الأربعاء، 14 نوفمبر 2012

كتاب "الهوية البربرية" للأستاذة دليلة أزرقي.


الهوية البربرية
عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
يتناول هذا الكتاب قضية الهوية البربرية في الجزائر, وبحكم تكوين مؤلفته دليلة أرزقي أستاذة علم النفس في جامعة تيزي وزو (أكبر مدن منطقة القبائل) الجزائرية، فإن الكتاب ليس سياسياً بل يخلط بين الجوانب النفسية والمطالب السياسية في محاولة لتفسير الانتقال من مرحلة الكبت إلى مرحلة العنف، مع التركيز على تطور المطلب الأمازيغي لكن من خلال تحليل المشهد اللغوي في الجزائر ومسألة الهوية وتوضيح الهوة بين اللغة اليومية واللغة الرسمية.

- اسم الكتاب: الهوية البربرية.. من الكبت البربري إلى العنف
- المؤلف: دليلة أرزقي
- عدد الصفحات: 291
- الطبعة: الأولى 2004
- الناشر: سيغيي، باريس
إشكالية لغوية

تقول الكاتبة إن الجزائر مقسمة عموماً إلى عرب وبربر، يتقاسمون في معظمهم الدين الإسلامي. وإبان الاستعمار الفرنسي، وبغض النظر عن اللغة المستخدمة، فإن الجزائريين كانوا متضامنين في مواجهة المضطهد، لكن مع الاستقلال حدث انقسام حيث أصبح كل واحد يعبر عن انتمائه لمجموعته.

وتحت قبضة الدولة تميز المشهد اللغوي بوجود أربع لغات هي اللهجة العربية واللغة العربية الفصحى والأمازيغية والفرنسية، إلا أن مختلف اللغات قلص من شأنها لصالح العربية الفصحى التي فرضت خاصة في قطاع التعليم.

وترى الكاتبة أن المشاكل اللغوية خلقت لدى الطفل الجزائري (من جيل ما بعد 1962) اضطرابات إدراكية ومعرفية، شعورية ونفسية ساهمت في الإخفاق المدرسي وفي ردود الفعل الصراعية لدى المراهق ثم الراشد.

وعليه فهي ترى أن الجزائر تعاني ظواهر تثاقف تنجر عنها مشاكل نفسية داخل شخصية الجزائري، ومن هنا تقوم علاقات صراعية، إذ هو في حيرة أمام ثقافة ذات توجه حداثي، تنقلها وسائل الإعلام، وثقافة ذات توجه تقليدي تنقلها "القيم-الملجأ".

وآليات التثاقف هي مصدر تنافر في نظام المعايير المرجعية، مما أفسح المجال لتطور صراع مزدوج داخل الشخصية وبينها وبين غيرها. وفي هذا الإطار تندرج إشكالية الهوية. وقد يتخذ البحث عن الهوية أشكالاً متعددة: اكتئاب، مطالبة، مقاومة، عدوانية، عنف... وتتقاسم هذه الأشكال عامل الكبت الذي يمكن اعتباره لازمة لمشاكل الجزائريين.

"
المشاكل اللغوية خلقت لدى الطفل الجزائري اضطرابات إدراكية ومعرفية شعورية ونفسية ساهمت في الإخفاق المدرسي وفي ردود الفعل الصراعية لدى المراهق ثم الراشد
"
بحكم وجوده في حيرة بين ثقافة أوروبية (فرنسية تحديداً)، حداثية التوجه، تعبر عنها وسائل الإعلام، وثقافة مجموعة الانتماء (البربرية أو العربية) تقليدية التوجه، تنقلها "القيم-الملجأ"، فإن الجيل الجديد من الجزائريين يعيش في التباس بشأن الهوية. وتأتي أزمة الهوية من قطيعة وحدة الحس وغياب المعالم. وإذا كان "التفاعل بين الهوية الشخصية والهوية الاجتماعية" غير سوي فإنه "قد يتسبب في خلل بين التطلعات الشخصية والقيود الاجتماعية".

هذه الأزمة الوجودية التي ترافق أزمة الهوية تجعل الأفراد يلجؤون إلى "القيم-الملجأ" لجانبها الأيديولوجي الآمن. وهذه المعالم الجديدة التعويضية الأكثر جذبًا تتمثل في "المقدس" بالنسبة للبعض، واللغة الأم بالنسبة للبعض الآخر.

قطيعة بين اللغة اليومية ولغة المدرسة
بعد مقاربة نفسية تحليلية لمختلف جوانب الشخصية بصفة عامة واضطراباتها وللطبيعة الثقافية للهوية، تنتقل المؤلفة إلى الحديث عن أزمات المجتمع والهوية من منطلق عام للتوقف عند الحالة الجزائرية.

وتقول إن اللغة لم تعد "موضع التقاء"، وفي غالب الأحيان ليست همزة وصل مع العائلة، لذا فالطفل يعيش تصدعاً بين "ما دون الثقافة" التي تنقلها العائلة وبالتحديد الأم، والثقافة التي تنقلها المدرسة، حيث تنشأ هوة بين اللغة الأم التي سمحت له، إلى حد الآن، بأن تكون له علاقة تعبيرية وجدانية (تجعله في مأمن) مع الأم، وبين اللغة التي "يكتشفها" في المدرسة.

فمباشرة بعد الاستقلال، حددت الدولة العربية الفصحى لغة للجزائر. وبالتالي فالبحث عن "الأصالة" كان عبر البعدين العربي والإسلامي على حساب البعدين البربري والفرنكفوني.

وبالتالي أصبحت هناك أربع لغات، مما أدى إلى التقليل من شأن لهجات (العربية اللهجة والبربرية) مجموعات الانتماء، التي هي لغات الحياة اليومية للطفل، ثم حلت العربية الفصحى محلها، مما أفقد الطفل أول معالمه وزعزع قوام شخصيته.. وكل هذا خلق عند الطفل اضطرابات مختلقة.

إن الذي يعيش في وسط لغوي متعدد لا يشعر فيه بالارتياح لا يتمكن من إتقان أي لغة ويصير "أمياً متعدد اللغات". أي أنه لا نفاذ لديه إلى أي شيء وخاصة المعرفة. فهو محروم حتى من هويته لكونه لا يعبر عنها بأي علاقة ذات شأن.

قطع اللغة يعني قطع قدرة المرء على الكلام. ويكون رد فعله الاكتئاب، فزلجة المرض والعنف ضد نسفه وضد غيره.

"
الشباب يعتبر أن له حقوقا منتهكة ولذا تراه ينتهك حقوق الغير رافضاً قانون المجتمع ومتمسكاً بقانون مجموعته الخاصة
"
مشاكل نفسية واجتماعية
يعاني الجزائري أيضاً مشاكل اجتماعية تزداد حدة، مثل البطالة والأمية وافتقاد السكن والفقر.. ووضع المرأة في هذا المشهد الحالك أكثر سواداً من الرجل, فهي أولى ضحايا الفقر والعنف في المجتمع، خاصة أن قانون الأسرة يجعلها مكبلة قانونياً.

فهناك اليوم جزائر النور التي يزداد فيها الأثرياء ثراءً، وجزائر الظلام التي يزداد فيها الفقراء فقراً. فالشباب البطال، المعوز.. الذي لا يرى أفقاً لمستقبله أصبح يعيش على هامش المجتمع ويحلم بالهروب إلى الخارج.. وفي انتظار ذلك، فهو يجنح لتناول المخدرات والكحول.

وبما أن الهروب إلى الخارج متعذر، فهو يهرب إلى الداخل، إلى ذاته حيث ينتهي بتصويب عنف ضدها بالانتحار الذي أضحى ظاهرة اجتماعية مرضية ومشكلة صحة عمومية حقيقية في الجزائر. إذ تشير الأرقام إلى أنه خلال الأشهر الأولى من عام 2000 انتحر 148 شخصاً وحاول 181 الانتحار.

في هذا المشهد الحالك أصبح العنف (الموجه ضد الغير) وسيلة تعبير لدى الشباب المراهق.. فهو يعتبر أن له حقوقا منتهكة ولذا تراه ينتهك حقوق الغير رافضاً قانون المجتمع ومتمسكاً بقانون مجموعته الخاصة.

بربر وعرب: الاختلافات البسيطة
إن البنية الاجتماعية للجزائر تقليدية، والتعارض يحكمه التضامن القائم على القرابة، وينطبق هذا بشكل كبير على الشعب البربري، أول من سكن المغرب العربي. ويتكون الشعب البربري من مجموعات عدة هي القبائل وبني مزاب والطوارق والشاوية والشناوة.

وتاريخياً، لم يكتب البربر بلغتهم، بل فضلوا الكتابة بلغات الغزاة الذين عرفتهم الجزائر، خاصة إبان الاحتلال الفرنسي على أساس أن استعمال لغة المحتل خير وسيلة لمحاربته.

 ورغم الإرث اللغوي البربري واستخدام قسم كبير من البربر الأمازيغية (لاسيما الذين يقطنون المناطق الجبلية مما جعلهم أقل عرضة للتأثر باللغات الأجنبية)، فإن السلطة السياسية تبنت نهجاً يتناقض وهذا التعدد اللغوي في الجزائر.

أما الفوارق فليست بربرية - عربية فقط بل بربرية-بربرية، فهناك اختلافات في نمط العيش، في الملبس وفي الأعراف، ثم إن كل فرع بربري (قبائل، شاوية، طوراق...) له لهجته الأمازيغية الخاصة به.

ومن بين هذه الفروع، يعتبر القبائل الأكثر مطالبة وبإلحاح بأصولهم وثقافتهم ولغتهم وهويتهم كما يظهر ذلك من مؤلفات بعض كتابهم وأبرزهم مولود معمري. ويتشبث القبائل بالاختلافات (عن العرب) أو "الاختلافات البسيطة" لكونها تعبر عن الهوية المطالب بها، كمطالبتهم بلغتهم.

إن القبائل يحددون اختلافهم باختلاف هويتهم التي تعبر عن نفسها بخصوصيات أخرى تزيد من دائرة الاختلافات كاختيار الأسماء والملبس والمأكل والسكن والموسيقى .. كما أنهم أكثر تحدثاً باللغة الفرنسية منهم بالعربية، وتأثروا كثيراً بالآباء البيض الكاثوليك والبروتستانت أثناء الاستعمار الفرنسي. هذه الاختلافات تشارك في اعتقادهم بهوية خاصة بهم.

"
الشرخ الاجتماعي والسياسي واللغوي جعل فئة من الشعب تتوحد في المعارضة، وستكون اللغة ناقل المقاومة، مقاومة مجموعة الانتماء
"
المطلب الأمازيغي
إن الشرخ الاجتماعي والسياسي واللغوي جعل فئة من الشعب تتوحد في المعارضة، وستكون اللغة ناقل المقاومة، مقاومة مجموعة الانتماء. فالقبائل شعروا بأن هويتهم مهانة ومنفية فحملوا المطلب الأمازيغي.

العودة إلى الأصول البربرية تعني البحث عن الهوية وذلك يمر عبر اللغة الأمازيغية. ويتعلق الأمر بإحراز اعتراف بها، بتشجيعها وبنشر الثقافة المرتبطة بها.

إلا أن الانتفاضة الأولى للمطلب البربري كانت في 20 أبريل/نيسان 1981. وقد اندلعت إثر مظاهرة طلابية في جامعة تيزي وزو، ثم في باقي كبرى المدن القبائلية، احتجاجاً على إقبال السلطات السياسية على منع مولود معمري، منظر المطلب الأمازيغي، من إلقاء محاضرة حول الشعر القبائلي القديم بطلب من الطلاب.

ومعمري كان تقريباً يعمل في السرية الجامعية بعد إلغاء الدولة لكرسي الأستاذية الأمازيغية عام (1973) الذي كان يشرف عليه في جامعة الجزائر، ثم تم توقيفه عام 1980. وتقول الكاتبة إن أعمال معمري حول الأمازيغية أيقظت اعتزاز البربر بلغتهم الأم.

المظاهرة الطلابية التي تلت توقيف معمري تم قمعها ومنذ ذلك الوقت تعرف تلك الأحداث باسم "الربيع البربري" الذي يشكل منعرجاً في تاريخ الجزائر المستقلة. وشيئاً فشيئاً أخذ "الربيع البربري" منحنى سياسياً واضحاً.

وفي العلن نظمت قيادات حركة "الربيع البربري" أول ندوة في بلاد القبائل حول "الهوية واللغات (الأمازيغية، العربية الجزائرية)،والثقافة وحرية التعبير".

أما الدولة فقد رخصت تعليم البربرية في القبائل في المؤسسات التعليمية وفي الجامعات. وأنشأت أقسام اللغة والثقافة البربريتين في جامعتي تيزي وزو وبجاية عام 1990.

وعقب مقاطعة المدارس في منطقة القبائل خلال العام الدراسي 1994-1995 تم إدراج تعليم اللغة الأمازيغية في المدارس كما تم إنشاء المفوضية السامية للأمازيغية وهي مؤسسة حكومية مهمتها رد الاعتبار للغة والثقافة الأمازيغية.

وخلال العقد الماضي ومع تصاعد الموجة الإرهابية شهدت منطقة القبائل غلياناً سياسياً خصوصاً في أوساط الشباب عقب اغتيال مطرب قبائلي شعبي معروف بمواقفه المعادية للسلطة والمدافعة عن المطلب الأمازيغي.

المنعرج التاريخي الآخر للمطلب الأمازيغي كان يوم 18 أبريل/نيسان 2001 إثر وفاة شاب برصاص قوات الدرك مما أثار سخطاً عارماً في منطقة القبائل حيث طالب السكان برحيل رجال الدرك من المنطقة.

وهكذا انطلقت شرارة الأحداث (مظاهرات وقمع للمتظاهرين وتخريب وتدمير المرافق العمومية وكل ما يرمز إلى الدولة) في كل أنحاء منطقة القبائل.

في هذا الجو السياسي المحتقن عادت منظمة العروش التقليدية القبلية إلى الواجهة بولوجها المعترك السياسي لقيادة المظاهرات وتمثيل القبائل في التفاوض مع السلطة. وقد أعطت هذه الأحداث نفساً قوياً للمطلب الأمازيغي الذي اتضحت معالمه بشكل أدق. واتضح من شعارات المتظاهرين أن هناك تشدداً واضحاً في مطالب القبائل مقارنة مع عام 1981.

وفي يونيو/حزيران 2001 اتفقت العروش على لائحة مطالب "أرضية القصر"، التي تصر على رحيل الدرك والاعتراف بالأمازيغية لغة وطنية رسمية، وقد تمكنت من تحقيق  بعضها، حيث قرر الرئيس بوتفليقة في مارس/آذار 2002 ترسيم الأمازيغية لغة وطنية (وليست رسمية كما يطالب القبائل).

"
بغض النظر عن الاختلافات وعن الوضع الصعب الذي تعيشه الجزائر، فإن هناك مصلحة مشتركة للبربر والعرب في إدراج مفهوم المواطنة في الحياة الوطنية
"
وإذا كانت كل التطلعات لم تلب بعد، فإنه من الملاحظ أن المدارس الأمازيغية النموذجية تشهد نوعاً من التراجع حتى أن الشغف بها -الذي لوحظ في البداية- أصبح يضعف مع مرور الزمن، على الأقل في بعض المدن.

ختاماً، تقول المؤلفة إنه بغض النظر عن الاختلافات وعن الوضع الصعب الذي تعيشه الجزائر، فإن هناك مصلحة مشتركة للبربر والعرب، في إدراج مفهوم المواطنة في الحياة الوطنية.

الهوة التي قد تفصل بين لغتين، أو بين ثقافتين يمكن ردمها بتقريب الاختلافات. فهناك فرق بين خيار رخص له وخيار تلقائي... عاش الجزائريون في حالة حداد وحان الوقت للخروج من المعاناة... عبر الدمقرطة الثلاثية المستوى، أي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
الهوية البربرية
   
عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
يتناول هذا الكتاب قضية الهوية البربرية في الجزائر, وبحكم تكوين مؤلفته دليلة أرزقي أستاذة علم النفس في جامعة تيزي وزو (أكبر مدن منطقة القبائل) الجزائرية، فإن الكتاب ليس سياسياً بل يخلط بين الجوانب النفسية والمطالب السياسية في محاولة لتفسير الانتقال من مرحلة الكبت إلى مرحلة العنف، مع التركيز على تطور المطلب الأمازيغي لكن من خلال تحليل المشهد اللغوي في الجزائر ومسألة الهوية وتوضيح الهوة بين اللغة اليومية واللغة الرسمية.

- اسم الكتاب: الهوية البربرية.. من الكبت البربري إلى العنف
- المؤلف: دليلة أرزقي
- عدد الصفحات: 291
- الطبعة: الأولى 2004
- الناشر: سيغيي، باريس
إشكالية لغوية

تقول الكاتبة إن الجزائر مقسمة عموماً إلى عرب وبربر، يتقاسمون في معظمهم الدين الإسلامي. وإبان الاستعمار الفرنسي، وبغض النظر عن اللغة المستخدمة، فإن الجزائريين كانوا متضامنين في مواجهة المضطهد، لكن مع الاستقلال حدث انقسام حيث أصبح كل واحد يعبر عن انتمائه لمجموعته.

وتحت قبضة الدولة تميز المشهد اللغوي بوجود أربع لغات هي اللهجة العربية واللغة العربية الفصحى والأمازيغية والفرنسية، إلا أن مختلف اللغات قلص من شأنها لصالح العربية الفصحى التي فرضت خاصة في قطاع التعليم.

وترى الكاتبة أن المشاكل اللغوية خلقت لدى الطفل الجزائري (من جيل ما بعد 1962) اضطرابات إدراكية ومعرفية، شعورية ونفسية ساهمت في الإخفاق المدرسي وفي ردود الفعل الصراعية لدى المراهق ثم الراشد.

وعليه فهي ترى أن الجزائر تعاني ظواهر تثاقف تنجر عنها مشاكل نفسية داخل شخصية الجزائري، ومن هنا تقوم علاقات صراعية، إذ هو في حيرة أمام ثقافة ذات توجه حداثي، تنقلها وسائل الإعلام، وثقافة ذات توجه تقليدي تنقلها "القيم-الملجأ".

وآليات التثاقف هي مصدر تنافر في نظام المعايير المرجعية، مما أفسح المجال لتطور صراع مزدوج داخل الشخصية وبينها وبين غيرها. وفي هذا الإطار تندرج إشكالية الهوية. وقد يتخذ البحث عن الهوية أشكالاً متعددة: اكتئاب، مطالبة، مقاومة، عدوانية، عنف... وتتقاسم هذه الأشكال عامل الكبت الذي يمكن اعتباره لازمة لمشاكل الجزائريين.

"
المشاكل اللغوية خلقت لدى الطفل الجزائري اضطرابات إدراكية ومعرفية شعورية ونفسية ساهمت في الإخفاق المدرسي وفي ردود الفعل الصراعية لدى المراهق ثم الراشد
"
بحكم وجوده في حيرة بين ثقافة أوروبية (فرنسية تحديداً)، حداثية التوجه، تعبر عنها وسائل الإعلام، وثقافة مجموعة الانتماء (البربرية أو العربية) تقليدية التوجه، تنقلها "القيم-الملجأ"، فإن الجيل الجديد من الجزائريين يعيش في التباس بشأن الهوية. وتأتي أزمة الهوية من قطيعة وحدة الحس وغياب المعالم. وإذا كان "التفاعل بين الهوية الشخصية والهوية الاجتماعية" غير سوي فإنه "قد يتسبب في خلل بين التطلعات الشخصية والقيود الاجتماعية".

هذه الأزمة الوجودية التي ترافق أزمة الهوية تجعل الأفراد يلجؤون إلى "القيم-الملجأ" لجانبها الأيديولوجي الآمن. وهذه المعالم الجديدة التعويضية الأكثر جذبًا تتمثل في "المقدس" بالنسبة للبعض، واللغة الأم بالنسبة للبعض الآخر.

قطيعة بين اللغة اليومية ولغة المدرسة
بعد مقاربة نفسية تحليلية لمختلف جوانب الشخصية بصفة عامة واضطراباتها وللطبيعة الثقافية للهوية، تنتقل المؤلفة إلى الحديث عن أزمات المجتمع والهوية من منطلق عام للتوقف عند الحالة الجزائرية.

وتقول إن اللغة لم تعد "موضع التقاء"، وفي غالب الأحيان ليست همزة وصل مع العائلة، لذا فالطفل يعيش تصدعاً بين "ما دون الثقافة" التي تنقلها العائلة وبالتحديد الأم، والثقافة التي تنقلها المدرسة، حيث تنشأ هوة بين اللغة الأم التي سمحت له، إلى حد الآن، بأن تكون له علاقة تعبيرية وجدانية (تجعله في مأمن) مع الأم، وبين اللغة التي "يكتشفها" في المدرسة.

فمباشرة بعد الاستقلال، حددت الدولة العربية الفصحى لغة للجزائر. وبالتالي فالبحث عن "الأصالة" كان عبر البعدين العربي والإسلامي على حساب البعدين البربري والفرنكفوني.

وبالتالي أصبحت هناك أربع لغات، مما أدى إلى التقليل من شأن لهجات (العربية اللهجة والبربرية) مجموعات الانتماء، التي هي لغات الحياة اليومية للطفل، ثم حلت العربية الفصحى محلها، مما أفقد الطفل أول معالمه وزعزع قوام شخصيته.. وكل هذا خلق عند الطفل اضطرابات مختلقة.

إن الذي يعيش في وسط لغوي متعدد لا يشعر فيه بالارتياح لا يتمكن من إتقان أي لغة ويصير "أمياً متعدد اللغات". أي أنه لا نفاذ لديه إلى أي شيء وخاصة المعرفة. فهو محروم حتى من هويته لكونه لا يعبر عنها بأي علاقة ذات شأن.

قطع اللغة يعني قطع قدرة المرء على الكلام. ويكون رد فعله الاكتئاب، فزلجة المرض والعنف ضد نسفه وضد غيره.

"
الشباب يعتبر أن له حقوقا منتهكة ولذا تراه ينتهك حقوق الغير رافضاً قانون المجتمع ومتمسكاً بقانون مجموعته الخاصة
"
مشاكل نفسية واجتماعية
يعاني الجزائري أيضاً مشاكل اجتماعية تزداد حدة، مثل البطالة والأمية وافتقاد السكن والفقر.. ووضع المرأة في هذا المشهد الحالك أكثر سواداً من الرجل, فهي أولى ضحايا الفقر والعنف في المجتمع، خاصة أن قانون الأسرة يجعلها مكبلة قانونياً.

فهناك اليوم جزائر النور التي يزداد فيها الأثرياء ثراءً، وجزائر الظلام التي يزداد فيها الفقراء فقراً. فالشباب البطال، المعوز.. الذي لا يرى أفقاً لمستقبله أصبح يعيش على هامش المجتمع ويحلم بالهروب إلى الخارج.. وفي انتظار ذلك، فهو يجنح لتناول المخدرات والكحول.

وبما أن الهروب إلى الخارج متعذر، فهو يهرب إلى الداخل، إلى ذاته حيث ينتهي بتصويب عنف ضدها بالانتحار الذي أضحى ظاهرة اجتماعية مرضية ومشكلة صحة عمومية حقيقية في الجزائر. إذ تشير الأرقام إلى أنه خلال الأشهر الأولى من عام 2000 انتحر 148 شخصاً وحاول 181 الانتحار.

في هذا المشهد الحالك أصبح العنف (الموجه ضد الغير) وسيلة تعبير لدى الشباب المراهق.. فهو يعتبر أن له حقوقا منتهكة ولذا تراه ينتهك حقوق الغير رافضاً قانون المجتمع ومتمسكاً بقانون مجموعته الخاصة.

بربر وعرب: الاختلافات البسيطة
إن البنية الاجتماعية للجزائر تقليدية، والتعارض يحكمه التضامن القائم على القرابة، وينطبق هذا بشكل كبير على الشعب البربري، أول من سكن المغرب العربي. ويتكون الشعب البربري من مجموعات عدة هي القبائل وبني مزاب والطوارق والشاوية والشناوة.

وتاريخياً، لم يكتب البربر بلغتهم، بل فضلوا الكتابة بلغات الغزاة الذين عرفتهم الجزائر، خاصة إبان الاحتلال الفرنسي على أساس أن استعمال لغة المحتل خير وسيلة لمحاربته.

 ورغم الإرث اللغوي البربري واستخدام قسم كبير من البربر الأمازيغية (لاسيما الذين يقطنون المناطق الجبلية مما جعلهم أقل عرضة للتأثر باللغات الأجنبية)، فإن السلطة السياسية تبنت نهجاً يتناقض وهذا التعدد اللغوي في الجزائر.

أما الفوارق فليست بربرية - عربية فقط بل بربرية-بربرية، فهناك اختلافات في نمط العيش، في الملبس وفي الأعراف، ثم إن كل فرع بربري (قبائل، شاوية، طوراق...) له لهجته الأمازيغية الخاصة به.

ومن بين هذه الفروع، يعتبر القبائل الأكثر مطالبة وبإلحاح بأصولهم وثقافتهم ولغتهم وهويتهم كما يظهر ذلك من مؤلفات بعض كتابهم وأبرزهم مولود معمري. ويتشبث القبائل بالاختلافات (عن العرب) أو "الاختلافات البسيطة" لكونها تعبر عن الهوية المطالب بها، كمطالبتهم بلغتهم.

إن القبائل يحددون اختلافهم باختلاف هويتهم التي تعبر عن نفسها بخصوصيات أخرى تزيد من دائرة الاختلافات كاختيار الأسماء والملبس والمأكل والسكن والموسيقى .. كما أنهم أكثر تحدثاً باللغة الفرنسية منهم بالعربية، وتأثروا كثيراً بالآباء البيض الكاثوليك والبروتستانت أثناء الاستعمار الفرنسي. هذه الاختلافات تشارك في اعتقادهم بهوية خاصة بهم.

"
الشرخ الاجتماعي والسياسي واللغوي جعل فئة من الشعب تتوحد في المعارضة، وستكون اللغة ناقل المقاومة، مقاومة مجموعة الانتماء
"
المطلب الأمازيغي
إن الشرخ الاجتماعي والسياسي واللغوي جعل فئة من الشعب تتوحد في المعارضة، وستكون اللغة ناقل المقاومة، مقاومة مجموعة الانتماء. فالقبائل شعروا بأن هويتهم مهانة ومنفية فحملوا المطلب الأمازيغي.

العودة إلى الأصول البربرية تعني البحث عن الهوية وذلك يمر عبر اللغة الأمازيغية. ويتعلق الأمر بإحراز اعتراف بها، بتشجيعها وبنشر الثقافة المرتبطة بها.

إلا أن الانتفاضة الأولى للمطلب البربري كانت في 20 أبريل/نيسان 1981. وقد اندلعت إثر مظاهرة طلابية في جامعة تيزي وزو، ثم في باقي كبرى المدن القبائلية، احتجاجاً على إقبال السلطات السياسية على منع مولود معمري، منظر المطلب الأمازيغي، من إلقاء محاضرة حول الشعر القبائلي القديم بطلب من الطلاب.

ومعمري كان تقريباً يعمل في السرية الجامعية بعد إلغاء الدولة لكرسي الأستاذية الأمازيغية عام (1973) الذي كان يشرف عليه في جامعة الجزائر، ثم تم توقيفه عام 1980. وتقول الكاتبة إن أعمال معمري حول الأمازيغية أيقظت اعتزاز البربر بلغتهم الأم.

المظاهرة الطلابية التي تلت توقيف معمري تم قمعها ومنذ ذلك الوقت تعرف تلك الأحداث باسم "الربيع البربري" الذي يشكل منعرجاً في تاريخ الجزائر المستقلة. وشيئاً فشيئاً أخذ "الربيع البربري" منحنى سياسياً واضحاً.

وفي العلن نظمت قيادات حركة "الربيع البربري" أول ندوة في بلاد القبائل حول "الهوية واللغات (الأمازيغية، العربية الجزائرية)،والثقافة وحرية التعبير".

أما الدولة فقد رخصت تعليم البربرية في القبائل في المؤسسات التعليمية وفي الجامعات. وأنشأت أقسام اللغة والثقافة البربريتين في جامعتي تيزي وزو وبجاية عام 1990.

وعقب مقاطعة المدارس في منطقة القبائل خلال العام الدراسي 1994-1995 تم إدراج تعليم اللغة الأمازيغية في المدارس كما تم إنشاء المفوضية السامية للأمازيغية وهي مؤسسة حكومية مهمتها رد الاعتبار للغة والثقافة الأمازيغية.

وخلال العقد الماضي ومع تصاعد الموجة الإرهابية شهدت منطقة القبائل غلياناً سياسياً خصوصاً في أوساط الشباب عقب اغتيال مطرب قبائلي شعبي معروف بمواقفه المعادية للسلطة والمدافعة عن المطلب الأمازيغي.

المنعرج التاريخي الآخر للمطلب الأمازيغي كان يوم 18 أبريل/نيسان 2001 إثر وفاة شاب برصاص قوات الدرك مما أثار سخطاً عارماً في منطقة القبائل حيث طالب السكان برحيل رجال الدرك من المنطقة.

وهكذا انطلقت شرارة الأحداث (مظاهرات وقمع للمتظاهرين وتخريب وتدمير المرافق العمومية وكل ما يرمز إلى الدولة) في كل أنحاء منطقة القبائل.

في هذا الجو السياسي المحتقن عادت منظمة العروش التقليدية القبلية إلى الواجهة بولوجها المعترك السياسي لقيادة المظاهرات وتمثيل القبائل في التفاوض مع السلطة. وقد أعطت هذه الأحداث نفساً قوياً للمطلب الأمازيغي الذي اتضحت معالمه بشكل أدق. واتضح من شعارات المتظاهرين أن هناك تشدداً واضحاً في مطالب القبائل مقارنة مع عام 1981.

وفي يونيو/حزيران 2001 اتفقت العروش على لائحة مطالب "أرضية القصر"، التي تصر على رحيل الدرك والاعتراف بالأمازيغية لغة وطنية رسمية، وقد تمكنت من تحقيق  بعضها، حيث قرر الرئيس بوتفليقة في مارس/آذار 2002 ترسيم الأمازيغية لغة وطنية (وليست رسمية كما يطالب القبائل).

"
بغض النظر عن الاختلافات وعن الوضع الصعب الذي تعيشه الجزائر، فإن هناك مصلحة مشتركة للبربر والعرب في إدراج مفهوم المواطنة في الحياة الوطنية
"
وإذا كانت كل التطلعات لم تلب بعد، فإنه من الملاحظ أن المدارس الأمازيغية النموذجية تشهد نوعاً من التراجع حتى أن الشغف بها -الذي لوحظ في البداية- أصبح يضعف مع مرور الزمن، على الأقل في بعض المدن.

ختاماً، تقول المؤلفة إنه بغض النظر عن الاختلافات وعن الوضع الصعب الذي تعيشه الجزائر، فإن هناك مصلحة مشتركة للبربر والعرب، في إدراج مفهوم المواطنة في الحياة الوطنية.

الهوة التي قد تفصل بين لغتين، أو بين ثقافتين يمكن ردمها بتقريب الاختلافات. فهناك فرق بين خيار رخص له وخيار تلقائي... عاش الجزائريون في حالة حداد وحان الوقت للخروج من المعاناة... عبر الدمقرطة الثلاثية المستوى، أي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق