الثلاثاء، 4 فبراير 2014

سلسلة التصوف السلفي (7): في كسر النفس وترويضها.


                     في كسر النفس وترويضها.
تأليف: إلياس بلكا.

وهنا مسألة أخرى تطرح سؤالا آخر غير مسألتي العلم والمال، فإن بعض الصوفية لم يكتف بالخروج من ممتلكاته حتى زاد على ذلك طلب المال من الناس، أعني أنهم لجؤوا إلى التسول. فهل يكون هذا مشروعا؟ الحقيقة هذا من موارد الخلاف بين الفقهاء والصوفية. كان ابن عجيبة التطواني رحمه الله  من كبار الصالحين بالمغرب في آخر القرن التاسع عشر، وكانت له همّة الأولين من السلف فأحب أن يأخذ بمنهاج التصوف كاملا، وفعلا يذكرنا ابن عجيبة بأمثال الجنيد والداراني والمحاسبي والغزالي.. وأضرابهم من قمم التصوف الأول. وقد ترك ابن عجيبة الوظيفة المرموقة والمال الذي كان يملكه، وأمره شيخه بطرق أبواب البيوت وسؤال الناس كسرة خبز أو شربة ماء، وهو في هيئة متواضعة وثياب مهملة.. ويحكي الذين يعرفونه كيف أن بعض الناس كان يردّه، ويقولون مجنون، وبعضهم كان يبكي لحاله ويرثي له.. وبعد مدة عاد شيخه وأمره بالتوقف عن ذلك، بمعنى أن المسألة في أصلها تربوية.
لست في وارد أن أحكم على أمثال ابن عجيبة، وهو عالم وأيّ عالم، كما تشهد بذلك كتبه، كما أعتقد أنه وليّ كبير، والجميل فيه أنه كان صادقا.. صادقا بشكل عميق، وتحس بصدقه  إذا قرأت كتبه أو اطلعت على حياته.. لكن بداية أقول: إن غرض ابن عجيبة غرض صحيح، فهو كان يبغي كسر نفسه، أي كسر غرورها، فابن عجيبة حين كان يتسول كان يذل هذه النفس الصعبة المراس والتي لا تنقاد لصاحبها بسهولة.. فهذه غاية سليمة، لأن أول شروط النجاة هو التحكم في النفس وأهوائها، فلابد من كسرها. المشكلة: كيف نكسر هذه النفس بين جوانحنا.. هذه النفس الخبيثة؟ في الحقيقة لا أعرف أسلوبا معينا لذلك، وأسلوب بعض الصوفية كالتسول مثلا يكسر النفس فعلا، لكن: هل هو مشروع؟ لست مطمئنا إلى هذه الطريقة، لكن يمكن أن نلاحظ وجود طرق أخرى تؤدي تقريبا المهمة نفسها، على رأسها خدمة الناس مع الصبر على أذاهم واحتساب ذلك، فخدمة الإنسان للرجل والمرأة والكبير والصغير والغني والفقير.. وتحمل أذاهم، لأنه لابد أن يصلك شيء من الأذى حتى من الناس الذين تخدمهم، هذا يساهم في ترويض النفس. فهذا الأسلوب ونحوه مما يُجوزه الفقهاء أفضل وأولى من أساليب لا يرضاها أهل الفقه، فقد كان بعض الصوفية مثلا حين يُعرف بالصلاح فيخاف على نفسه من الرياء يتعمد السرقة في السوق ليُضرب أو يشهّر به، فيقول الناس: والله فلان الذي تقولون عنه وليّ صالح هو مجرد كذاب سارق، لقد قبضنا عليه في السوق يسرق كذا وكذا.. فيطمئن الصوفي لحاله ويعيش بين الناس دون أن ينتبه إليه أحد، فكأنه يفضل أن يسقط في أعين الناس حتى لا يسقط في عين الله. وهذا غرض صحيح، لكن الوسيلة غريبة، والأوْلى الاجتهاد في البحث عن غيرها.. والتسول أخف منه لأن السرقة ممنوعة أصلا بخلاف الطلب، فقد يجوز أحيانا كما في حالة الحاجة الشديدة. وقد لقيت مرة مسلما إيطاليا، فاشتكى لي من قلة اهتمام بعض المسلمين بالنظافة، وكان يتطوع بنظافة المراحيض ودورات الوضوء، وربما كان يبغي من هذا العمل كسر النفس وتهذيبها، فقد كان فيه نفحة صوفية، ككثير من الأوربيين المسلمين...  وهذا لاشك أخف كثيرا من حالة التسول لأن العمل في النظافة مشروع بل مطلوب، فإذا كان للعامل نية كسر نفسه وغرورها الفارغ انضافت جهة أخرى في المشروعية. لكن يشْكل على هذا كراهة الشريعة لبعض المهن، فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم للمسلم  الحجامة، رغم أنه احتجم وأدى للحجام أجرته. ولا يحضرني جواب الآن عن هذا الاعتراض، لكن أظن الحديث من باب آخر مختلف عمّا نحن فيه.
أقول هذا، ولا أخفي أنني أحببت ابن عجيبة ومازلت، وأنني تأثرت كثيرا لقصة حياته وتقلباتها وما حدث له من حوادث، كما تأثرت كثيرا بقصة تسوله وهو العالم الذي كان إلى فترة قريبة غنيا مكرما صاحب جاه ومكانة.. رحمه الله رحمة واسعة..
من جهة أخرى أظن أننا إذا طورنا العمل الاجتماعي والخيري، ونظمناه في إطار المؤسسات، وغرسنا في نفوس الجميع ثقافة الإحسان، يكون في هذا تربية وتهذيب للنفس، وفي الوقت نفسه أخذ بمفهوم فروض الكفاية.. فيشارك في هذ العمل الفقير والغني، والمهندس والطبيب، والوزير والحارس.. كل بما يتقنه، فيعمل وزير الصحة مثلا في مستشفى شعبي نصف يوم في أسبوع أو أسبوعين أو يوما في شهر.. ومجالات التطوع واسعة، كدور العجزة والأيتام وتعليم الأميين وتنظيف المدن والقرى والشواطئ.. وعلى كبار القوم البداءة بإعطاء المثال، فيتعلم الجميع خلق التواضع وخدمة الآخر.. وفكرة التطوع فكرة إسلامية أصيلة، فنحتاج لتطويرها و أيضا لإغنائها بهذا البعد التربوي الذي رامه المتصوفة، والذي ربما تطرف بعضهم في بعض أساليب تحقيقه. والله يعلم، ونحن لا نعلم، إنما نظن ظنا وما نحن بمستيقنين.
 يتبع..

هناك تعليق واحد:

  1. أستاذي الفاضل إلياس بلكا، السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته.
    إن انفتاحكم على الفكر الصوفي،قراءة وكتابة، و إثارتكم للمسائل التي رأيتم أنه من الواجب البث فيها، مشروع جيد، لكن الحق أن مشروعا من هذا القبيل لا بد له من باحث جمع بين الفقه و التصوف ،و هو جمع بين الفقه و الطريقة...إذ لا يكفي تحصيل علم التصوف من الأوراق لمعرفة الخطاب الصوفي معنا و مقصدا.
    لذلك أرى أن الكتابة في التصوف هي كتابة واهمة إن كان صاحبها لم و لا يمارس التصوف.

    ردحذف