السبت، 24 نوفمبر 2012

لماذا صفحة دين وفكر؟ مقالي بجريدة الأخبار، الجمعة 23 نوفمبر.

      تخصص جريدة الأخبار صفحة خاصة  كل يوم جمعة لقضايا الدين والفكر الإسلامي. لماذا هذه الصفحة، وما الداعي لها؟ هذا ما أحاول الإجابة عنه في هذه المقالة بحسب رأيي واجتهادي من خلال الأسباب التالية:

لماذا صفحة "دين وفكر" ؟
إلياس بلكا
تخصص جريدة الأخبار صفحة خاصة  كل يوم جمعة لقضايا الدين والفكر الإسلامي. لماذا هذه الصفحة، وما الداعي لها؟ هذا ما أحاول الإجابة عنه في هذه المقالة بحسب رأيي واجتهادي من خلال الأسباب التالية:
1- هوية المغرب:
المغرب بلد مسلم، شكل الإسلام أساس هويته التاريخية ولا يزال.. حتى كتب الأمريكي لاندو في كتابه "المغاربة بين الأمس واليوم" كلمة مختصرة، لكنها بليغة وجدّ معبرة عن مكانة الدين في المغرب، قال: "بدون الإسلام يجد المغربي نفسه بلا بوصلة ولا مرساة."
لقد صاغ الإسلام شخصية البلاد، وأسهم بشكل هائل في تحديد ملامحها، بحيث لا يمكن – إلى اليوم- تصور المغرب بلا إسلام. وإن عددا مهما من ثقافات المغاربة وعاداتهم وتقاليدهم..  يرجع إلى أصول إسلامية، لذلك من الطبيعي أن يكون لهذا الدين حضور في حاضر البلد كما  في ماضيه، وعلى جميع المستويات: السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية..
2- أهمية الدين في عالم اليوم:
تعرف الأديان عموما نهضة في عالمنا هذا، بل سجل الباحثون تقدما لجميع الأديان بمختلف جهات العالم بما في ذلك أمريكا، والاستثناء الوحيد هو أوربا حيث يتراجع التدين.
ومن أكثر هذه الأديان حيوية ونشاطا في أيامنا هذه: الإسلام. فلهذا الدين حضور دولي وازن، ولا يمكن تجاهله. بل يخبرنا التاريخ بأنه يستحيل تجاوز الإسلام في أي عملية إصلاح أو تنمية. فقد  كان دوما دافعا للنهوض، وهو بذلك يختلف عن المسيحية، إذ وجدت أوربا أن الكنيسة عائق كبير في طريق نهضتها، فكان الحل هو الثورة على الكاثوليكية، والتي أطلق عليها فيما بعد: الإصلاح الديني. لذلك لا يمكن الحديث عن إصلاح إسلامي يماثل الإصلاح المسيحي، كما لا يمكن تكرار درس التجربة الأوربية في آخر العصر الوسيط وبداية النهضة. وأصل الخطا يأتي من أن بعض أهل الفكر العرب تشبعوا بالثقافة الأوربية كثيرا، فظنوا أنه يمكن تكرار التاريخ الأوربي بالعالم العربي-الإسلامي، وما دروا أن التاريخ لا يكرر نفسه، وأن الصيرورة الأوربية محلية لا عالمية، لذلك لم تستنسخها الحضارات الأخرى: الهندية والصينية واليابانية والكورية.. وحتى الروسية.
وبالمقابل يحتوي الإسلام على إمكانيات ضخمة للنهوض الحضاري يلخصها مفهوم إسلامي أصيل هو: التجديد، وهو مفهوم قادر على الدفع  بالأمة إلى الأحسن دون أن تضطر إلى إلغاء هويتها الدينية الراسخة. بل يمكن قراءة التاريخ السياسي للمغرب نفسه بأنه تاريخ التجديد ومحاولة التجديد، أو على الأقل بادعاء ذلك، فالأدارسة والمرابطون والموحدون.. أصحاب دعوة في بداية مطافهم وظهورهم.
والخلاصة أن تاريخ الأمة يدل على أنها لم تعرف ظاهرة إصلاح الدين، كأوربا، وإنما لجأت دائما إلى سبيل الإصلاح بالدين.. لذلك ينبغي الاستفادة من الإمكانات الضخمة التي يحملها الإسلام لتحقيق أهدافنا في النهضة والتنمية..
3- الحاجة إلى القيم:
انتهى العالم  -في الفترة الأخيرة خاصة- إلى خطورة قضية القيم، فلا نهضة ولا قوة ولا نجاح بدون قيم. لقد توصلت العلوم الاجتماعية إلى أنه لابد أن يقوم  منهجها في البحث  على أساس من القيم، وأن ذلك لا يقدح ذلك في الموضوعية العلمية. كما اكتشف عالم الاقتصاد قيمة القيم، خاصة مع الانهيار المالي الأخير، إذ كان من أهم أسبابه جشع الأبناك وفوضى البورصة وكذب المدراء.. حتى عاد علماء الاقتصاد يتحدثون عن ضرورة استحضار القيم في عالم المال والأعمال. كذلك السياسة التي كان يثنظر إليها على أنها ممارسة بلا أخلاق.. الآن يقولون لابد فيها من أخلاق، فتحاسب الشعوب قادتها على الكذب وخيانة الأمانة والأسرة ومصادر المال.. بل تراقب حتى علاقاتهم العاطفية (مثال كلينتون والجنرال بيترايوس..).
والحق أننا مهما حاولنا أن نفكر في القيم فنستنبطها أو نضعها.. فسنجد أنها وثيقة الصلة بالدين، فأساس القيم هو المعتقدات والأفكار، وأكثرها يعود إلى الأديان، خاصة السماوية منها، والتي  تحتوي على قيم حضارية عديدة، حتى إن بعض الدارسين من الغرب يعتبرون أن الأخلاق هي جوهر المسيحية.
4- الوسطية الإسلامية ضرورة:
حافظت الوسطية على استمرار المجتمع المسلم الذي عرف أنواعا من الغلو، وحفظته من مخاطر عدّة طيلة تاريخه.  ونحتاج  اليوم إلى منهج الوسطية، فعالمنا العربي- الإسلامي يعاني من تحديات عدّة، بعضها يتعلق بمشكلات الغلو في الدين أو عنه، وبعضها يخص قضايا التنمية وبناء الدولة والعلاقات مع الآخر، ومنها ما يتعلق بالتعليم والتربية والأخلاق.. وهذه المشكلات مترابطة فيما بينها، ويؤثر بعضها في بعض، حتى لكأنها مظاهر لمشكلة واحدة. لذلك ما لم نرسخ في حياة الأمة سبيل الوسطية الإسلامية، وما لم نجتمع على ذلك ونعترف به ونعمل بمقتضاه.. فإن هذا العالم سيظل يتخبط في سيره، ولن ينجح في تخطي هذه المشكلات التي تعوق نهوضه وبناء نموذجه الحضاري.
ولو أخذنا التطرف نموذجا، فسنجد أننا نعاني من نوعين منه: التطرف الإسلامي، أعني الذي يرفع شعار الإسلام؛ والتطرف العلماني، وهو المصرّ على إزاحة الدين من الحياة تماما وبناء مجتمع لا علاقة له بالإسلام إلا في أضيق الحدود، وهي حدود العبادات والشعائر في الغالب. فالإسلام ليس فقط ضحية الغلو فيه، بل كذلك ضحية الغلو عنه.
إن الوسطية الإسلامية هي الحل، وهي نافعة لمعالجة التطرفين معا، وردّهما إلى سواء السبيل. قال الله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله. ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون.)
ومن أبرز أسباب غياب الوسطية لدى فئات واسعة من الشباب: عدم توفر تربية دينية سليمة وثقافة إسلامية صحيحة، فيعاني الشباب من فراغ معرفي وتربوي  يصبح معه فريسة سهلة لكل أنواع التطرف، بشقيه: الإسلامي والعلماني. لذلك يجب أن نقدم لشبابنا ثقافة إسلامية وسطية بمختلف الوسائل، بما في ذلك الإعلام.
إن كثيرا من أجيالنا تعاني من الجهل بالإسلام، وأحيانا بالحدّ الأدنى من المعرفة به وبعلومه وحضارته. بينما تعاني أجيال أخرى من جهل مركب  بالدين، فتعرفه معرفة منقوصة، وأحيانا كثيرة مشوشة ومشوهة. وهذا جهل أخطر. 
لابد إذن من اكتساب الثقافة الإسلامية، والتي هي مجموع المعارف والمعلومات النظرية والخبرات العملية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية التي يكتسبها الإنسان ويحدد في ضوئها طريقة تفكيره ومنهج سلوكه في الحياة.. وقد يسمى هذا المجموع أيضا بالفكر الإسلامي، أي التراث العلمي والذهني الذي أنتجه المسلمون في مختلف الحقول المعرفية. وهو تراث نظري وعملي.. يحاول أن يستهدي بالوحي، فينجح أحيانا ويفشل حينا، لذلك فهو نتاج إنساني لجدل الدين المتعالي والواقع النسبي. أما مصطلح الحضارة الإسلامية فيعني دراسة النواحي المدنية والعمرانية في تاريخ الأمة الإسلامية. فالتركيز هنا على الجانب الحضاري في التاريخ الإسلامي، أي جانب العمران وما فيه من بناء وعمارة وصناعة وعلوم وفنون.. بينما كلمة (دراسات إسلامية) مصطلح عام، فكل دراسة لها علاقة بالإسلام باعتباره دينا، أو باعتباره تاريخا أو حاضرا.. يندرج تحت مسمى الدراسات الإسلامية.
يمكن أن نصف صفة الأخبار "دين وفكر" بأنها أقرب لمجال الدراسات الإسلامية، خاصة في شقيها: الحضاري والفكري.
 5- مشكلة الأمة فكرية أساسا:
يلح كثير من الكُتاب اليوم على أن جوهر أزمة الأمة فكري، أي يتعلق بنظام التفكير وأولوياته ومصادره. فأي خلل في فهم الدين أو فهم الواقع، أو كليهما، يؤدي لا محالة إلى خلل في السلوك. ومنهج النظر إلى الإنسان والكون والحياة هو الذي يحدد شكل حضارة ما، ويحكم عليها بالنجاح أو الفشل.
إذن ليس غريبا أن يتفق زعماء  الإصلاح  على أن التعليم والثقافة  من أهم المداخل لتغيير الأوضاع السيئة للعالم الإسلامي، وللدفع به قدما إلى الأمام. فهذه قاعدة مسلّمة عند جميع المصلحين طيلة القرنين الماضيين، من رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده إلى عبد المتعال الصعيدي وعلال الفاسي وعبد الحميد بن باديس ومالك بن نبي. ويمكن أن تقرأ عن هذا عند شكيب أرسلان  في كتابه: "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟ "، أو عند محمد عبده في كثير مما كتب، خاصة: الإسلام بين العلم والمدنية..
6-  خطورة إهمال الثقافة الدينية:
وذلك من جهتين:
أولا - تعدد مصادر الثقافة الدينية اليوم:
من أهم خصائص زمن العولمة انهيار الحدود بين الثقافات والشعوب. لا يحصى عدد ما يجري يوميا من المبادلات الاقتصادية وتبادل المنافع والخدمات، ولا أعداد المسافرين في كل اتجاه، ولا كمّ المعلومات المتنقلة عبر القارات، ولا حجم الأثر والتأثير بين بني البشر. ولسنا في هذه الدوامة بدعا بين الأمم، بل نحن في قلبها، وربما كنّا آخر من يقاوم في هذا العالم جوانبها السلبية. هكذا يجد الإنسان العربي والمسلم نفسه شبه ضائع في هذا العالم المتحرك الصاخب، فتأتيه الأفكار من كل حدب وصوب: الشبكة العنكبوتية، والقنوات الفضائية، والكتاب والمجلة.. أحيانا يكون الاستهداف مباشرا، وأحيانا بالإيحاء أو الرمز. أحيانا بعفوية وحسن نية، وأحيانا عن سوء قصد وتعمد.. وعلى المغرب  أن يقدم ثقافته الدينية أيضا، لا أن يكتفي بالتفرج أو استنكار ما لا يعجبه، أو ادعاء الخصوصية.. فهذا لن يمنع من تدفق المعلومة الدينية والفكرة الدينية من العالم، باختلافها وتنوع أحوالها.. والفكرة لا تواجه إلا بالفكرة، والمعلومة تعوض بالمعلومة.
 ثانيا- الثقافة الدينية لا تحتمل الفراغ.
إن الناس يحتاجون إلى الدين وإلى ثقافته وعطائه، والذين يتصورون أنه  لا ضرر في إهمال الثقافة الإسلامية، أو التقليل منها ومن شأنها، في المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام، وأنه لا أولوية لذلك.. هؤلاء واهمون ومخطئون، لأن الناس ستبحث حتما عن هذه الثقافة أينما وجدت، وستتشبع بها كيفما كانت، فإذا ظهر بينهم ما لا نحب.. فهو أمر وارد ومتوقع. لذلك فالحلّ في توفير المعرفة الإسلامية الوسطية، والتربية عليها.
نــــــــــــــــــــــــــــــــداء:
وهنا نصل لمربط الفرس كما يقولون. إذ هذا الكلام الذي كتبتـُه أكثره معروف ومتداول بين أهل الفكر والمعرفة. لكن المشكلة أننا لم نبذل الجهد الكافي لتحويله إلى واقع ومشاريع بحث وكتابات. نحن لا نكتب إلا نادرا. وهذه أم المشكلات بالنسبة للمثقفين المغاربة: لا يكتبون ولا يؤلفون.. يحبون أن يتكلموا ويتحدثوا ويحاضروا.. وبعضهم لا يتوقف عن الثرثرة.  لكنهم قلما يكتبون، بخلاف بعض الشعوب كالمصريين مثلا. لذلك أدعو كل من له فكرة، وكل من يعرف فائدة.. ألا يبخل بها على بني وطنه، وأدعوه لأن يكتب ويرسل ما كتب لـ"لأخبار"، فالجريدة ترحب بذلك، إذ هي جريدة جميع المثقفين والكاتبين على اختلاف مشاربهم وأهوائهم. وليس مهما أن تكتب كتابا كبيرا، ولا مقالا عظيما، ولا شيئا تقوم له الدنيا ولا تقعد.. كن قنوعا. ثم من جهة أخرى اعلم أن ما تكتب قد يكون في عينك بسيطا، لكنه في عين القارئ كبير.. اكتب فقط.
إلياس بلكا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق