السبت، 4 يونيو 2016

أئمة القمامة بالأنترنت (4): تقويم عام للظاهرة


أئمة القمامة بالأنترنت (4):

تقويم عام للظاهرة
إلياس بلكا


هذا آخر مقال في السلسلة، وقد كتبت أربعة مقالات في هذه الظاهرة، لكن الحقيقة أنها تحتاج لدراسة مستقلة.
بعض خصائص أئمة القمامة:
أول ما يلفت النظر في الجماعة هو الأنا، طبعا لا أتحدث عن الجميع لكن عن الأكثر. يوجد تضخّم كبير للأنا. ويظهر ذلك في أسمائهم:  الأستاذ، المجدد، المعتزلي، نبي كذا..
كذلك يتمتع هؤلاء بصفة التعالي، فهم واثقون جدا من أنفسهم، ومن ذكائهم وتفوقهم على الآخرين.. لذلك يحرصون على نشر صورهم: ها هو البطل في المقهى. ها هو قائم. ها هو نائم. ها هو يأكل. ها هو مع صديقه. ها هو بلحية. ها هو بدونها. ها هو بشارب. ها هو يشرب.. إنها الطلعات البهيّة لأصحاب الفخامة.. منقذي الأمة، وأنبياء البشرية.. 
ثم تتقاطر الإعجابات من جمهور مغفل في أكثره يرى في "أنا" هؤلاء انعكاسا لـ"أناه" هو.
 لكن هذا الغرور سرعان ما ينكسر إذا تعرّضوا للنقد الذي يعتبرونه حجْرا على الرأي والفكر. هم يشتمون ويسبّون من شاءوا، لكنهم لا يطيقون أن ينتقدهم أحد، سواء بأدب أو بغير أدب. وهم رغم تدنّي مستوى أخلاق أكثرهم، فإنهم لا يتذكرون أخلاق الإسلام وآداب الحوار والاحترام.. إلاّ حين يهاجمهم أحدٌ ما.
من خصائصهم أيضا الضعف العلمي والقصور المعرفي. وهذه بليّة عامة فيهم وفي جمهورهم: إنهم لا يقرؤون ولا يدرسون، ومن الكتب يعرفون في الغالب  بعض العناوين، لأنه ليس لهم صبر على البحث، فهم في عجلة من أمرهم، ويهمّهم كتابة خاطرة أو منشور ثم الانتقال لغيره.. فليس لهم وقت "يضيّعونه" في الدراسة الطويلة والعميقة.
الحالة غير الطبيعية لبعض أئمة القمامة:
وهي كما شرحت في مقال سابق أنهم لا يرون إلاّ ما يبدو لهم سلبيا، سواء من حاضرنا أو من تاريخنا. ووالله إني لأعجب من قدرة هؤلاء على التقاط القمامة لوحدها، وعدم رؤية الأشياء الجميلة.. لم يتركوا شيئا له صلة بنا إلاّ وقبّحوه وذمّـوه، بحيث لا أعرف كيف يمكن التواصل معهم ولا الحديث معهم.. مثلا تصوّر أن العالم كلّه متفق على العطاء الإيجابي للحضارة الإسلامية في كلّ من الأندلس والهند، حتى المؤرخون والمفكرون الكبار الإسبان والهنود يعترفون بهذا ويسجلونه فيما يكتبون.. لكن أصحابنا هؤلاء لا يرون في تاريخ المسلمين بالأندلس والهند إلاّ مجموعة من الأخطاء والاعتداءات والكوارث.. فيتبرؤون من هذا التاريخ. 
أهل القمامة يرون كل شيء في حضارتنا سيئا.. حتى "تاج محل" انتقدوه، وهو الصرح العظيم والجميل.. أحد عجائب الدنيا السبع، والذي بناه السلطان المسلم لذكرى زوجته ممتاز محل.
يتساءل أحدهم: ماذا قدم المسلمون للحضارة والانسانية؟
وقد تتبعتُ بعض ما يكتب أئمة القمامة زمانا، فرأيت أنهم يفرحون بكل سيئة تصيبنا وينشرونها ويتبادلونها ويتشاركونها ويتخذونها مادة للسخرية.. لكن إذا جاءهم خبر طيب لا يعيرونه اهتماما، ويتجاهلونه.  مثلا لن تجدهم يذكرون  خبر فوز "صادق خان" الباكستاني المسلم بعمدة لندن. ولن تجد في إعلام أئمة القمامة خبر أن تركيا تعتبر أكثر دول العالم في التطوع والإنفاق الخيري (بحساب قدر الإنفاق من الدخل الخام).. لكن بالمقابل لو أحدا في أمريكا ربّتَ على قطة أو لاعب كلبا فإنهم يذكرون الخبر بالصورة ويعلقون على رحمة الغربيين وكم أن قلوبهم رقيقة عكس العرب والمسلمين... وما هي إلا دقائق حتى تتقاطر عشرات التعاليق والإعجابات.
وقد لاحظت أن بعض أصحابنا حين "يعمل" توازنا، فيذكر مثلا شيئا من مساوئ الحضارة الغربية الحديثة ، أو يشير إلى إنجاز عربي أو إسلامي، قديم أو حديث.. فإن ذلك يمرّ مرور الكرام، وأحيانا لا يحظى حتى بتعليق واحد أو إعجاب واحد من جمهور القمامة.
إنها حالة مَرَضية بحاجة لتحليل من خبراء علم النفس، لا أدري أهي السادية أم المازوشية، أم هي الرغبة في الانتقام من المجتمع.. بداخل أصحابها غضب ينفجر في وجه بيئتهم التي يعيشون في أحضانها.. 
من جهة أخرى ربما لا يمكن الفصل بين هؤلاء وبين حياتهم، يبدو أحيانا أن هذا الهدم الذي يمارسونه في حقّ أمتهم ودينهم تجلّ غريزي لفشل ما في الحياة الشخصية أو المهنية.
من أساليب مجتهدي القمامة:
الأسلوب الأبرز هو التسفيه والتشكيك والتحطيم مع توابل من السخرية والاستهزاء..  وهنا لا يهمّ العلم ولا تهم الحقيقة، بل الغاية هي صنع انطباع معيّن لدى القارئ بحيث تسقط في عينيه تماما الحضارة أو الثقافةُ التي ينتمي إليها.. إنه منهج إعلامي بالأساس، كذات المنهج الذي حطّـم صورة الرئيس المصري السابق مرسي حين جعله الإعلامُ مادة كاريكاتورية للسخرية.. ومع التكرار والإصرار، نجح الإعلام في ذلك إلى حدّ كبير.
وهذا الأسلوب يستغلّ حقيقة معروفة في علوم الإعلام، وهي أن الانطباع الأول هو الأقوى والأبقى، حتى لو صُحح. لذلك بعض أهل العلم الصادقين حين حاولوا محاورة أئمة القمامة تعبوا وفشلوا، لأن هؤلاء لا يهتمون بالمعرفة بحسب أصولها الأكاديمية والموضوعية، بل هم يصنعون الانطباع ويلقون بـ"الفكرة"، ثم يمرون إلى ثانية وثالثة.. وهكذا في دائرة جهنمية لا تتوقف، ولا يمكن لأحد مجاراتها بالنقاش العلمي الهادئ.
 ولأئمة القمامة، أو لمن يحرّكهم، خبرة اجتماعية لا بأس بها، فهم  مثلا يضبطون هندامهم بشكل مدروس. ويعرفون أثر الصورة، فيحرصون على إلحاق الصورة بالكتابة، وقليلا ما يكتبون شيئا بدون صورة مرفقة. وقد تكون  الصورة حقيقية، وقد تكون مزيفة (الفوطوشوب) ككثير من الصور المستهزئة بالإنسان الخليجي. لذلك من الأساليب أحيانا  اختلاق القصص.
كذلك من أساليب منهج القمامة أنه يتصيّد نقدا لعالم من العلماء المعتبرين، إما نقدا لسندِ حديث أو لمسألة فقهية أو فرع في العقيدة.. فيجمع نقدا من هذا ونقدا من ذاك.. ويبني من هذه الجزئيات نتيجةً هي نسف هذه العلوم كلها..
ومن أساليبهم أيضا كراهية العلماء قاطبة، حتى إنهم لم يتفقوا على احترام عالم واحد، ولم يرعوا حرمة لأحد. وعلى عادتهم في التقاط النفايات دون غيرها، تجدهم أحيانا  ينبشون في سير بعضهم ممّن له حظ من الغنى المادي أو القرب من السلطان مثلا.. لكن أبدا لا يذكرون الزهاد الفقراء من علماء العصر، وما أكثرهم، ولا العشرات من الشهداء والمسجونين من علمائنا اليوم.
ومن الطرق أيضا ما ذكره المرحوم بكر أبو زيد في كتابه عن ظاهرة التعالم أن بعض من هذه حالُـه، من مبتدئ في الطلب، أو من عفى على معلوماته الزمنُ، تجده يلتقط المسألة والمسألتين، ويحبّر النظر فيها، فيتنمّر بها في المجالس، وفي مواجهة من لا تمييز عنده.
على مستوى اللغة، يلجأ هؤلاء إلى كتابة فقرات قصيرة، أو في أحسن الحالات صفحة أو أقل، ويستعملون الجملة القصيرة المعبرة، كما أن العامية أو الدارجة حاضرة بقوة.  
من الآليات أيضا التبسيط. كل شيء يُفسر ببساطة ولا محلّ للتركيب والتعقيد.
أين نجح أئمة القمامة وأين فشلوا:
1-نجحوا في هدم صورة الإسلام وحضارته في أوساط واسعة من الشباب، خاصة الشباب غير المتديّن الذي لا يذهب للمسجد ولا ينصِت للعلماء.. فمصدره الأول في الثقافة الدينية هو الأنترنت، وأحيانا الفايسبوك أو التويتر حصرا. هؤلاء كوّنوا عن ديننا وتفاسيرنا وحديثنا ورجالنا وتاريخنا أسوأ صورة لأنهم جمّعوا من أئمة القمامة نفايات كثيرة، فأضلّـوهم.
2- فشلوا في تقديم البديل: إذا مناهجُ المحدثين خطأ ما هو المنهج عندك أنت؟ إذا الفقه غير محترم ما الفقه الذي تقترحه أنت؟ إذا تفاسير الأمة للقرآن مرفوضة، فسِّر لنا أنت الكتاب العزيز؟ لذا عجزوا عن التحوّل إلى تيّار فكري صاحب مدرسة.. إن من الممكن أن يُشكلوا نهرا كبيرا من القمامات لأن كل واحد يَمدُّ هذا النهر العظيم بساقيته الصغيرة التي يملؤها بالقاذورات.. لكن هذا لوحده لا يشكل مدرسة. وهذا ما فهمه بعضهم، فاعتنق الاعتزال لأنه تاريخيا كان مدرسة.. فيما أصبح آخرون قرآنيين.
ختامــــــــــــــا:
توجد عشرات القرائن على تخطيط معين لهذه الظاهرة، إضافة للجانب العفوي منها، كما شرحت ذلك بالمقال السابق.
إن ظاهرة هؤلاء الشباب –تابعين أم متبوعين- هي الوجه الآخر للضياع الذي تعيشه الأمة. هم ضحايا لمأزقنا العام، وإن ظنوا أنهم أقوياء فاعلون، لكن الحقيقة أنهم  أدوات في أيدي غيرهم.. 
إنهم يهدرون طاقاتهم ويشغلون جمهورهم بما يضر ولا يفيد.. ما أكثر القضايا الملحة التي تحتاج لاجتهاد حقيقي: اجتهدوا فيها لو استطعتم.. لكن أحدهم عوض أن يجتهد في الفقه السياسي والاقتصادي ومشكلات العولمة والحداثة والحياة المعاصرة.. كتب بحثا أجْهدَ فيه نفسَه أن يثبت أن عليا  أشجع من خالد بن الوليد!
لقد غدت صفحات مجتهدي القمامة مرتعا خصبا للملحدين واللادينيين، يحبونها ويأنسون بها ويشجعونها، ويبدون سرورهم بـ"الاجتهاد العميق" لأئمة القمامة، وينقلون إلى صفحاتهم الخاصة بعض درر النفايات.
كذلك يحب أصحاب  التشيع الصفوي "اجتهادات" أهل القمامة، ويفرحون بها، وهم واهمون، يظنون أنه بتحطيم تديّن معظم الأمة، سيكون التشيع الصفوي هو البديل، ولا يدرون أن تشيعهم  موغل في الخرافة، وأن الذي لا يقبل التسنّن –وهو أكثر عقلانية- لن يقبل غيره. وبالمناسبة أسجل هذه الملاحظة: لماذا لم تظهر ظاهرة أئمة القمامة عند الشيعة؟ لا أعرف الجواب.
من جهة أخرى نحن نحصد بعض ثمار ظاهرة نزيف الأمة بسبب الطب والهندسة، وقد كتبت عنها هنا سابقا.. إن خيرة شبابنا خُـلقا وعقلا دفنوا أنفسهم في دراسة الطب والهندسة، فأضاعوا أنفسهم وضيّعونا معهم، وتركوا المجال فارغا للرويبضات يصولون ويجولون.. يريدون أن يقرروا للأمة بماذا تؤمن وكيف تؤمن، وكيف تتعامل مع كتاب ربّها وسنّة نبيها، وكيف تتواصل مع العالم والعصر.
إن خلاصة خطاب أئمة القمامة هو التالي: إن هذه الأجيال المتتابعة من العلماء والفقهاء والمحدثين  والصوفية هم عبارة عن جماعات من الجهلة ومن المتآمرين مع الحكام لإلهاء الناس، فهم لم يفهموا الدين، بل زوّروا الأحاديث ، ولا ثقة فيهم... لذلك ندعوكم أيها المسلمون لترك هؤلاء العلماء والاستماع إلينا نحن، فنحن سنهديكم سواء السبيل وستنجحون في دنياكم وأخراكم إذا اتبعتمونا.. ذلك لأننا نفهم الدين فهما صحيحا، ونعرف مراد الله من قرآنه، كما أن وعينا بالعصر عميق لا يضاهيه أيّ وعي آخر، أضف إلى ذلك أننا ثقات طيبون زاهدون في الدنيا ولا مصلحة لنا إلا راحتكم وخدمة مستقبلكم. 
بالمختصر: دَعوا دينكم الذي تعرفون، لأننا نحن أئمتكم الجدد الذين سيضعون لكم الدينَ الذي لا تعرفون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق