرن الحادي  والعشريـن (2):
إلياس بلكا

      الباطنية مذهبية قائمة. ويخطئ من يظن أنها من الماضي الذي لا يعود بل هي من الماضي الذي لم يعد، لأنه ما انقطع يوما حتى يعود، فقد كان ولايزال، وسيستمر في المستقبل المتوسط على الأقل. وقد تعرفنا على بعض هذه الظاهرة في الماضي، وكان ذلك تمهيدا للتعرف على بعض ملامحها اليوم.

في العالم الإسـلامي:

ما زالت الباطنية وتعاليمها حية في بعض ديار المسلمين، وذلك بطريقين :

      الأول :  التشيع، تقريبا بكل فروعه، لكن الفرقة الشيعية الباطنية بامتياز، والتي عرفت بتاريخنا الإسلامي باسم الباطنية، هي الإسماعيلية ، أتباع إسماعيل بن جعفر الصادق. وذلك أن جعفرا- رحمه الله تعالى ترك أولادا، كان إسماعيل أكبرهم، وكان الشيعة يحسبون أنه هو الإمام بعد وفاة أبيه، لكن الذي حدث أن إسماعيل توفي في حياة جعفر، ولذلك انقسم الشيعة إلى طائفتين رئيسيتين: الإسماعيلية ، وقالوا لا أثر لموت إسماعيل باكرا ما دام قد خلف ذرية؛ والإمامية، وهم الذين أبوا ذلك وساقوا الإمامة بعد جعفر إلى ابنه موسى الكاظـم.

      وقد كانت الإسماعيلية فرقة شديدة الميل إلى الأفكار الباطنية، وعلى المستوى السياسي كان أبرز إنجازاتها هو تأسيسها لما عرف بالدولة العبيدية بمصر.

      أما اليوم فيعدون أكثر قليلا من عشرة ملايين نسمة، يتوزعون على الهند- خصوصا بنيودلهي-، والباكستان، وأفغانستان وبريطانيا وأمريكا. وإمامهم هو كريم آغاخـان.

      الثـاني :  التصوف: أو بكلمة أدق بعض اتجاهات التصوف، خصوصا ذلك الذي اتخذ لنفسه منحى فلسفيا وإشراقيـا.

وقد عقد عبد القاهر البغدادي فصلا طويلا في طوائف الباطنية في التاريخ الإسلامي، وذلك في كـتابه : الفرق بين الفرق.

في أوربا:

      باراسيلس وإيمانويل سويدنبرغ ودي غويتا أهم الأسماء الأوربية في باطنية العصر الحديث. الأول  طبيب سويسري، اشتغل بالكيمياء الخفية، ووضع نظريته في الطب على أساس الفكرة الباطنية التي تقابل بين الكون والإنسان. توفي سنة 1541. والثاني عالم ومتصوف سويدي. اشتغل في البداية بالعلوم والرياضيات ، ثم قال إن المسيح قد "ظهر" له وأمره بتأسيس كنيسة جديدة، فبدأ الدعوة إلى أفكاره، خصوصا عن طريق الكتابة. توفي بلندن سنة 1772..

ثم نشأت بأوربا الإخفائية- وهي شكل عملي من الباطنية- في نهاية القرن التاسع عشر، باعتبارها رد فعل للدوغمائية الوضعية والمادية العلموية اللتان سيطرتا على أوربا في تلك الفتـرة.

      وكان من أهم رجالها ورموزها: بابوس، وبلافاتسكي صاحب كتاب "العقيدة السرية"، وإليفاس ليفي، وهو  راهب وكاتب فرنسي، استقال من وظائفه الكنسية، وتفرغ لأعمال الإخفائية والروحية الحديثة. من كتبه: كتاب الحب. إنجيل الحرية. أعمال الفلسفة الإخفائية. توفي سنة 1875.. ويعتبر كتاب فالنتان طومبير المتوفى سنة 1973: "تأملات في الاثنين والعشرين لغزا كبيرا للتاروت"، من أهم وأفضل كتب الباطنية المعاصرة.

      بعد الإخفائية ظهرت مدرسة باطنية هامة، وذلك في الثلاثينيات والأربعينيات، وهي مستمرة إلى اليوم. ومؤسسها هو روني كينو: فيلسوف فرنسي درس بعمق الباطنيات الهندية والمسيحية والإسلامية، وأسس مجلة "الغنوص". وهو الذي ميز الباطنية عن الميتافيزيقيا التقليدية، وبسط قواعدها وخصائصها، وكتب فيها مستفيدا من البوذية والهندوسية والطاوية والإسـلام.

      وقد انتهت رحلة التأمل والبحث بهذا الفيلسوف الفرنسي المميز إلى اعتناقه الإسلام سنة 1912، على يد الشيخ عبد الرحمن عليش، المعروف بعليش الكبير، من علماء مصـر. وتسمى بـ : عبد الواحد. توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة 1951.

      ويمكن أن نعتبر يحيى عبد الواحد- وهذا اسم روني كينو بعد إسلامه- شيخ الباطنية الأوربية المعاصرة، وذلك ليس فقط بسبب قيمة كتبه في هذا المجال، ومنها : أزمة العالم المعاصر. الميتافيزيقيا الشرقية. المدخل... بل أيضا لكثرة تلامذته وأهمية بعضهم في المجال الفكري والفلسفي.

     جماعات شبه باطنية:

      هذا عن الباطنية الصرفة. وتوجد بالغرب تيارات وجمعيات وكنائس كثيرة، ليست حركات باطنية خالصة، ولكنها تستلهم الفكر الباطني، وتتأثر به، فهو من مصادرها الاعتقادية والسلوكية. ومنهـا :

1- الماسونية :  وتعد بفرنسا مائة ألف عضو، وبأمريكا أربعة ملايين (وفق تقديرات 2002). ثم أخذت تركز  بعض جهودها لاسترجاع نفوذها بأوربا الشرقية، بعد انهيار الشيوعية بها، حيث وصلوا إلى اكتساب آلاف الأعضاء.

      2 جماعة "أوبوس داي"، أي "عمل الإله". وقد تأسست بإسبانيا في بداية الستينيات. لكنها اليوم تعرف بعض التراجع، فبعد أن كانت توجد بعشرات البلدان الغربية واللاتينية، أصبح لها وجود وانتشار فعليان في نحو اثني عشر بلدا. ومركزها الأهم هو إسبانيا، حيث كانت تسيطر- بصفة مباشرة وغير مباشرة- على نحو "خمس السلطة"، في الحكومة الثانية لرئيسها خوسي ماريا أثنار.. ولذلك فهذه الجماعة حاضرة وفاعلة في الحزب الشعبي الإسباني الحاكم.

      3 كنيسة التوحيد، أو طائفة مون، نسبة إلى المؤسس مون سان ميانغ. وقد ولد هذا الرجل بكوريا الشمالية سنة 1920، حيث "ظهر له" أثناء صلاته المسيح عليه السلام سنة 1936، وأخبره أن "المخلص الثاني" سيحل به، فمون يعتبر نفسه مثيلا للمسيح، واكتسب أنصارا كثيرين، باليابان والكوريتين، وروسيا، وأمريكا وأصبح لهذه الطائفة تأثير سياسي حقيقي في تلك المنطقة. وقد توفي مون في السنة الفارطة.

      والمقصود أن الباطنية حاضرة اليوم، وبقوة. ولذلك تأسست بالولايات المتحدة سنة 1980 "الأكاديمية الهرمسية"، المتخصصة في البحوث الباطنية.. وكانت تضم مائة وخمسين باحثا مختصا.

الباطنيـة والتنبؤ:

      لاتقنع الباطنية بالعالم الظاهر الذي نعرفه، ولذلك ترنو إلى عالم آخر، غائب عن أنظارنا، تريد أن تعرفه وتتصل أو تتحد بـه.

      ولهذا كان للغيبيات، على اختلاف أنواعها، وسواء كانت موهومة أو حقيقية وجود هام في الباطنيـة.

      لذلك تختلط في الباطنية أمور الغيب وقضايا التنبؤ به، وبالمستقبل خاصة، بالأفكار والمفاهيم الباطنية المحضـة.

      ولعل من أفضل الأمثلة لهذا الاختلاط بين الباطنية وأساليب التنبؤ بالمستقبل، وبالغيب عموما، كتاب "التاروت"، والذي يمثل كذلك أساسا لفرع باطني خاص. فهذا الكتاب هو في الوقت ذاته أداة للتنبؤ والتكهن، وفلسفة باطنية خاصـة.

      والباطنية- تاريخيا- هي إحدى أهم المجالات المعرفية والروحية التي احتضنت كثيرا من فنون التنبؤ بالمستقبل ورعتها واستعملتها، ودورها- من هذه الناحية- يشبه دور الكهانة في التاريخ قبل الميـلاد.

ختـامـا :

      تدل الباطنية واستمرارها إلى اليوم- على هذا النزوع البشري العميق نحو كل ما هو غيبي وخفي في الوجود، فالإنسان لايقنع بما هو ظاهر ورتيب، قد أنس به وتعود على قربه، ولذلك هو يحاول البحث عما وراء الظواهر، وعن المثال والمطلق. ولا شيء في الأفق المنظور يدل على انتهاء هذا النزوع الذي يشبه أن يكون فطرة في الإنسان.

    الخلاصة أنه لابد أن يوجد من بيننا من يتخصص في هذا الحقل. ولعلّ الكثيرين لم يكونوا  يعرفون مثلا أن جماعة الأبوس داي جماعة موجودة ولها تأثيرها، وأن كثيرا من وزراء حكومة أثنار الإسبانية التي كادت تشعل حربا في المنطقة  كانوا أعضاء فيها. أما الماسونية فجماعة باطنية دولية مثيرة للاهتمام.. والحديث عنها وعن أمثالها ذو شجون.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق