السبت، 8 فبراير 2014

سلسلة التصوف السلفي(9): الصعق والذوبان في الأدب الصوفي.

سلسلة التصوف السلفي(9): الصعق والذوبان في الأدب الصوفي. 
 
باب فيمن مات صعقا، أو تلاشى، عند شهود شيء من الأنوار الإلهية أو ورود حال.

 
إلياس بلكا
 
توجد قصص وأسماء كثيرة عمّن مات صعقا عند سماع القرآن الكريم، أو عند مشاهدة أمر من عالم الغيب.. وخاصة من ذاب تماما وتلاشى عند مشهادته لمظهر من جلال الله تعالى وعظمته.
ولكي أقرب إلى القارئ الفكرة، أذكر له هنا ما كتبه فضيلة الشيخ الدكتور عبد الجليل العبادلة، من علماء الأردن، ثم أتبعه بتعليق:
وقد قرأت للبعض أنه ذكر لأبي يزيد رضي الله عنه أن شابا كان يصرح بأنه يرى الله. فقال إنما يراه على قدره، ولو حضر مجلسنا ورآه على قدرنا لصعق. وبلغ كلامه إلى الشاب، وفعلا حضر المجلس، ومنّ الله عليه بالشهادة في هذا المجلس. وشهداء الحضرة هؤلاء أكثر من أن يحصروا. نبه عليهم الإمام السيوطي رحمه الله في كتبه، وخصوصا أولئك الذين صعقوا بسماع آيات من القرآن الكريم. وقد توفي ابن حضرة سيدنا علي نور الدين اليشرطي في أثناء حضرة الذكر، وقال عنه هو شهيد الحضرة.
والله جل جلاله يمنّ على من يشاء من عباده بمثل هذه التجليات فيما يتعرّف به على عباده من حقائق الأسماء والصفات. منهم من يصعق ولا يطيق، ومنهم من يذوب حتى يتلاشى. وقد حدثني الشيخ أحمد عقيل كان من تلامذة محدث الشرق بدر الدين الحسني وكان من كبار العلماء أن الشيخ أمرالمريدين أن يدخلوا الخلوة ثلاثة أيام، وبعد انتهاء المدة افتقدوا واحدا منهم ودخلوا الغرفة فلم يجدوا من أثره إلا شحمة بيضاء قدر الأصبع. وأشار إلى عينيه اللتين بهما رأى هذا المشهد. وقد أمر الشيخ أن توضع على قطنة وتُلف، وصلوا عليه. وإذا كان من هو من أولي العزم من الرسل قد خر صاعقا من تجلي الله على الجبل الذي جعله دكاً.. فلعلّه سأل الله ما لا طاقة له على تحمله، فأشهده من أنوار الجلال ما أذابه. ولذلك جعل الله لنا في خواتيم سورة البقرة ما يرشدنا أن نطلب منه سبحانه أن لا يحملنا ما لا طاقة لنا به. فسبحان الكبير المتعال الذي لا يصمد أمام مواجهته بصفته -صفة الألوهية القاهرة- إلا من ثبته. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.  

هذا تعليق كتبته على هامش المقال السابق:
 
القاعدة أن الاستماع إلى القرآن الكريم بخشوع وتأثر مطلوب. أما أن يصل ذلك إلى الموت، فهذا وقع كثيرا حتى صنف بعض العلماء كتبا عن "قتلى القرآن"، أي الذين ماتوا بسبب ذلك.. لكن هذا دون درجة الكمال، لأن الكمال هو في التأثر بالقرآن مع الاحتفاظ بالوعي التام، كما كان حال الأنبياء والصحابة.. لكن من يقع مثلا مغشيا عليه لسماعه القرآن، فإن كان مغلوبا فلا بأس بذلك، بل يدل ذلك على رقة ورهافة شعور وإيمان.. أما أن يتعمد ذلك فلا يجوز. يبقى هل يمكن مثلا لإنسان أن يذوب تماما في خلوة ينعزل فيها ويتفرغ للذكر.. أقول هذا ممكن، لا استحالة فيه.. تماما كالجبل الذي تجلى له الله سبحانه بنوره فذاب الجبل وانفجر إلى ذرات.. في قصة موسى. لكن ليس واجبا تصديق مثل الحكاية التي أوردتها عن الذي ذاب في الخلوة، إنما الواجب تصديق القرآن والسنة الصحيحة.. وأمثال تلك الحكايات للاستئناس والاعتبار.. والله أعلم.
ثم وجدت هذا النص لابن تيمية رضي الله عنه: قال :...غالب ما يحكى من المبالغة في هذا الباب إنما هو عن عُباد أهل البصرة، مثل حكاية من مات أو غشي عليه في سماع القرآن،ونحوه كقصة زرارة بن أوفى قاضي البصرة فإنه قرأ القرآن في صلاة الفجر:(فإذا نقر في الناقور) فخر ميتاً...وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن،ولم يكن في الصحابة من هذا حاله فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين كأسماء بنت أبي بكر وعبدالله بن الزبير وابن سيرين ونحوهم.. والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه،وإن كان حال الثابت أكمل منه..لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن، وهي وجل القلوب ودموع العيون واقشعرار الجلود كما قال تعالى:(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون)...أهـ.
ومما يمكن ذكره هنا حديث صحيح مسلم: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. فلا شيء يصمد لنور الله لحظة واحدة، ولو تجلى الله سبحانه بذرة من نوره العظيم على الكون لاحترق الكون كله وانتهى بجميع ما فيه، إذ لا يطيقه، ولا شيء يطيق جلال الله تعالى لا صغيرا ولا كبيرا.. لذا من صفات الله: الباطن، لأنه لو ظهر لخلقه لتلاشوا وماتوا، فحجبهم عن رؤيته سبحانه في هذه الدار الدنيا. فحجاب الله نور. ولذلك لما عرج بنبينا إلى السماوات صحبه جبريل عليه السلام حتى وصلا إلى سدرة المنتهى، وقف جبريل عليه السلام وأخبر النبي عليه السلام بأن هذا مبلغه وأنه لا يستطيع أن يتقدم وإلا انتهى واحترق.. فسبحان الله نور السماوات والأرض وما بينهما..
وهذا الموضوع يسمى موضوع "الحجب النورانية".. والخلاصة كما قال الشيخ عبد الله الجبرين في شرح أحاديث الاحتجاب بالنور أو حُجُب النور ما يلي: هذه أحاديث كما سمعنا، وآثار يؤخذ منها من تعظيم الخالق سبحانه علوه وارتفاعه، وكذلك أيضًا عظمته في خلقه لما خلق.
ومن جملة ذلك خلقه لهذه الحجب التي احتجب بها عن خلقه. ورد في حديث صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .
هكذا في هذا الحديث أخبر بأن حجابه النور الذي احتجب به عن خلقه، خلق هذا النور، واحتجب به عن خلقه مع أنه عالم بهم ومطلع عليهم، ولا يخفى عليه من أمرهم شيء. وبهذه الأحاديث التي سمعنا تعداد الحجب إذ بها أن بين الرب تعالى وبين أدنى خلقه أربعة حجب؛ كل حجاب سمكه أو عرضه ما بين سماء إلى سماء؛ أي: مسيرة خمسمائة سنة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق