السبت، 8 فبراير 2014

سلسلة التصوف السلفي(8): مقام الرضا وجمال التسليم بالقدر والقضا.

مقام الرضا وجمال التسليم بالقدر والقضا.
تأليف: إلياس بلكا.
هذا مقام كبير، بل من أفضلها وأقربها إلى الله تعالى. ويعني الرضا أن يصل العبد إلى درجة عميقة من الرضا بحاله وبما خلقه الله عليه وبما كتبه له أو قدّره عليه. وقد يظن كثير من الناس أن هذه الدرجة سهلة المنال، بل قد يحسب كثير منهم أنهم متحققون بها وأنهم  راضون بالله وبما قسمه لهم.. لكن الحقيقة غير ذلك.  وحقيقة الأمر أن الإنسان في الدنيا خلِق طلاّبا للأشياء راغبا من الزيادة  في كل خير، كما وصفه الله تعالى: ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث. ذلك متاع الحياة الدنيا.) وأهم شهوات الدنيا ثلاثة: الجاه أو السلطة، والمال بأنواعه، والمرأة (بالنسبة للرجل، والرجل بالنسبة للمرأة).. هكذا الإنسان لا يمل من شهواته ولا يفتر عن تلبيتها، فهو دائم البحث والتفتيش عنها والركض وراءها.. وإذا حصّلها استشرفت نفسه إلى المزيد، ثم إذا وصل إلى المزيد تطلع إلى مزيد المزيد.. كالعطشان الذي لا يزيده شرب الماء المالح إلا عطشا.. أما إذا لم يحصل من هذه الشهوات إلا على بعضها، أو على قليل منها كلها، فإنه ينقلب إلى إنسان غاضب.. وهنا يأتي موضوع الرضا بالله والرضا عن الله. هذا الإنسان الغاضب قد يكون غاضبا من بشر آخرين، ممن يعايشهم في بيئته الاجتماعية والمهنية.. ونحو ذلك. وقد يكون غاضبا من نفسه، ويعرف علم النفس المعاصر هذه الحالة حيث يكره الإنسان نفسه ويحملها "فشله"، وربما لذلك نهى نبينا عليه السلام أن يسبّ الإنسان نفسه، فمن أهم أسباب اضطرابات الشخصية في الطب النفسي حين يفقد الإنسان تقدير ذاته وحين لا يعود يحترم نفسه... هذه الأنواع من الغضب معروفة ويمكن لأي مراقب أن يلاحظها في الحياة الاجتماعية. لكن أخطر أنواع الغضب هو – والعياذ بالله- الغضب من الله جل وعلا! وقد يستغرب بعض الناس ذلك، لكن هذه الحقيقة موجودة، وتقع للمسلم ولغير المسلم.. فغير المؤمن يعرف في قرارة نفسه أن لهذا الكون خالقا وللحياة ربا، لذلك إذا تعرض لمكروه  أو لم ينل مرغوبا قد يتولد عنده إحساس بالسخط. والمسلم أيضا قد يقع له ذلك رغم إيمانه بالله وإسلامه. وأصل ذلك يتولد من اعتقاد الإنسان أنه يستحق الخير، كما يراه هو، وأنه لا يجدر به أن يصيبه أي تعب وأي مكروه في بدنه أو أهله أو ماله.. فهو الغرور إذن: هذا الشعور السيء الذي ركبه الله تعالى في النفس البشرية، فمن الناس من يكسر غروره ومنهم من يزيده وينميه. والغرور يجعل المرء يعتقد أنه على هدى مستقيم وأن من حقه أن يتمتع  بطيبات الدنيا دون أن يصيبه شيء من سيئاتها. لذلك يحكي القرآن الكريم كيف أن الإنسان يفهم الخير والنعمة على أنه إكرام يستحقه، ويفهم الشر والضيق على أنه إهانة من ربه، فيسخط لذلك: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعّمه فيقول ربي أكرمني. وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني). فالحكمة هي الابتلاء، كما قال الشيخ الحراق: رحِمك بأكدار الدنيا ليزعجك إليه، وأشهدك محاسن الآخرة لتقبل بكليتك عليه. لذلك من الحكم العطائية: ابن عطاء الله: من لم يُقبل على الله بعواطف الامتننان سيق إليه بسلاسل الامتحان.
فهذا السخط، أي حين يغضب المرء من ربه، قد يكون بالكلام وقد يكون بأحاديث النفس. وهذا كله خطأ، وأشده الكلام لأن الإنسان مؤاخذ بلسانه، بينما وساوس النفس معفوٌّ عنها إلا إذا صارت عزما. وطريق إصلاح هذا  أن يعرف العبد أنه لا يستحق شيئا على الله، فقد سبق حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئا مذكورا، بل كان عدما وفي العدم، ولمّا كان الله طيبا كريما جوادا فقد أخرج الإنسان من العدم وجعله في أحسن تقويم وزوّده بالحواس والأعضاء  ومهّد له الأرض وسهل له الحياة عليها.. فهذا كله فضل محض من الإله الكريم، ولو شاء الله ألاّ يخلق الإنسان لفعل، إذ لا مُكره له، ولو شاء أن يعدم البشرية كلها ولا يبعثها مرة أخرى.. لفعل، وليس لأحد الحق في شيء. إذن وجودنا نحن محض تفضّل من الله :( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد).
لكن من عظيم كرم الرب سبحانه أنه لم يخلقنا فحسب من العدم، بل إنه وعدنا أن يبعثنا بعد الموت، وأرسل إلينا أنبياءه ليشرحوا لنا كيف أن هذا الرب الرحيم أعدّ لنا حياة أخرى بعد الموت، ليس فيها مرض ولا عدم ولا تعب، فهي الجنة التي خلقها من أجلنا، ولكي نعيش إن شاء الله في جوار ربنا إلى ما لا نهاية.. هكذا بلا نهاية، فهو خلود  أبدي في ظل رب كريم وجليل وعظيم ورؤوف.. وهذا كله جود من الجواد لا يحدّ، وكرم من الكريم لا يوصف. أما نحن فبأي شيء نعتبر أنه "يجب" أن يكون لنا كذا وكذا من متاع هذه الدنيا الفانية..
إن تأمل هذا المعنى ورسوخه في القلب، وأفضل العبادة التفكر كما جاء في الآثار، يؤدي إلى إدراك المؤمن لدرجة الحمد والشكر، فيكون حامدا لله شاكرا لأنعمه متعجبا من فيضه معترفا بتقصيره وبـ"كفره" للنعمة. ثم من الشكر يصير إلى الرضا، فيرضى عن ربه ولا يسخط من قدره شيئا. والإيمان بالقضاء والقدر يتفرع عن الرضا، حيث يرضى المؤمن بما قدّره الله عليه وبما اختاره له، فهو لا يحسد غيره ولا يقارن حاله بحال من يظن هو أنه على خير وفير، ولا يتسخّط .
وهذا لا يمنعه إن كان في وضع هو  دون ما يأمل ويحب أن يسعى إلى إصلاحه، وأن يبذل جهده في تجاوزه.. فهو يأخذ بالأسباب الدنيوية والمشروعة، ويحاول أن يزداد من الحلال بالحلال.. ثم لا يضره أنجح أم فشل، فلا يفرح لدرجة البطر بخير أصابه، ولا يحزن لدرجة اليأس بشرّ كان من نصيبه، وهو في الحالين معا  راض بالله، قانع بما قسمه له.
إن الرضا والشكر وتقبل القدر .. أمور مترابطة فيما بينها. وقد فهم بعض الناس منها السلبية التامة في الحياة  وعدم الفعل وضعف السعي.. كما أن بعض التراث الصوفي كان يشجع على ذلك، ويحشد له نصوصا في غير سياقها وحكايات أحوال لا ينبغي أن يحتج بها.. لكن الصواب والذي بيّنه كبار العلماء من الفقهاء والصوفية.. من السلف والخلف.. غير ذلك. فالمقصود بالرضا هو الفرح بالله على أيّ حال كنت، فأنت إذا شعرت بأعماق قلبك أنك فرح بربك، سعيد به، مطمئن له في باطنك.. في جميع أحوالك على تباينها واختلافها.. فأنت راض بربك.
والحقيقة أن مقام الرضا صعب المورد، لا يتحقق على الكمال إلا بجهاد واجتهاد، لأن للنفس الأمارة بالسوء  قوة على صاحبها وسطوة عليه، فالعقل المؤمن يجذب صاحبه إلى الرضا وهي تجذبه إلى السخط والمطالبة.. لكن على المؤمن أن يحاول دائما ترويض نفسه، كما يفعل مع الحيوان الجموح، ومع الزمن ستتحول نفسه الأمارة أو اللوامة إلى النفس المطمئنة.. تلك التي يقال لها لما تغادر الدنيا وترتفع عاليا إلى السماء في صحبة ملائكة كرام: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي..) هكذا فجزاء من رضي عن ربه أن الله في علاه يرضى عنه، وأي شيء أفضل من أن تربح رضى الله عليك... فعليك لتنال رضا الله أن تبادله أنت أيضا بالرضا.. وأن تعرف أن مَقامك حيث أقامك.

هناك تعليق واحد:

  1. فغير المؤمن يعرف في قرارة نفسه أن لهذا الكون خالقا وللحياة ربا، لذلك إذا تعرض لمكروه أو لم ينل مرغوبا قد يتولد عنده إحساس بالسخط. والمسلم أيضا قد يقع له ذلك رغم إيمانه بالله وإسلامه. وأصل ذلك يتولد من اعتقاد الإنسان أنه يستحق الخير، كما يراه هو، وأنه لا يجدر به أن يصيبه أي تعب وأي مكروه في بدنه أو أهله أو ماله.. فهو الغرور إذن: هذا الشعور السيء الذي ركبه الله تعالى في النفس البشرية، فمن الناس من يكسر غروره ومنهم من يزيده وينميه. والغرور يجعل المرء يعتقد أنه على هدى مستقيم وأن من حقه أن يتمتع بطيبات الدنيا دون أن يصيبه شيء من سيئاتها. لذلك يحكي القرآن الكريم كيف أن الإنسان يفهم الخير والنعمة على أنه إكرام يستحقه، ويفهم الشر والضيق على أنه إهانة من ربه، فيسخط لذلك: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعّمه فيقول ربي أكرمني. وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني). فالحكمة هي الابتلاء، كما قال الشيخ الحراق: رحِمك بأكدار الدنيا ليزعجك إليه، وأشهدك محاسن الآخرة لتقبل بكليتك عليه. لذلك من الحكم العطائية: ابن عطاء الله: من لم يُقبل على الله بعواطف الامتننان سيق إليه بسلاسل الامتحان.

    ردحذف