الثلاثاء، 14 يناير 2014

سلسة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (11). مشكلة العزوبة والبحث الفقهي.

أكتب  هنا عن بعض القضايا المهمة التي تحتاج إلى جهود الباحثين والمؤلفين، خاصة من جيل الشباب.. فهي قضايا مهمة بالنسبة لحاضر الأمة الإسلامية ومستقبلها، بل إن نهضتنا المنشودة تقوم جزئيا على الدراسة العميقة والجادة لهذه المشكلات وأمثالها، وتقديم الحلول المناسبة لها: حلول تراعي الدين وقواعده، دون أن تغفل عن العصر وطبيعته.

سلسة: آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (11).

مشكلة العزوبة والبحث الفقهي:

إلياس بلكا
 
من مشكلات المجتمعات البشرية اليوم: العزوف عن الزواج، أو عدم وجدان الشريك، وأحيانا كيفما كان هذا الشريك.. مناسبا أو غير مناسب.. وهذه مشكلة وصلت إلى أوجها في عصرنا هذا، وذلك من آثار الحداثة وقدرتها الهائلة على تشكيل المجتمعات من جديد.. ولم ينج من ذلك أي مجتمع، حتى مجتمعاتنا العربية –الإسلامية، هكذا بالسودان مثلا أكثر من ثلاثة ملايين امرأة بدون زواج، وفي السعودية أكثر من مليون ونصف، وفي الأردن -وهو بلد صغير- نصف مليون، بل إن نصف التونسيات على الأقل  بلا زواج.. وأظن في المغرب العدد يتجاوز مليونين. أما الرقم المهول فقد سجلته مصر بأحد عشر مليون امرأة..

وبالطبع هذه الملايين من العازبات تقابلها  ملايين أخرى من العزاب الرجال.. إنها  كارثة حقيقية أصابت عالمنا، والله تعالى أعلم بآثارها  كلها في المستقبل، لأننا مهما عرفنا بعض الآثار اليوم.. تغيب عنا آثار أخرى، فهذه تجربة حصلت لأول مرة في التاريخ البشري بهذه السعة والضخامة.. ولا أحد يدرك مآل الحال.

وتقف وراء هذه المشكلة أسباب عديدة، بعضها ثقافي حيث إن عددا متزايدا من الناس في الشرق والغرب،  كما في الشمال والجنوب.. لم يعودوا يرون الأسرة أساسية..  قديما كان الزواج بالنسبة للفتاة هو كل شيء، أوهو على الأقل: أكثر الأشياء أهمية في حياتها.. والآن أصبح الزواج أحد الأمور المهمة في الحياة  إلى جوار أمور أخرى كالدراسة أو العمل.

وتوجد أسباب اقتصادية تتمثل في غلاء المعيشة، خاصة السكن، وعدم قدرة عدد كبير من الشباب على تأسيس أسر. وتوجد أيضا أسباب اجتماعية ونفسية..

هي سلسلة من الأسباب المتشابكة أدت في نهاية المطاف لوجود مئات ملايين الناس في العالم يعيشيون لوحدهم.

لاشك أننا نحتاج لدراسات معمقة –اجتماعية وأنثروبولوجية ونفسية.. – لنضع اليد على مكامن الداء بدقة، ونعرف الأسباب.. وهذا يمهد  للبحث عن الحلول المناسبة..

وبعض الحلول واضحة ومعروفة، فإن تحسن الوضع الاقتصادي مثلا يساعد كثيرا على تقليص ظواهر العزوبة والعنوسة.. وقد لوحظ أن الشباب العاطل عن العمل يسارع إلى الزواج وتأسيس  أسر بمجرد أن يجد وظيفة أو عملا قارا أو شبه قار..

لكن ماذا يستطيع الفكر الإسلامي المعاصر أن يصنع حيال هذه المشكلة وأخواتها؟ بماذا يمكن أن يساهم في حل هذه المعضلة؟

عادة ما يطرح هذا الفكر قضية "تعدد الزوجات" حلا لهذه المشكلة. ولاشك أن التعدد مشروع، ولا يجوز منعه بحال وإلا يكون ذلك إهدارا لنص قرآني صريح.. لكنه ليس حلا حقيقيا للأسباب التالية:

1- إن كثيرا من البلاد الإسلامية إما تمنع التعدد قانونا، كتركيا وتونس.. أو تقيده وتضيق من اللجوء إليه، كالمغرب.

2- لا يوجد  إقبال كبير على ممارسة التعدد في بلداننا.. صحيح أن التفاوت بينها حاصل، فبلاد الخليج العربي أكثر ممارسة للتعدد من بلاد أخرى كمصر.. لكن في المحصلة النهائية حالات التعدد محدودة جدا، ولهذا أسباب ليس هنا موضع مناقشتها.. لذلك تجد أن حالات التعدد عندنا بالمغرب لا تتجاوز 0.1 % من عقود الزواج، فهو شبه منعدم. وانظر حولك أيها القارئ الكريم وتأمل.. في أسرتك ومعارفك: هل تجد من له أكثر من زوجة واحدة.. ربما لن تجد أحدا.

3- الجو الثقافي العام، والذي تلخصه كلمة الحداثة، لا يساعد على التعدد.. لقد لوحظ حتى في صفوف المتدينين أنهم لا يحبذون التعدد، ويرونه حلا يلجأ  إليه عند الضرورة لا غير، بل قد يعيبون على من يفعله. وإذا كان هذا حال المتدينين بما بالك بالليبراليين.. 

4- حتى لو افترضنا انتشار التعدد في بلد ما، فهو لن يستطيع استيعاب الأعداد الكبيرة من العازبات.. بل فقط جزءا بسيطا منها.

لهذا يجب أن نترك موضوع التعدد جانبا، وبدلا من ذلك على البحوث العلمية اليوم أن تتوجه إلى  دراسة ما يسمى بـ"الأنكحة الجديدة"، وهي عقود زواج  اقترحها بعض أهل العلم، أو عمل بها بعض الناس ثم سألوا الفقهاء عن حكمها.. سأذكر بعضها إلى جانب أنكحة معروفة وقديمة. من ذلك مثلا:

1- زواج المسيار: فهذا عقد زواج مستوف لكل الأركان، فيوجد إيجاب وقبول، وولي الأمر حاضر، والشهود كذلك، والمهر.. لكن المرأة رضيت بأن تتنازل عن حقها في النفقة أو حقها في المبيت، أو عنهما معا.. فهي  رضيت بإعفاء الرجل من واجب الإنفاق عليها لأنها مثلا غنية، أو صاحبة عمل أو دخل مالي لا تحتاج معه إلى أحد.. وهي أيضا رضيت بألا يبيت  زوجها عندها.. وقد كان عرف فقهاؤنا القدامى ما يشبه هذا الزواج، وسموه زواج النهاريات.. لأن الرجل يزور زوجته نهارا فقط، أو غالبا.

2،3-  الزواج بنية التأقيت، وزواج المتعة:  هذان عقدان متشابهان، لأن في كليهما الزواج مؤقت من ناحية الزمن، فهو لمدة  معينة: أيام، أو شهور ، أو سنين.. معدودة. والفرق بينهما، أو أهم فرق، هو أن الرجل في زواج المتعة أفصح عن نيته للمرأة، فهي تعرف أن العقد مؤقت ومحدود زمنيا. وفي حالة الزواج بنية التأقيت، لا يفصح عن نيته، فهو نوى زواجا مؤقتا لكنه لم يخبر بذلك زوجته. وكان بعض الشباب العربي يصنع هذا أيام دراسته بأوربا أو أمريكا.

4- زواج الفرند، أو الصديق، وهو أيضا مستوف لجميع الأركان والشروط، غير أن الزوجين لا يعيشان في بيت مستقل، فالشاب عند أهله والفتاة عند أهلها، ويلتقيان حيثما تيسّر لهما ذلك.. ويعيشان على هذا الحال حتى يغنيهما الله من فضله فيجدان بيتا يجمعهما تحت سقفه.

وقد اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم زواج المسيار والفرند، وإن كان ميل الأكثر فيما يظهر لي، والله أعلم، إلى الجواز..

أما زواج المتعة فباطل عندنا، نحن معشر أهل السنة وإنما قال به الشيعة الإمامية فقط، بينما وافقنا الشيعة الزيدية –وهم أساسا ببلاد اليمن- على تحريم هذا العقد، ذلك لأن الزواج عندنا رباط على نية الدوام لتأسيس أسرة، فلا يجوز أن يكون لأمد معين. وأما الزواج المؤقت فباطل أيضا عند الجمهور الأوسع من الفقهاء لأنه مؤقت فأشبه زواج المتعة، ولأن فيه خداعا للمرأة وكذبا عليها حين يوهمها الرجل بدوام العشرة وهو يبطن غير ذلك.

في جميع هذه الصور يوجد زواج وتبادل للإرث في حالة الوفاة، وعدة في طلاق أو وفاة، ويلحق الأطفال بآبائهم.. وغير ذلك من الآثار الشرعية للزواج.

قد تكون المشكلة في  بعض هذه الصور الجديدة ليس في جوازها، إذ هي من الناحية الصورية، أعني صورة العقد، صحيحة.. بل في بعض آثارها السلبية، خاصة مع مجئ الأبناء.. لذلك يمكن التفكير في وضع ضوابط وشروط لهذه العقود، أي لما جوّزناه من هذه العقود.

لست هنا لأفتي، لأن غرضي ليس هو الفتوى، كما أنني لست من أهلها. لكنني أريد أن أقول: إن على الفقه الإسلامي أن يساهم في حل مشكلات العزوبية والعنوسة بالنظر في إمكان عقود جديدة، أو شبه جديدة.. عقود  تحافظ من جهة على مقاصد الشريعة في تأسيس الأسرة وحمايتها، وتفتح  من جهة أخرى للشباب أبوابا من الحلال عوض أن يلجأ للعلاقات المحرمة، وهذه آثارها معروفة في تدمير المجتمعات وانتشار الأطفال غير الشرعيين وانهيار الأخلاق وكثرة الأمراض.. وغير ذلك كثير مما هو معروف معلوم. فالحاجة ملحة لبحوث ودراسات يتعاون عليها متخصصون في الفقه الإسلامي وآخرون في العلوم الاجتماعية والإنسانية.  والله تعالى أعلم وأحكم.

 


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق