الثلاثاء، 14 يناير 2014

سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (19). الشيخ الكوثري وإسهاماته في علم الفرق.

سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية  (19).

الشيخ  الكوثري وإسهاماته في علم الفرق.

                                                            إلياس بلكا

  استثنائية العصر: ولد الشيخ محمد زاهد الكوثري بمدينة دوزجه بتركيا العثمانية في سنة 1879، وطالت به الحياة رحمة الله عليه حتى أواسط القرن العشرين، وتوفي بمصر لاجئا.. أي إنه عاصر فترة استثنائية من تاريخ الأمة الإسلامية، حيث انهارت الدولة العثمانية وسقطت معظم البلاد الإسلامية في يد القوى الأوربية الرئيسة، وشهد العالم الإسلامي صراعا مريرا بين تياري الهوية والحداثة.. فيما عرف سائر العالم تحولات كبرى تجلت آثارها في الحربين الكونيتين وانشقاق الشرق والغرب.

     استثنائية الرجل: في هذا العصر المضطرب ومن قلب هذه الانقلابات الفكرية والسياسية والاجتماعية ظهر عالم كبير، يذكرنا بعلمائنا السابقين العظام، بل إن بروز الشيخ الكوثري هو بحد ذاته دليل على رجحان الرأي الأصولي الذي يعتبر أن الله لا يخلي الأرض من حجة ومجتهد (مسألة خلو الزمان عن مجتهد).. ومن اطلع على كتب الشيخ وبعض من صولاته وجولاته لا يشك في اجتهاده وكونه من الطبقة الأولى من العلماء. بيد أن القارئ في تراث الكوثري رحمه الله يصاب بالحيرة والدهشة، فهو كتب تقريبا في جميع العلوم العقلية والنقلية، قد استوعبها وأحاط بمشكلاتها فضلا عن مسائلها الواضحة..من ذلك:1- العقائد وعلم الكلام. 2- التفسير وعلوم القرآن. 3- أصول الفقه والفقه وتاريخ التشريع. 4- الحديث متنا ومصطلحا. 5- المنطق والفلسفة..الخ.

     علم الفرق أو الملل والنحل: وقد وجدت أن أكثر الباحثين والكتاب –ممن تعرضوا لتراث الشيخ بالدرس والتأليف- تناولوا آراء الكوثري في حقول علمية ثلاثة، وهي: 1- العقيدة والكلام، خاصة باب الصفات. 2- الفقه، والحنفي بالخصوص، في مثل مسألة الطلاق البدعي. 3- الحديث النبوي، وهو الذي عرف به الأستاذ زاهد أكثر من غيره من العلوم.

      لكن بقيت -نظرا لتعدد مواهب الشيخ وتنوع مجالات بحثه وتأليفه- جوانب من تراثه الغني لم توف حقها، ومنها: علم الفرق.. فهذا علم أسسه المسلمون لحصر مقالات الفرق الإسلامية وشرحها، ثم الرد عليها أحيانا.. حتى استقل هذا الفن بكُتاب وتآليف ومناهج وتاريخ.. ثم أهمله المتأخرون. فلما جاء الكوثري نبه على أهميته وجدد الكلام عليه.. وقد قدّم رحمه الله أو علق على ما لا يقل عن ثمانية كتب من أمهات كتب الفرق، كالتبصير في الدين للإسفرايني، والتنبيه للملطي، والفرق للبغدادي.. حتى أربت عدد صفحات مقدماته هذه على المائة، دون ما تفرق في سائر أعماله من إشارات وفوائد  تخص الفرق والملل.. ومجموع ذلك لاشك أنه يُكون كتابا تاما في هذا الحقل العلمي الخاص. لذلك أعتبر الشيخ مجددا لهذا العلم في القرن العشرين، فهو انتبه إلى أهميته وإلى استمرار حياة بعض الفرق في العصر الحاضر، في الوقت الذي كان فيه كثير من أهل العلم والفكر يظن أن علم الفرق اندثر باندثار موضوعه.. لقد كان الشيخ الكوثري بعيد النظر كأنه يرى المستقبل من وراء الحجب.

     خطة البحث: يمكن أن يتناول البحث المقترح منظور الكوثري لهذا العلم وتعريفه إياه، وكيف أنه من العلوم الضرورية في الملة، ورأيه في حديث افتراق الأمة المشهور، ورأيه أيضا في منهج تصنيف الفرق..وقد نبه الشيخ على مجموعة من القواعد والضوابط لهذا الفن (كالتزام أخذ مقالات المذاهب من كتب أصحابها)، وهي تصلح لتأسيس ما أسميه" أصول علم الفرق". كما أن للكوثري أفكارا في مسألة العلاقة بين المذاهب، بل من المُلفت للانتباه أنه كان يقترح خطوات عملية تخص منهج التعامل مع الملل والنحل الحيّـة، متجاوزا بذلك الاهتمام النظري المجرد. أما آراؤه في المسائل التفصيلية للفرق الإسلامية وإشكالات البحث فيها فأكثر من أن تحصى.. ولعل في الباحثين من يكتب بالتفصيل عن عطاء هذا الإمام الفذ ونظرياته في "علم الفرق"...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق