الأربعاء، 21 مايو 2014

أسئلة متنوعة في علم الخلاف العالي: الاجتهاد والتمذهب والخروج من الخلاف، ومراعاة الخلاف..الخ

هذه بعض الأجوبة لأسئلة مختلفة  وُجهتْ إليّ تتعلق بعلم الخلاف العالي:


1- لاينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه. أي أن الخلاف نوعان: خلاف مقبول له أدلته ووزنه، فهو خلاف محترم. وخلاف غير مقبول كواحد مثلا قال الصلوات المفروضة ثلاثة فقط، فهذا زلة وخطأ صريح.
لذلك إذا أحد من الناس عمل بمذهب معتبر، أي يخالفنا في المذهب، لكن رأيه  الفقهي معتبر، أي محتمل أن يكون صوابا، فنقول هذا اجتهاد سائغ. وهنا لا يجوز لنا أن ننكر عليه، أو نتهمه، أو نعيب عليه.
بينما إذا أخذ بمذهب غير معتبر، أي شاذ وخطأ، فإننا ننكر عليه، ونقول له: هذا الرأي خارج الشريعة بشكل كلي.
2- الاجتهاد لا ينقض بمثله: أي إذا حكم القاضي بحسب اجتهاد ما، ثم جاء قاض آخر فلا يجوز له أن يخَطئ القاضي الأول، ويعيد المحاكمة فيحكم باجتهاد آخر. لأن هذا اجتهاد وذاك اجتهاد، والاجتهاد لا يلغي الاجتهاد، لأن الجميع يجتهد، وقد يكون الصواب مع هذا أو مع ذاك.
بخلاف إذا حكم القاضي بمخالفة النص الصريح أو الإجماع.. فإن قضاءه يبطل ونلغيه، لأنه كما تقول القاعدة: لا اجتهاد مع النص.
3- المجتهد المطلق كان موجودا بكثرة في تاريخنا: الطبري، وابن دقيق العيد وابن تيمية.. وحتى السيوطي والشوكاني.. لكن أهل العلم في القرون المتأخرة رفضوا أن يعترفوا لهؤلاء بمرتبة الاجتهاد، وقالوا: الاجتهاد المطلق انتهى وأغلقنا بابه. هذه دعواهم، أما الأمر في حقيقته فهو استمرار الاجتهاد المطلق. أيُّ واحد درس علوم وكتب  أمثال الطبري وابن دقيق العيد وابن تيمية والسيوطي والشوكاني.. يعرف أن لهم القدرة على الاجتهاد بإطلاق.
لذلك يقول العلماء من أهل الإنصاف: كان ادعاء انتهاء الاجتهاد خطأ.
4- ابن تيمية  له القدرة على الاجتهاد المطلق، لكنه درس المذهب الحنبلي واقتنع بصحته وقوة أصوله.. فانتسب إليه، فهو مجتهد منتسب.
السيوطي درس الفقه الشافعي وأتقنه واقتنع به، فهو منتسب.
5- المقصود بقولنا: إنما ينكر المجمع عليه، أنه لا يجوز أن ننكر مذهبا فقهيا ونعيب عليه أو نهاجمه، فهو اجتهاد. فلو أن أحدا تزوج امرأة بلا وليّ اتباعا لمذهب أبي حنيفة فلا حرج عليه، ولا يحق لنا أن ننكر عليه ونهوّل عليه ونعتبره مخطئا ومخالفا للشرع، لأن مسألة هل إشراك وليّ المرأة في عقد الزواج أمر مستحب أم واجب.. مسألة اجتهادية تتقارب فيها الأدلة، لذلك فلا إنكار في مسائل الخلاف.
لكن لو أن أحدا تزوج امرأة بدون صداق أصلا، لا حاضر ولا مؤجل، فإننا ننكر عليه، ونقول له: خالفت الشريعة وخرقت الإجماع، فأنت مخطئ  يقينا، وذلك لأنه لم يقل أحد بجواز إسقاط الصداق. فالإنكار يكون فقط في قضايا الإجماع.
6- معنى الاختيار من خارج المذهب أن يقوم المالكي بترك مذهبه في مسألة ما ويفتي بمذهب آخر لأنه يراه أقوى. مثلا لو أفتى المالكي بانعقاد الزواج دون وليّ فهو اختار قولا من خارج المذهب، وهذا يحدث إذا اقتنع بذلك، وعُرف بهذا فقهاء مالكية كاللخمي وقبله ابن عبد الحكم.. لكن إذا كثر الاختيار جدا من خارج المذهب أصبحنا أمام حالة الخروج عن المذهب تماما،  وهذا في الغالب حال المجتهدين، فقد يكون في بداية أمره على مذهب معيّن ثم يكثر منه الاختيار من خارج المذهب لدرجة يصبح معها التساؤل مشروعا: هل هذا العالم ينتسب للمذهب أم لا؟ أي يتدرج من مجتهد منتسب إلى مجتهد مطلق.
لكن إذا اختار المالكي أنه يجوز للمرأة أن تؤم النساء في صلاة الجماعة.. فإنه لا يكون خارج المذهب، صحيح أن المشهور في المذهب هو عدم جواز إمامة المرأة للنساء، لكن يوجد قول آخر إن ذلك جائز، وهو قول ابن أيمن المالكي.. فهذا اختيار من داخل المذهب.
7- معنى الخلاف الذي يقرب مدركه أي رأي المخالف الذي له وجاهة، أي أن أدلته قوية أو تحمل بعض القوة. فإن كان دليل المخالف في نظري أنا ضعيفا وأستبعد صحته.. فهذا خلاف ليس مطلوبا مني أن أراعيه، أو أن أضع له حسابا. أنا أضع حسابا لرأي المخالف إذا ظهر لي أن حجته قوية.
لذلك لا ألتزم بقيام الليل ولو كان ذلك قليلا، رغم أن بعض الفقهاء قال: يجب على كل مسلم أن يلتزم بقيام الليل كل يوم ولو ركعتين.. لأن دليلهم ضعيف جدا، فلا ألتفت إليه.
بينما ألتزم بصلاة ركعة الوتر كل ليلة رغم أنني مقتنع بأنها غير واجبة، لكنني لما درست أدلة الأحناف أحسست أن لها وجاهة وقوة، لم أقتنع بها مائة في المائة، إذ لو اقتنعت برأي الحنفية في المسألة أكون حنفيا فيها، وأنا مثلا شافعي أو مالكي، إنما أصلي الوتر احتياطا لأنه ربما كان الصواب مع الأحناف. وهذا هو الخروج من الخلاف.
8- نكاح الشغار باطل عند مالك، لذلك لا أثر له بتاتا قبل الدخول. لكن لنفرض أن الدخول وقع، فهنا المفروض أن يُـلغى هذا الزواج وأن لا تترتب عليه أية آثار. وفعلا هذا رأي بعض الفقهاء.
لكن مالكا رأى أن الزواج وقع وأن أسرة تأسست، فهو لا يريد أن يلغي هذا كله، فتحدث مشكلات اجتماعية  كثيرة. وفي نفس الوقت هو مقتنع بأن نكاح الشغار باطل لحديث الرسول عليه السلام في النهي عنه.
كيف أحترم الحديث وفي الوقت نفسه أراعي مصلحة المجتمع وأرفع الحرج عن الناس؟
هنا توسّط مالك، فقال: هذا الزواج باطل، فأنا أفسخه وألغيه، ثم إذا أراد الرجل الرجوع لزوجته عقد عليها عقدا جديدا صحيحا وفيه صداق. فأخذ مالك بدليله الأول، وهو بطلان الشغار.
 ثم قال مالك: إذا جاء أطفال من هذا الزواج الباطل فأنا أنسبهم لأبيهم، وإذا مات أحد الزوجين فأحكم بأن الآخر يرثه. فأخذ مالك بدليل الأحناف هنا، فهم يقولون إذا قدم الزوج الصداق انقلب الزواج الفاسد إلى زواج صحيح.
فمالك كان له رأي قبل الدخول، لكن بعد الدخول قسّم المسألة قسمين: قسم عمل فيه بدليله هو، فأبطل الزواج، وقسم عمل فيه بمذهب غيره فأثبت الميراث. وهذا هو مراعاة الخلاف، أي حكم بين حكمين ووسط بين أمرين.
وقد عقدت في كتابي عن الاحتياط فصلا وافيا عن مراعاة الخلاف.
9- إذا  سافر  إنسان فحضرت صلاة الجماعة: هل يصلي وحده لكي يقصّر ويأتي بسنة القصر، فيصلي ركعتين عوض أربعة، أم يصلي مع الناس جماعة ويتمّ صلاته فيأتي بسنة الجماعة. إذا فعل الأول فاتته سنة الجماعة، وإذا فعل الثاني فاتته سنة القصر. ماذا يفعل؟ قالوا: كلاهما سنة، لكنه يأتي بالسنة الأفضل. فقال اللخمي: الجماعة أفضل. وقال ابن رشد: القصر أفضل.
حتى لو لم نجتهد في المسألة، يكفي أن نأخذ بقول ابن رشد. فالجهة التي فيها ابن رشد راجحة لمكانته في المذهب المالكي.

هناك تعليقان (2):

  1. مشكور استاذ الا ان الموضوع تنقصه العلمية

    ردحذف
    الردود
    1. مرحبا بأي تصحيحات أو تعليقات أو إضافات، وستنشر بحول الله تعالى.

      حذف