الأحد، 11 مايو 2014

حرية المعتقد والتعبير: الضرورة والمحاذير.


حرية المعتقد والتعبير: الضرورة والمحاذير.

إلياس بلكا

الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لذلك فهو يعيش بالضرورة في جماعة. هذه الفكرة الأولية والبسيطة هي أساس ما يسمى بـ"نظريات العقد الاجتماعي" التي تتفق جميعها على أن الناس تعاقدوا على تأسيس نظام اجتماعي وسياسي محدد، غالبا ما تكون على رأسه مؤسسة الدولة.. وعلى أن الإنسان مضطر في هذا السبيل للتنازل عن جزء من حريته وأنانيته.. ثم تختلف التفاصيل بين مفكري السياسة المسلمين والغربيين الذين تعرضوا لهذا الموضوع، ومنهم: أبو المعالي الجويني وأبو حامد الغزالي وابن الأزرق وابن تيمية وابن خلدون.. ومنهم أيضا: جان جاك روسو وهوبز وجون لوك..
لذلك حين يُطرح موضوع حرية التعبير والمعتقد فإنه يطرح في إطار صلته بالجماعة البشرية التي نسميها "المجتمع". ولا يمكن طرحها من المنظور الفردي الضيق.. بمعنى أن الموضوع لا يتعلق بالأفراد فقط، بل بالجماعات أيضا.. لذلك قالوا: إن حريتك تنتهي عند حدود حرية الآخرين. فلا وجود لحرية مطلقة أبدا.. الحرية المطلقة حلم أو وهم ليس إلاّ.

لكن الفكر الأوربي منذ عصر الإنسانوية، ثم عصر الأنوار، بدأ يحتفل بقيمة الفرد على حساب قيم الجماعة.. ثم مع التطور السياسي والعلمي والاقتصادي وغيره.. ومع ظهور البروتستانتية أيضا.. تبلور هذا التفكير في عقيدة "حقوق الإنسان" (لاحظ أنه لا أحد يتحدث عن حقوق الشعوب مثلا.. فالتأكيد فقط على الإنسان/ الفرد).
من هذه الحقوق: الحق في حرية التعبير والمعتقد. ولعلّه اليوم لا يجادل أحد في هذا الحق من الناحية المبدئية، والقرآن الكريم نفسه يعلنها صريحة: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، ويقول: (لا إكراه في الدين). وحكى هذا الكتاب العظيم عقائد شركية كثيرة، أوْردها ثم ردّها..

لكن السؤال يتعلق دائما بالمدى: ما هو مدى ممارسة هذا الحق؟ هل توجد حدود لحرية التعبير والاعتقاد؟

الحقيقة أننا إذا تجاوزنا النقاش النظري في الجواب عن هذا السؤال، فإننا نكتشف أن جميع البلدان والحضارات اليوم  تضع حدودا على هذا الحق، ليس نظريا بل من الناحية العملية. دعْ عنك الشعارات والكلام الإعلامي، وانظر إلى الممارسة. فماذا نكتشف؟
توجد في القوانين الجنائية الأوربية فصول وأحكام تتعلق بالإساءة للغير، سواء بالفعل أم بالقول، وسواء كان هذا الغير أفرادا أو مؤسسات.. لذلك نسمع بين الفينة والأخرى أخبارا عن قضايا في المحاكم أحد أطرافها الصحافة ووسائل الإعلام.. فلا توجد مثلا صحافة لها حرية مطلقة في أن تكتب ما تشاء.

وفي كثير من الدول الأوربية والأمريكية تستطيع أن تشتم الأديان والأنبياء وكل المقدسات بدعوى حرية التعبير، لكنك إذا انتقدت "إسرائيل" وممارساتها العدوانية فإن هناك قانونا جاهزا قد يدخلك إلى السجن من  أبوابه الواسعة، يسمى: قانون معاداة السامية.

وإذا كنتَ مهتما بالتاريخ الأوربي الحديث، واقتنعت مثلا بأن الهولوكست أسطورة وأنه لم توجد محرقة لليهود في الحرب العالمية الثانية.. فإن مصيرك هو السجن أيضا، كما حدث للمؤرخ البريطاني  ديفيد إرفينج.. حتى لو كانت عندك "أدلة تاريخية"، بمعنى حتى لو كان الأمر تعبيرا عن قناعة "علمية تاريخية". لست أناقش هنا موضوع الهولوكست: هل هو أسطورة صرفة، أم حقيقة تاريخية بالغت الصهيونية في تصويرها وفي تعديد ضحاياها.. لكن المقصود أنه في هذا الموضوع عليك أن تؤمن وتُسلم، وليس من حقك أن تعلن رأيا آخر، بل قد يكون مصيرك إذا فعلت هو السجن والإدانة.
يمكن أن نمضي في تعداد الأمثلة إلى ما لا نهاية، لكنني أقول بمناسبة موافقة المغرب هذا الشهر على قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة حول حرية الاعتقاد والتدين:

إن لهذا الانضمام  إيجابياته وسلبياته. فهو قد يوسّع من دائرة حرية التعبير في مجتمعنا، وهذا مهم لأن الحرية شرط الإبداع والتنمية..
لكنه من جهة أخرى قد يدفع البلد إلى تقديم تنازلات تتعلق بهويته واختياراته الدينية والفكرية والهوياتية.. كما قد يستغله بعض الناس استغلالا مقصودا ومتعمدا بإثارة معارك جانبية وهامشية لأغراض إشغال المجتمع عن قضاياه الكبرى والمصيرية، أو لأغراض الشهرة وحب الظهور، أو لأجل إحداث انقسامات جديدة في البلد على أسس أخرى (مثلا مغربي مسلم/ مغربي غير مسلم..)، إضافة إلى الانشقاقات القائمة أصلا.

ما الحلّ؟ الحل في اكتشاف نموذج جديد للحريات العامة، نموذج من داخل منظومتنا الفكرية وفي نفس الوقت يكون مناسبا للعصر، ثم يعمل تعاون عربي وإسلامي واسع على تطبيق هذا النموذج داخليا وعلى الدفاع عنه وترويجه خارجيا.. لأنه لا يمكن لدولة منفردة مهما كان حجمها أن تواجه الهيمنة الغربية والدولية في قضايا حقوق الإنسان، ولا في قضايا السياسة الدولية والاقتصادية. إن الغرب يفرض علينا إرادته لأنه يستفْـرد بنا واحدا بعدَ واحد، فهو دائما ما يواجهنا مجتمِعا بينما نواجهه نحن فرادى.
نشر جزء من هذا المقال بموقع هسبريس:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق