محمد العواودة
ما يزال سؤال مستقبل العقل العربي، يشكل أحد أهم الأسئلة الكبيرة التي تواجه منظري الفكر في البلاد العربية، منذ مطلع القرن المنصرم، بالتزامن مع بروز محاولات الريادة الأولى وجهودها الإصلاحية المميزة.
بكلمة، فإن تلك الجهود قد خلصت إلى أن تعبيد الطريق نحو مستقبل عربي مشرق، يجب أن يمر عبر بوابتين: الأولى، محاربة الماضوية والإرثية القبورية السلبية، والثانية عبور بوابة العقلانية الإيجابية والاستفادة من النماذج الناجحة بالموازاة مع هدي الوحي، وبهاتين البوابتين، ننفتح على العالم ونحافظ على خصوصيتنا ونحرر الإنسان العربي من الجهل والتخلف، والاستبداد بجميع أشكاله وألوانه.
ركّزت المحاولات الإصلاحية الأولى على المحور الديني، فالمجتمعات الإسلامية هي مجتمعات ذات بنية دينية محكمة، من السهل عليها أن تستسلم  للميتافيزيقا الخرافية في ظل تغييب البحث العقلاني والرؤية الدينية التأصيلية وانبساطها في ذلك الوجدان، ولهذا نجحت في استغلال هذه المجتمعات، لمساكنة سياسات البطش والاستبداد باسم الدين، وغدت المجتمعات الإسلامية كـ"غيتوهات" مغلقة عن حراك الحياة وتقدمها في العالم، وأصبح الإنسان العربي والمسلم شاهداً على التخلف والتراجع، في مقابل إنسان آخر ثائر عليه، يخطو خطوات واسعة نحو المستقبل ومواكبة حركة الحياة.
وبرغم مساهمات الإصلاحية الأولى في دفع العالم العربي نحو المستقبل، إلا أن الإفادة من هذه المحاولات أو البناء عليها، ما يزالان ضعيفين في واقعنا العربي، لأن الخطاب الإسلامي المغلق ما يزال يتسيد الموقف الفكري العربي، وما يزال ينظر إلى المستقبل كهاجس ميتافيزيقي بعيداً عن العلمية والتأصيل الشرعي الصحيح، وما يزال الإرث العقدي الراديكالي واستعادة أدوار بعض الفرق المنحرفة، يشكّلان أكبر المعوقات نحو الدراسة المستقبلية الجادة في الفكر العربي الإسلامي، التي تستشرف النص الديني في العمل العقلاني الحديث. 
من الدراسات الملفتة حول موضوع المستقبلية في الفكر العربي الإسلامي، دراسة بعنوان "استشراف المستقبل في الحديث النبوي" للدكتور إلياس بلكا (صدرت عن سلسلة كتاب الأمة) وهو يرى أن تأخّر العرب والمسلمين عن "علم المستقبلية" ومواكبة التقدم فيه، إنما ينبثق من سوء فهم الدين ودوره في سبك الحياة الراشدة التي أمر بها الشرع، لذلك فإن الكاتب ينطلق في دراسته من محور الإصلاح الديني، معتبراً أن المشوار يجب أن يبدأ من حيث انتهى دور الدين في الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي ...إلخ، وهو ما يتوافق مع مبادئ الرسالة الإسلامية، وشروط العصر، لدراسة المستقبل بالطرق العلمية الحديثة.
ركّزت الدراسة في سياقها التأصيلي على عمق اهتمام الرسالة الإسلامية بدراسات المستقبل والتنبؤ له، ليرى أن الحديث النبوي الشريف قد أصّل للمسألة تأصيلاً تاماً، ورفع البحث في المستقبل إلى قيمة حضارية كبرى، ودمجه في حياة الفرد والأمة والدولة، كبنية فكرية استراتيجية في شتى المجالات الحياتية، حيث يجب على المسلمين الاقتداء بهدي النبوة، ومقايسة أفكارهم بها، للانخراط في شروط التقدم العالمي، ومواجهة تحديات زمانهم، والاستحواذ على الدور الحضاري والنهضوي من جديد.
تكمن أهمية هذه الدراسة، في محاولتها القفز عن المألوف الديني الخاطئ، الذي ينظر إلى التنبؤ بالمستقبل والإعداد له في الإسلام، كساحة محظورة على الفكر الإسلامي، على اعتبار أنها مخالفة للأمر الشرعي، وعلى اعتقاد أنه علم يرتبط بعلم الغيب الإلهي الذي لا يختص به البشر، حيث أحاطه "التأثيميون" بشتى أنواع المخوّفات والمعقّبات، أو صوّروه على أنه تعالٍ على اختصاص الوحي، وإنكار للقدر الإلهي، مقابل آخرين من بني الإسلام ألبسوا علم المستقبلية لبوس الكهنوت الديني، وجعلوا لهم أئمة نواباً عن الوحي، يستمدون منهم الغيب، ويحددون بهم مصائر العباد، فألفوا العديد من كتب الغيب ونسبوها لهؤلاء الأئمة، جنوحاً إلى المذاهب العرفانية، وسقوطاً في الغنوصية القديمة، فنزلوا منزلاً ما كان لهم أن ينزلوه بعد هدي الإسلام.
لذلك، ترى الدراسة أن بداية الهداية يجب أن تتمثل بالمفاصلة بين أحاديث الرسول عليه السلام وأفعاله التي ترتبط بعالم الغيب، بما شاء الله أن يكشف له منه من جهة، وبعض تنبؤاته المستقبلية الناتجة عن خبرته الإنسانية وتحليلاته الشخصية المحضة، من جهة ثانية، وهي مسألة يراها المؤلف في غاية الأهمية لاستشراف المستقبل بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فإنه يدعو إلى التفريق بين ثلاثة أمور في هذه المسألة، هي: غيب جزئي ارتضاه الله للرسول عليه السلام لخدمة الرسالة، وغيب محرّم، وهو من قبيل ما يدّعيه الإنسان بمعرفة الغيب وتقرير مصائر الناس، وغيب استنتاجي، يتعلق في التفكير العقلاني الذي أباحه الإسلام وأمر به لمغالبة الأقدار، من خلال الاستعداد لها ومواجهتها بموهبة عمق الحس، والخبرة التاريخية، وتحليل الواقع، وفهم مآلات الأفعال، وسد الذرائع، ومهارة الاستطلاع، واستشراف المستقبل بفروض وسيناريوهات تربط الأسباب بالمسببات ...إلخ.
من المسائل المهمة التي ناقشتها الدراسة، مسألة ذهاب بعض المسلمين لتقزيم المستقبل الإسلامي، بأحاديث الفتن النبوية التي تهيمن على وعي المسلمين العام، سيما في ظل الظروف الحياتية الصعبة بكل تجلياتها، فأظهروا هذه الأحاديث وكأنها تغري بالاستسلام والقعود عن الواجب نحو دراسة المستقبل، والإعداد له، والأخذ بأسباب النجاح والفلاح فيه.
ورغم أن الدراسة تؤكد أن جزءاً كبيراً من هذه الأحاديث مشكوك في صحته، أو أنه كذب على النبي عليه السلام في سياق الصراعات السياسية والعقدية القديمة، إلا أن الكثير من الناس يصر على الفهم التجزيئي الاختزالي لها، إما بفصلها عن معانيها، أو انتزاعها من سياقها التكاملي، المتوازي مع المبشرات النبوية، التي تطمئن على مستقبل الإسلام والمسلمين، ولكن المبشرات أيضاً طالتها يد العبث المذهبي، وسادتها الحيل السياسية، ليعتبر في هذا الإطار أن قضية مهدي آخر الزمان، مع التأكيد على ضعف أخبارها، هي من اختراعات السياسة للاحتيال على الناس بنموذج "المهدوية" المعروف عبر التاريخ الإسلامي، الذي طالما اتُخذ متكأً دينياً للوصول إلى السلطة، وتكريس الثورة على الحكام القائمين.
لعل دراسة الدكتور بلكا، قد فتحت الباب واسعاً لإبراز دور المراجعات المستقبلية في الفكر العربي الإسلامي وتصحيح مساراته، وتحصين الأمة من أفكار بعض أبنائها من دعاة الاتصال بالمستقبل، من غير تأصيل شرعي صحيح، أو من دعاة الانفصال عن المستقبل بدعوى التأثيم الشرعي، حيث يمكن أن نخضع المستقبل لآمالنا وتطلعاتنا وطموحاتنا وأفكارنا وعقائدنا، ولكن بعيداً عن التسخير الأيديولجي الذي يحاصر الرسالة مفاهيمياً ومقاصدياً في إطار فئوي ضيق ومغلوط.
جريدة الغد: