السبت، 15 مارس 2014

د. حمدي عبد الرحمن: مسلمو أفريقيا بين مطرقة الإرهاب وسندان الإبادة.


مسلمو أفريقيا بين مطرقة الإرهاب وسندان الإبادة


ثنائية الإرهاب والإبادة
أزمة فهم
ما العمل؟

توقفت مليّا عند مشاهد الرعب التي تعرض لها مسلمو أفريقيا الوسطى، والتي تعيد إلى الأذهان تجربة الحروب الدينية في العصور الوسطى.

أليس من العار على الأمم المتحضرة التي تتغنى بقيم الحريات الدينية والمسؤولية من أجل الحماية أن تحدث عمليات إبادة وتهجير قسري واسع النطاق لآلاف المسلمين ولا يحرك أحد ساكنا؟

قلت لنفسي لعلها مبالغات وهواجس نظريات المؤامرة التي تسيطر على العقل الجمعي السائد في العالم الإسلامي، فابتعدت عن أحاديث الاستنكار والاستجداء التي صدرت عن بعض مؤسساتنا الإسلامية واعتمدت على تقارير دولية حقوقية يفترض فيها الحياد والموضوعية.

لقد أكدت منظمة العفو الدولية في أحدث تقرير لها صادر في 11 فبراير/شباط 2014 أن "الهجمات ضد المسلمين في أفريقيا الوسطى ارتكبت بقصد صريح هو التهجير القسري لهم، لقد رأت المليشيات المسيحية المناهضة للوجود الإسلامي أن المسلمين بمثابة أجانب غرباء عليهم الاختيار بين مغادرة البلاد أو التعرض للقتل".


هذا المقال يسعى لرصد الحالة الإسلامية في أفريقيا، والتي تعبر عن تناقضات خبرة ما بعد الاستعمار وفشل بناء الدولة المدنية الحديثة، وغياب الفهم بسبب غلبة النموذج المعرفي الغربي المسيطر
ويسعى هذا المقال لرصد الحالة الإسلامية في أفريقيا عموما، والتي تعبر عن تناقضات خبرة ما بعد الاستعمار، وفشل بناء الدولة المدنية الحديثة من جهة، وغياب الفهم بسبب غلبة النموذج المعرفي الغربي المسيطر من جهة أخرى.

ولعل ذلك كله يدفع إلى التساؤل عن إمكانية التفسير والفهم المتعلق بأزمات مسلمي أفريقيا.

ثنائية الإرهاب والإبادة
لعل ما يثير الفزع والاستغراب في آن واحد هو أن عمليات التهجير القسري للمسلمين في أفريقيا الوسطى تمت بمباركة -بل ومشاركة- الحكومة، في حين وقفت قوات "السلام" الفرنسية مكتوفة اليدين.

إننا أمام وضع مأساوي انشغل عنه العالم الإسلامي بسبب هيمنة ملفات مصر وسوريا وليبيا وغيرها من مناطق القلب. لقد وقع التهجير القسري لكافة السكان المسلمين في مدن وقرى كثيرة، أما من بقي فقد عجز عن توفير وسيلة خروج آمن فدفعه الخوف إلى الاحتماء بساحات المساجد والكنائس.

وطبقا لبعض المصادر الدولية، فقد تم تهجير نحو 67 ألف مسلم، أي ما يشكل نحو 10% من جملة السكان المسلمين.

يمكن للمرء في مثل هذه النوازل أن يلجأ إلى قيم المحن والابتلاء بمفهومها الإسلامي، ويتذكر قول مؤرخنا الكبير عبد الرحمن الجبرتي "يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف"، عندما شاهد عدوان نابليون وجنده على طلاب الأزهر وشيوخه بالقنابل. قد يقول قائل إن مسلمي أفريقيا الوسطى أقلية لا تتجاوز 15% من إجمالي السكان، والأقليات في عالمنا المعاصر تعاني كثيرا من الظلم والاضطهاد، ولا شك أن ذلك اقتراب تبريري ذرائعي غير مقبول.

وربما يدفع ذلك إلى النظر في أحوال كتلة الإسلام الحصينة في الغرب الأفريقي التي كان لها دور رائد في بناء الحضارة الإسلامية.

إذ يكفي أن نتذكر جوهرة الصحراء تمبكتو وممالك مالي وكانم وبورنو والصنغاي، على أن متابعة الراديكالية الإسلامية في هذه المنطقة مثل خطاب بوكوحرام في نيجيريا الذي تحول من العداء للدولة "الكافرة" إلى العداء لكل من الدولة والمجتمع معا باعتبارهما لا يطبقان شرع الله، تظهر أن مسلمي الغرب الأفريقي ليسوا أفضل حالا من مسلمي الوسط.

وإذا كان حال المسلمين في الجنوب الأفريقي يعبر عن تناقضات الخطاب الإسلامي عموما في مرحلة ما بعد الاستعمار، حيث نجده ينحو صوب السلفية الدعوية تارة أو الراديكالية الجهادية تارة أخرى، فإنهم عموما أقليات تعيش في ظل مجتمعات تهيمن عليها عقائد تقليدية أو تعاليم مسيحية.

لم يكن غريبا أن نرى تباين الخطاب الدعوي الذي تبناه الراحل أحمد ديدات في مواجهة الخطاب المسيحي المهيمن، عن خطاب الإسلام التقدمي الذي يطرحه المفكر الجنوب أفريقي فريد إسحق.

لا أحسب أن الشمال والشرق الأفريقي بأغلبيته المسلمة أفضل حالا كذلك، فالخطاب الصوفي الجهادي، والذي قام بدور مهم في محاربة الاستعمار الغربي كما حدث في بلاد الصومال وليبيا والجزائر والمغرب، قد تراجع القهقرى ليحل محله خطاب راديكالي يعيد الاعتبار لمفهوم الأممية الإسلامية بعناصره القائمة على الخلافة وتحقيق حلم الجامعة الإسلامية، وهو ما يعني تقسيم المعمورة إلى دار للإسلام وأخرى للحرب.

ويعبر خطاب تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي والجماعات الموالية له في شرق أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء عن هذه التحول الجذري في الخطاب الإسلامي، الذي يعتبره الكثير من القوى الإقليمية والدولية أحد تجليات الإرهاب المعولم.


أزمة فهم
ما الذي حدث خطأ لقارة الإسلام؟
لقد كتب هوبير ديشامب عام 1963 واصفا التوسع الإسلامي في أفريقيا بقوله "لم يقف أي حاجز أمام زحف الإسلام بأفريقيا، فقد انتشر بالشمال في وقت مبكر، ثم تخطى الصحراء وزحف خلفها، وعبر من الجزيرة العربية للساحل الشرقي منذ عصره الأول، وتخطى هذا الساحل إلى المناطق الداخلية إلى كينيا وتنجانيقا، واقتحم نطاق الغابات في قلب أفريقيا، ونفذ إلى هضبة البحيرات وتدفق إلى الهضبة الحبشية، وانتشر على طول الساحل الغربي، ودخل جنوب أفريقيا مع المهاجرين المسلمين من سكان شبه القارة الهندية وماليزيا، ولا زال ينتشر حتى اليوم إلى آفاق جديدة".


الزحف الإسلامي على حساب الأديان الأخرى بأفريقيا أدى إلى وجود دعاية ديماجوجية في الكتابات الأوروبية  لا تزال مسيطرة حتى اليوم، حيث بدأ الحديث منذ نهاية القرن 19 عن ظاهرة الإسلام الأسود
باعتقادي أن الحالة الإسلامية في أفريقيا تحتاج إلى إعادة فهم ومراجعة لعدة اعتبارات:

الاعتبار الأول معرفي ومنهجي، فقد أدى الزحف الإسلامي على حساب الأديان التقليدية والمسيحية في أفريقيا إلى وجود عملية دعاية ديماجوجية في الكتابات الأوروبية المتخصصة، لا تزال مسيطرة حتى اليوم، حيث بدأ الحديث منذ نهاية القرن 19 عن ظاهرة الإسلام الأسود. إنه إسلام خضع لعملية إعادة صياغة وتفسير، فأضحى أكثر توافقا مع الخصائص النفسية للأجناس السوداء.

وقد تجاوب بعض المفكرين الأفارقة -ولا سيما في أفريقيا الفرانكفونية- مع هذه الدعوة، وقالوا بوجود مصادر محلية للإسلام أو ما أطلق عليه "أفرقة الإسلام".

ولعل مأساة كل من السودان وأفريقيا الوسطى تعبر مرة أخرى عن انحياز العقل الغربي في دراسة كل ما يتعلق بالظاهرة الإسلامية في أفريقيا.

فمنذ صعود الإسلاميين للحكم في السودان عام 1989 والغرب يحاول إبراز البعد الديني للصراع هناك، وتصويره على غير الواقع بأنه مواجهة بين الإسلام والمسيحية.

وهنا نذكر جهود الممثل جورج كلوني، الذي حاول بكل جهده تصوير الحرب الأهلية في السودان على أنها تطهير عرقي، وفي عام 2001 أخرج جيمس ميلر فيلما وثائقيا بعنوان "الحرب غير المقدسة: الإبادة الجماعية للمسيحيين في السودان".

والعجيب أن أحدا لم يطرح السؤال الأهم، وهو: ماذا لو أن آلاف السكان المسيحيين قد قتلوا أو هجروا من دولة إسلامية قياسا على ما حدث في أفريقيا الوسطى؟

الإجابة معروفة بالقطع، وهي الحديث عن العنف الإسلامي، وعدم احترام الحقوق والحريات الدينية، وهو ما يعني ضرورة إعمال مبدأ التدخل الدولي الإنساني.

أما الاعتبار الثاني، فهو مرتبط بطبيعة الموروث الاستعماري وعلاقته بالظاهرة الإسلامية في أفريقيا. فالدولة الأفريقية هي نتاج استعماري، أي أن أساسها مصطنع، فالإقليم -وهو وعاء الدولة- ليس إلا نتاج تحديد تعسفي من السلطة الاستعمارية في إطار منظومة القوى التي حكمت عملية التكالب الاستعماري الأولى.

وقد قام المستعمر بخلق نخبة أفريقية مثقفة ومتشبعة بالتقاليد الغربية العلمانية حتى إذا صار الحكم إليها في مرحلة ما بعد الاستقلال عمدت إلى الحفاظ على هذا الإرث الاستعماري في الحكم والإدارة.

وقد أدى ذلك إلى نجاح هذه النخبة الحاكمة الجديدة المتغربة في ما فشل فيه المستعمرون من قبل، ولعلنا نتذكر هنا حالات السنغال في عهد سنجور، والصومال في عهد سياد بري، وجزر القمر في عهد علي صويلح.

والاعتبار الثالث، هو الذي يفسر لنا صعود الخطاب الراديكالي الموسوم بالإرهاب غربيا ومحليا في أغلب الأحوال، ويتمثل في فشل مشروع الدولة الوطنية والتي قامت على تبني أيديولوجيات علمانية كالاشتراكية والليبرالية.

لقد أدى غياب الديموقراطية وانتشار الفساد في الواقع الأفريقي -بما يعنيه من انهيار نموذج النهضة الأفريقي العلماني- إلى ظهور رؤى بديلة تعتمد على مرجعية دينية.

يمكن أن نفهم ذلك الاتجاه من خلال مراجعة تجارب تطبيق الشريعة الإسلامية في شمال نيجيريا، وظهور الشباب المجاهدين في الصومال، وتنامي الحركات الجهادية في إقليم الساحل والصحراء.

ومن الملفت للانتباه أن خطاب الحركات الإسلامية الراديكالية المعاصرة في أفريقيا قد استلهم أصوله الفكرية من ثلاثة منابع قد تبدو -لأول وهلة غير متجانسة- إذ شكل التراث الفكري لحركة الإخوان المسلمين في مصر مصدرا ملهما للإسلام الحركي في كثير من أنحاء أفريقيا، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فقد أثر تراث أبو الأعلى المودودي على نشأة وتطور كثير من الحركات الإسلامية في شرق وجنوب أفريقيا بحكم وجود جاليات آسيوية كبيرة هناك. أما المنبع الثالث، فإنه يرتبط بتقاليد الثورة الإيرانية التي تبنت خطابا إسلاميا راديكاليا يدعو إلى إقامة الدولة الإسلامية المستقلة.

ما العمل؟
نحن بحاجة إلى الفهم والخروج من إسار هذه الحدية المؤدلجة التي أضحت تحصر الحالة الإسلامية في أفريقيا بين مطرقة الإرهاب وسندان المؤامرة الغربية والإبادة الجماعية.

التحول الفارق في جدلية العلاقة بين الدين والسياسة أفريقيا يعود لأسباب ترجع في معظمها إلى سياق الفقر والتخلف الذي تعيشه المجتمعات المسلمة، بالإضافة إلى تحولات ما بعد "11 سبتمبر"
لقد سارعت كثير من الدول إلى تبني الحلول الأمنية المعتمدة على الداخل كما في نيجيريا، أو بمساندة ظهير خارجي كما هو الحال في الصومال ومالي، وهو ما يعني تراجع الحلول التوافقية التي تشكل تيارا عاما يهدف إلى إعادة بناء الدولة الوطنية كما حدث في تجربة جنوب أفريقيا بعد سقوط نظام التفرقة العنصرية.
ولا شك أن مخاطر استعداء المجتمع لمواجهة هذه الحركات الراديكالية، كما حدث في التجربة النيجيرية حيث تم تشكيل مليشيات مجتمعية لمواجهة عنف بوكوحرام، قد يفضي إلى نتائج سلبية تنال من تجانس المجتمع واستقراره.

إن مشكلة أفريقيا -بعيدا عن المتغير الديني- تكمن في فشل مشروع الدولة الوطنية الذي يؤكد على قيم المواطنة والمساواة والعدالة وخلق هوية واحدة للجميع، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، في عودة التكالب الدولي بأوجه جديدة من أجل استغلال ثروات أفريقيا وإعاقة مسيرة نهضتها.

أليست رائحة النفط واليورانيوم هي التي تفسر لنا سر التواجد الفرنسي والأميركي في كل من مالي وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان؟

وعليه، فإن تفسير الواقع المعيش للمجتمعات الإسلامية في أفريقيا لا بد أن يعتمد على الخبرة التاريخية، ويأخذ السياق الحضاري والديني لهذه المجتمعات بعين الاعتبار.

فالتحول الفارق في جدلية العلاقة بين الدين والسياسة أفريقيا -ولا سيما الموقف من علمانية الدولة- إنما يعزى إلى أسباب ترجع في معظمها إلى سياق الفقر والتخلف الذي تعيشه المجتمعات المسلمة، بالإضافة إلى التحولات الإقليمية والدولية التي شهدتها أفريقيا في أعقاب أحداث "11 سبتمبر/أيلول".

المصدر:الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق