الأحد، 10 نوفمبر 2013

سلسلة التصوف السلفي (4): في معنى قول الصوفية: قد يكون العلم حجابا.



سلسلة التصوف السلفي(4)
في معنى قول الصوفية: قد يكون العلم حجابا.
تأليف: إلياس بلكا.
قولهم العلم حجاب قولة صحيحة، رغم أنها في الظاهر مستنكرة. ومعناها أن الانشغال بالعلم فقط يخفي في الغالب رغبة في نفع الذات وشهوة  الظهور والشهرة، كما في الحديث أنه يؤتى بالعالم فيقذف في النار لأنه تعلـّم ليقال عالم. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن للعلم لذة وأن في النفس رغبة في السيادة بالعلم على الآخرين. وهنا من الواضح أن نية العالم أو المتعلم فاسدة، فيقول له المربون من الصوفية: دع العلم، أي توقف تماما عن التعلم أو التعليم وما يتعلق بهما. وهذا إجراء مؤقت، فهم لا يقصدون بذلك اتخاذ موقف سلبي مبدئي من العلم.
والقصة كلها عند الصوفية تتلخص في أن غاية الإنسان في الدنيا يجب أن تكون رضا الله وحده، فأي شيء يقف في هذا الطريق يكون لا مشروعا ولا محبذا، ولو كان هو العلم الشرعي، بما في ذلك علوم القرآن والحديث  (أعني إذا أصبحت هذه العلوم صنعة وسبيلا لأكل الدنيا، لا غير.).. لأنه إذا أصبح هو الغاية كان عمل الإنسان لنفسه لا لربه، وكان له التعب، تعب البدن والعقل، ولا أجر له على الله لأنه لم يقصد وجهه، ولأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا. وهذا منشأ المذهب القديم للفقهاء في عدم جواز أخذ أجرة على إقراء القرآن الكريم وإمامة الصلاة والأذان.. ونحو ذلك. ثم عدلوا عن هذه الفتوى لما خافوا على هذه الفروض من الاندثار، فعدوها من فروض الكفاية وأباحوا الأجر عليها. والشيطان لا يأتي الإنسان في صورة الحرام دائما، بل قد يأتيه أحيانا في صورة الدين أو العلم أو الفضل، فهذا من تلبيسات إبليس التي أوضحها جيدا ابن الجوزي في كتابه الممتع: تلبيس إبليس. وأهل الخير غالبا ما يؤتون من هذا الباب لأن الشيطان يئس من جرهم إلى المعصية، خاصة المعاصي البدنية.. فيدخل عليهم من المعاصي القلبية أو من إفساد النية وتحريفها إلى أغراض أخرى، وهو الرياء الذي سماه الحديث الشرك الأصغر.
فإذا صلحت النية واستقامت عاد هؤلاء المربون وقالوا له: الآن ارجع إلى ما كنت عليه، فعلـّم وتعلم فذلك من أفضل القربات إلى الله.. تماما كما وقع للغزالي الذي دخل في أزمة نفسية عميقة جدا، وهو في ذروة سلطانه العلمي، فقد كان مشهورا ومقربا من السلطان، له تصانيف  سارت بذكرها الركبان، وكان يدرّس في أعلى المدارس الدينية: المدرسة النظامية ببغداد حيث يحضر مجلسه من العلماء –ناهيك عن الطلبة- أكثر من أربعمائة.. ثم فجأة كرهت نفسه ذلك، ولازم بيته، ومرض مرضا كاد يودي بحياته. والسبب أنه اكتشف –في لحظة صفاء- أن ذلك كله أو أكثره كان للدنيا لا لله سبحانه، فبدأ يتساءل: ما الداعي لهذا كله، وما هي الغاية من الحياة أصلا، وقد اعترف له الجميع بالإمامة في العلم، لكن ماذا بعد؟ وقد حكى بنفسه قصته هذه في كتابه العجيب (المنقذ من الضلال)، وهو من السير الفكرية النادرة في تراثنا العلمي.
ترك الغزالي العراق، وساح في الأرض وتصوف، ثم دخل الخلوة وتفرغ للتعبد في الأكثر، وإن كان يستجيب أحيانا لرفاقه من الصوفية فيقدم لهم بعض الدروس.. واستمر على هذا المنوال سنين عددا. فلما صفت نيته ولاحظ ذلك منه أصحابه أمروه بالعودة  للتدريس والتصنيف وألحوا عليه، فعاد إلى العراق وإلى ما كان عليه. والغزالي هو صاحب القولة الجميلة المشهورة: أردنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله. ذلك أن العلم الحقيقي يهدي صاحبه إلى الله ويزهده في الدنيا، وبقدر نقص العلم يكون التعلق بالدنيا ورغبات النفس، وعلى قدر زيادته ورسوخه يقلّ ذلك. وإن كان يشكل على هذا ما جاء في الأمم السابقة عن العلماء السوء، وفي أمتنا أيضا.. فهؤلاء علماء بشهادة الحديث، لكن علمهم لم ينجهم؟ ويبدو لي والله أعلم أن هؤلاء علماء فعلا، وتصدق عليهم صفة العلم، لكنهم لم يبلغوا العلم الراسخ، فالعلم الراسخ حتما يقرب الإنسان من الله، كما في سورة آل عمران: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به، كل من عند ربنا).. والله أعلم.
وقد يكون في الصوفية أو من يدّعون المشيخة بغير تأهيل من يفهم قولة الصوفية هذه باعتبارها عداوة للعلم. هؤلاء لم يفهوا المراد فلا يحتج بهم، وإنما الحجة في الشيوخ الكاملين من أهل العلم والسنة والصفاء، أولائك الذين تلقت الأمة طريقهم بالقبول العام.
والخلاصة أن العلم عبادة عظيمة، وشأنه عند الله كبير.. لكن بشرط خلوص النية لربّ كل شيء: رب العلم، وغير العلم.
يتبع..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق