الأربعاء، 29 يونيو 2016

نزيف الأمة بسبب الطب والهندسة


نزيف الأمة بسبب الطب والهندسة
إلياس بلكا
تحتاج الأمة الإسلامية إلى  جميع العلوم والفنون، سواء منها الطبيعية أم الرياضية أم الإنسانية. كل هذه العلوم ضرورية ضرورة قصوى، ولا يمكن أن نضحي ببعضها في سبيل بعضها الآخر. لذلك يعتبر فقهاؤنا أن العلوم كلها من فروض الكفاية، بمعنى إذا قام بها بعض الناس في الأمة يكون الجميع في مأمن من الإثم والمحاسبة، بل لهم أجورهم إذا تواصوا بها وتعاونوا على توفيرها. وإذا بقيت علوم بدون اهتمام ودراسة، فإن الجميع في الأمة يكون آثما ويُسأل عن تقصيره في الآخرة. وأول من يسأل الحاكم، ثم الوزراء والموظفون المتنفذون في الدولة.. ثم الشباب أنفسهم، فأي شاب رأى من نفسه قدرة على علم معين ينبغي أن يتفرغ له ويكفي الأمة شأنه.. ثم مسؤولية الآباء أن يوجهوا ويساعدوا أبناءهم..
لكنني أزعم أن  حاجتنا اليوم أكثر إلى العلوم الإنسانية واللغوية والشرعية، وأنها أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، وأنها تستحق أن تُعطى لها أولوية في التخطيط للمستقبل. وهذا لجملة أسباب:
1-   لأنه يوجد عدد كبير من المتخصصين في الرياضيات والهندسة والطب.. وغيرها، بينما لا توجد عندنا أعداد كافية من المتخصصين في العلوم الإنسانية.
2-   لأن قسما مهما من الذين يختارون علوم الطب والهندسة هم من  الأذكياء المجتهدين، وفيهم نسبة دون ذلك.. بينما قسم كبير ممن يختار العلوم الإسلامية والإنسانية هم من المتوسطين في قدراتهم، ويفتقدون إلى الحافز وإلى الاهتمام الكافي.. وفيهم نسبة أفضل من ذلك. إذ يوجد بينهم نبهاء ومجدّون.. لكن الحكم للأكثر. وهذا ما يفسر قلة الإبداع في طلابنا الشرعيين والإنسانيين، وكثرته في طلاب الطب والصيدلة والهندسة والرياضيات.. فالإبداع في العلوم الإسلامية والإنسانية والقانونية يحتاج لطاقات عقلية رفيعة.
3-   لأن قيادة العالم والتأثير فيه أمر يحتكره الخبراء في العلوم الإنسانية والقانونية، وليس الطبيعية.. فقادة الدول والوزراء ومدراء الشركات ووسائل الإعلام وصناعات الرأي.. كلهم من العلوم الإنسانية والاستراتيجية والعسكرية.. لا الطبيعية والرياضية. لذلك صارت في كثير من بلداننا معادلةٌ مقلوبة، فالأقل ذكاء هم من يتحكم في جموع الأذكياء التي انشغلت بدراسات هندسية وطبية صعبة.. ثم إذا تخرجت غرقت في العمل المهني التقني الصّرف.
وقد استشعر بعضهم ذلك، فحاول أن يدرس دراسة موازية أحد التخصصات الإنسانية أو الإسلامية.. وهذا لم ينجح لأن العلوم بحار واسعة، والطاقة والعمر لا يتّسعان لإتقان علم واحد إلاّ بالكاد وبشقّ الأنفس، فكيف بإتقان مجالين علميين مختلفين.
لقد اقترحتُ في هذه السلسلة على صفحات الأخبار أكثر من سبعين قضية مهمة للدراسة والبحث. لكن من يبحثها ويدرسها إذا كانت أفضل الطاقات منهمكة في دراسات تقنية، ربما ليس لها نفس الأولوية كما كان الأمر من عقود؟
لذلك إلى الآن لم نتقدّم كثيرا في الاجتهاد والتجديد: لم نصل إلى تصور واضح لشكل الدولة في الإسلام في عصرنا، ولم نطوّر الفكر السياسي في إدارة الدولة والخلافات.. ولم ننجز دراسات عميقة في قضايا الديموقراطية والعلمانية والمواطنة والأقليات ونظريات السيادة ومشكلات الحرية وحقوق الأفراد والجماعات.. ولم نطوّر من نظرية الإسلام في الاقتصاد وإدارة الثروات والاستثمار وحقيقة الربا.. أما علم الاجتماع، فتكاد مساهماتنا فيه اليوم تكون صفرا.. ولم نحلّ كثيرا من مشكلات التاريخ.. حتى أصبحت عندنا عشرات المشاريع المعلقة التي تنتظر طاقات الشباب "المهدورة" في العيادات والمعامل والمصانع..
وهذا من أهم أسباب تعثر الصحوة الدينية الحديثة، لاحظ مثلا تخصصات رواد التيارات الإسلامية في العالم العربي:
المغـــــــــرب: السيد بنكيران إجازة كيمياء. المرحوم بها مهندس دولة. العثماني طبيب.. ولا تحضرني الأسماء الأخرى، لكنها نفس الشيء في غالب ظني.
 مصـــــــــــر: محمد بديع بيطري. البلتاجي أظن طبيب. الكتاتني علم النبات. محمد مرسي مهندس. عصام العريان طبيب. مخيون السلفي طبيب أسنان. ياسر البرهامي طبيب...
تونـــــــــــس: العريض رئيس الحكومة السابق مهندس.
لو تتبعت الموضوع ستجد أن معظم القيادات الدينية أطباء ومهندسون.. وهم يريدون أن يغيّروا عالما لا يعرفونه ولا يفهمونه، لأنهم لم يدرسوه بل أفنوا أعمارهم في علوم تقنية في عمقها ومحدودة في آفاقها.. وهذا من أسباب تعثـّرهم، لا يعرفون العلوم الإنسانية والقانونية والاقتصادية والإدارية واللغوية والإسلامية.. أي لا يعرفون العالم جيدا. لا يعرفون التاريخ والدستور ومقاصد الشريعة والعلاقات الدولية وعلوم الإدارة وخبرات علم النفس والاستراتيجيا..
الخلاصة أن جميع العلوم مطلوبة، وأن الطب والهندسة على الرأس والعين، لكن عندنا تضخم في جانب وضمور في جانب آخر.. فنحتاج إلى التوازن في توزيع طاقاتنا العلمية توزيعا جيدا. وإلاّ سيستمر الزيف، ويستمر معه التعثر والتخبّط.. لابد من أبطال يكونون أقوى من المجتمع الذي تعجبه المظاهر، وأقوى من المال وإغراءاته، وأقوى من أنفسهم وأهوائهم.. فيثوروا على هذا كله، ويضحّون لأجل أمتهم.... وسيعوضهم الله سبحانه خيرا مما يظنون وبأفضل مما يتوقعون بحقّ الله العظيم.


هناك 3 تعليقات:

  1. كليات العلوم الإنسانية لا تشجع -من حيث التنظيم والانضباط في مواعيد الامتحانات وغيرها- على اختيارها من قبل الطلبة المجدين. ثم إننا ليس عندنا اكتفاء في التخصصات العلمية بتاتا ولا أرى صراحتا ما يبرر تزهيدك في هذه المواد والتنقيص من أهميتها في عصر كالذي خبرته، وأزعم أن توهم الريادة هذا الذي تجده متجذرا في أغلب المتخصصين بالعلوم الإنسانية - خصوصا أساتذتهم- مع ضعف اهتمامهم بما هو تقني في تأطير الناشئة (كنوع من الترفع) هو ما قاد جودة الدراسة في هذه الكليات إلى مراتب سحيقة في الانحدار. في مقابل أنك تجد نوعا من التواضع الذي تورثه الصرامة العلمية عند المشتغلين بالعلوم الحقة. وضعف الطلبة في التخصصات العلمية راجع إلى ضعف التأطير و(يترتب عنه) التساهل في إعطاء الإجازات لمن لا يستحقها
    ولا يظن القارء الكريم أني لا أقدر مكانة العلوم الإنسانية بل أعلم سبقها في هيكلة المجتمع، وأنا إن شئت ممن يروم الجمع بين المجالين ولا أظن أن فكرة الجمع غير مجدية، بل أعتقد أنه علينا تشجيعها في السنوات الأولى للطلب حتى تتكون شخصية الطالب العلمية ثم بعد ذلك يتخصص في أحد المجالين حسب ميوله، وهذا يسهل عادة على طالب العلوم الحقة بدءا وقد يتعذر القيام بذلك في الاتجاه المعاكس

    ردحذف
  2. انظروا هذا الفيديو للشيخ مورو:
    https://www.facebook.com/bounaamne.salmane/videos/vb.600024217/10154403260139218/?type=2&theater

    ردحذف
  3. https://twitter.com/MohamedHnid/status/1365405423369678854

    ردحذف