الاثنين، 30 مايو 2016

أئمة القمامة بالأنترنت (3): من وراء الظــــــاهرة؟

أئمة القمامة بالأنترنت
 (3)
من وراء الظاهرة؟
إلياس بلكا


تعرّفنا في الحلقتين الماضيتين على ظاهرة جديدة نسبيا بالشبكة العنكبوتية، ومعقدة، وهي اجتماعية- ثقافية- دينية- سياسية في آن. وعندي رأي خاص حولها، ولا ألزم به أحدا. وأريد أن يعرف القراء أنه ليس لي مشكلة مع الأشخاص بتاتا، وأنني بهذه المقالات لا أقصد شخصا بعينه، بل والله لا يهمني الأفراد: لا فلان ولا علان.. أنا باحث متابع للساحة الثقافية، واهتمامي يتعلق بالظاهرة في كُـليتها وعمومها.. أما الأشخاص فأمرهم وأمرنا جميعا بيد الله سبحانه، ولا أحد يعرف خاتمة أحد.
إذن نعود إلى سؤال محوري في موضوعنا هذا: هل ظاهرة أئمة القمامة عفوية أم مخطط لها؟ والجواب أنها الأمران معا.
أولا- الناحية العفوية في الظاهرة:
 
كثير ممّن تورّط في هذه الظاهرة حسن النية، بمعنى أن بعض الكُـتاب والمدونين في النت صادقون في غيرتهم على الأمة وألمهم من أوضاعها السيئة، فظنوا أنهم مجتهدون، وأن علاج ما يحسبونه الأوضاع الخطأ في التعامل مع الدين يكون بالصدمة وبالنقد العنيف، بل بالهدم الأعمى. لكن صدق ابن حزم حين قال: "لا آفة على العلوم وأهلها أضرّ من الدخلاء فيها، وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدّرون أنهم يصلحون".
وتوجد بعض الأسباب الموضوعية ذات الصلة بانفجار وسائل الإعلام وبحر المعلومات التي تتدفق من كل مكان وفي كل اتجاه.. أضف لذلك الفردانية وطغيانها على الإنسان المعاصر، مع انتشار ثقافة الحرية، بما فيها حرية الفكر والاعتقاد..
كل هذا زاده سياق ما بعد الحداثة قوة على قوة، لأن من أهم سمات ما بعد الحداثة تدنيسُ كل مقدّس وانهيار المعنى وعدم احترامه.. فهذا كله صنع جوّا عاما من الفوضى الفكرية والعلمية.
ثانيا- الناحية المخطَّط لها في الظاهرة:
 
وهذا ظني، والعلم لله سبحانه، أن جزءا كبيرا من الظاهرة غير طبيعي، بل مُصطنع تقف وراءه جهاتٌ تُغذيه وتشجعه وتخطط لانتشاره.
1-  الهدف:

أحيانا حين أتأمل في الحرب الفكرية الجارية في عالمنا يبدو لي  كأن مصدر التخطيط واحد، وأن الهدف أيضا واحد، إنه: تحطيم المُـقدّس عند المسلمين كيفما كان:
     
          -    تحطيمه في علومنا: فكتب بعضهم في التشكيك في القرآن الكريم، وتمّ إحياء جميع الشبهات القديمة حول جمعه وحفظه، وزادوا شبهات جديدة زعموا أنها مقتضى اللسانيات واللغويات الحديثة. أما حديث رسول الله فأخذ القسط الأوفر من التحطيم، واختاروا صحيح البخاري، لأنه إذا سقط سقطت معه جميع دواوين السنّة وعلومها، ومن الرواة اختاروا أبا هريرة رضي الله عنه، لأنه الراوي الأول للسنن. كذلك جرى "تدمير الفقه".. كل هذه الثروة العظيمة من علومنا الفقهية، والتي اعترف بقيمتها القانونيون الغربيون والمستشرقون المحايدون.. كل هذه الثروة حاول بعض أئمة القمامة تسفيهَها وإلغاءَها بناء على بضعة فروع، أو في أحسن الأحوال بضع عشرات من اجتهادات بعض الفقهاء.
         -    تحطيمه في التاريخ: عبر التشكيك في قيمة الفتوحات وشرعيتها، والغضّ من الدول الإسلامية التاريخية الكبيرة، كالأمويين والعباسيين والموحدين والعثمانيين.. حتى تجربتنا الرائعة بالأندلس هاجموها.
       -    تحطيمه في عظمائنا ورجالنا:  مثلا وقع منذ سنين قليلة هجوم مُركز على ابن خلدون وأنه سارق أفكار. ونبش بعضهم سيرة صلاح الدين الأيوبي فنعتوه بأقبح الأوصاف.  وقام آخرون بالتهجّم على علمائنا الكبار، كأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، والغزالي، والجويني، والفخر الرازي، وابن تيمية..
 2-  الأسلوب:

أما الأساليب فكثيرة بدأتُ في رصدها وترتيبها، وبحول الله سأشرحها مستقبلا.. لكن يمكن اختصارها هنا في كلمة واحدة هي: صناعة الاهتمامات الفكرية.
كان مالك بن نبي المفكر الجزائري الرائع أحد الذين وصفوا هذه الظاهرة، في كتاب "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" وغيره.. فهو المراقب للتدافع الفكري بين الاستعمار الفرنسي والواقع الجزائري خصوصا، والإسلامي عموما.. لاحَظ كيف يعمد الغرب إلى إشغال المسلمين بالأفكار السيئة، كيف يحاول توجيههم فكريا مُستغلا في ذلك حتى أفضل الأفكار، كما استغل الإنجليز فكرة الجامعة العربية لضرب الوحدة الإسلامية نفسها.
فكما للغرب مصانع لإنتاج الأسلحة، يوجد لديه أيضا مصانع لإنتاج الأفكار، وصنع الاهتمامات، وتوجيه المناقشات.
يحكي المرحوم محمد الغزالي عن شعوره بوجود هذا التخطيط المركزي لإلهاء المسلمين بالتوافه من الأمور.. فقد خطب الجمعة في مصر، فسُئل عن حكم الخلّ في الإسلام، وأراد السائل أن يعمل من المسألة قضية كبيرة.. ثم سافر في بحر الأسبوع نفسه إلى أندونيسيا، فكان من أوائل الأسئلة التي أُلقِيت عليه: ما حكم الخلّ في الدين؟
وتوجد طرق عديدة لتوجيه الجمهور الذي يظن نفسه حرّ التفكير، لكنه في الواقع يُساق سوقا إلى أفكار معينة واهتمامات محددة. من تجاربي الشخصية أنني كنت أتوصّل بشكل دوري برسائل لشخصية باسم مستعار.. ماذا تكتب هذه الشخصية؟ في كل مرّة يكون موضوع الرسالة، والتي لا تتجاوز صفحة واحدة، إما قضية خلافية معروفة في تراثنا، لكنها هامشية ليست مهمة، وإما قضية مختلقـَة، أعني كأن الخلاف القائم لا يكفي فعمَد هذا "الرجل"، أو جهاز التخطيط  الفكري، لصنع خلافات جديدة ونشرها بين الناس. مثلا يوجد خلاف معروف عن الخضر عليه السلام، هل هو حيّ أم ميّت؟ هذا معروف وكتَب فيه الناس كتبا مستقلة، والمسألة أصلا غير مهمة. لكن هذا "الجهاز" أرسل لي مرة رسالة يدافع فيها عن أن يحيى عليه السلام حيّ يرزق.. وذكر "أدلة" ودعاني للنقاش والحوار.. ومرّة كان الموضوع أن "وضع الخميرة في العجين يجعله مُسكِراً".. وأمثال هذه الفروع التي الغرض منها إشغال الناس وهدر أوقاتهم وطاقاتهم وصرفهم عن التفكير الحقّ.
ثالثا- أهم الجهات المسؤولة عن ظاهرة مجتهدي القمامة:
 
وهذا بحسب رأيي والله تعالى أعلم. وهذه الجهات بعضها تُخطط بوعي، وبعضها تحرث بلا عقل.
    أ-  دوائر التخطيط الغربي للحرب الفكرية:

لا أستبعد أن يكون للغرب، وأقصد الغرب المعادي لنا لأنه توجد به تيارات وشخصيات كثيرة لا تعادينا بل قد تتعاطف مع قضايانا.. دور في بروز ظاهرة القمامة، خاصة بالأنترنت.
منذ استعمرت أوربا معظم العالم العربي والإسلامي دخلتْ في حرب فكرية، إذ أرادت استئصال الثقافة الإسلامية من هذا العالم لأنها جوهره المقاوم. فقامت القوى الاستعمارية بتجريف شديد لهذه الثقافة، فهمّشت التعليم الديني وحاصرت اللغة العربية ونفتْ العلماء وقام الاستشراق بمحاولة "علمية" لتفكيك التراث الإسلامي في سبيل نزع أي قيمة حقيقية وغيبية له، كما بيّن ذلك المفكر الفلسطيني البروتستانتي إدوارد سعيد في دراسته الشهيرة عن الاستشراق.. وهذه الظاهرة الجديدة وجه جديد لهذه الحرب.  
ب-  بعض أجهزة المخابرات العربية؟


توجد دعوة لما يسمى بـ"الإصلاح الديني" في بعض بلداننا العربية والإسلامية، وهي حقّ أحيانا يُراد به باطل. وليس مُستبعدا أن تتورّط بعض الدول، من خلال أجهزتها بما فيها المخابرات، في ظاهرة أئمة القمامة، بتشجيع بعضهم أو الترويج لهم أو مَدّهم بالنفايات الجديدة لينشروها في أوساط الشباب خاصة.. وقد يكون بعضهم على وعي من هذا التدخل، فيما آخرون غير واعين به..  أو قد يكون الشعار هو الوقوف في وجه "الإرهاب" والإسلام "المتشدد".
ج-    دور السلفية الغالية (من الغلوّ):

للفكر السلفي الغالي، من الغلوّ، بعض المسؤولية في نظري عن ظهور أئمة ومجتهدي القمامة. ذلك أن هذا الاتجاه المتشدد في السلفية لم يترك عالما ولا فقيها، لا قديما ولا حديثا.. إلاّ وذمّه، بل بدّعه أو كفّـره، فساهمت السلفية الغالية في تحطيم صورة  علمائنا وتراثنا لدى كثير من أوساط  الشباب. كما أن التطرف الذي خرج من عباءة السلفية، والذي اتخذ أشكالا عنيفة دموية، نفّر الناس من الدين، فعمد بعضهم إلى إصلاح الإسلام بزعمهم، وهذا ما يُـفسّر بعض الإقبال على اجتهادات أئمة القمامة.
د-  دور التشيع الصفوي:
كان للتشيع الصفوي، وليس العلوي المحترم، دور كبير في بروز ظاهرة أئمة  القمامة، وهم الوجه المقابل للسلفية الغالية، فهم مثلهم حرصوا بمختلف الوسائل على تسفيه علومنا وتراثنا وتاريخنا.. لذلك يحبّ كثير من هؤلاء الشيعة  صفحات ومنتديات مجتهدي القمامة، ويشجعونها وينفخون في أصحابها.
       و-   دور بعض الشخصيات الفكرية والإعلامية:
لبعض هؤلاء أثر كبير في انتشار الظاهرة، كمحمد شحرور وعدنان إبراهيم وحسن فرحان.. وأثر هؤلاء أكبر من أثر سابقيهم كنصر حامد وسعيد العشماوي مثلا.
لا أتحدث هنا عن نيّات هؤلاء وصدقهم ورغبتهم  العميقة في الإصلاح.. لكنني أتحدث عن الأثر الذي تركوه في مئات الآلاف من الشباب.. وهو أثر إيجابي أحيانا، لكنه سلبي وهدّام  أحيانا أخرى.. فساهم بقوة في رفض قطاع من المتعلمين لتفاسيرنا "التقليدية" للقرآن، ولأكثر السنّة النبوية، وإعراضهم عن علومنا في العقائد والأصول والفقه، وكراهيتهم للعلماء، وتبرّئهم من تاريخنا، حتى "الذهبي" منه.. فحدث ما تراه بوضوح في كتابات أئمة القمامة من رؤية كل شيء له صلة بالإسلام والمسلمين بمنظور أسود قاتم وساخر ولا علاقة له بالعلم والموضوعية.
يتبع..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق