الجمعة، 11 أكتوبر 2013

التصوف السلفي (3).

المقال الثالث في السلسلة:

فإذا ثبت هذا كان مشروطا بأمور: منها التأدب مع الله تعالى، فلا نستعمل في التعبير عن محبته إلا الألفاظ... اقرأ: 

8- فإذا ثبت هذا كان مشروطا بأمور:
منها التأدب مع الله تعالى، فلا نستعمل في التعبير عن محبته إلا الألفاظ التي جرت في الكتاب والسنة. أعني أنه من الأفضل أن تقول أحب الله، ولا تقول أعشق، لأن الأول  هو الذي جاء في الوحي: (قل إن كنتم تحبون الله، فاتبعون يحببكم الله)، (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه.. الآية).    ومجال الغيب والعقائد، والله تعالى هو أعظم الغيوب، مجال خاص جدا، والإنسان فيه على خطر، فالأسلم له والأولى أن يقف عند حدود الشرع فيه، وهذا مقتضى القاعدة السلفية، أعني احترام حدود الشرع وآدابه  فيما يتعلق بذات الله وصفاته وأفعاله، أو فيما يتعلق بتوحيدي الربوبية والألوهية.
أيضا فإن الناس تستعمل ألفاظ العشق ونحوها في عالمهم الحسي الضيق، مع أن الصوفية لا يقصدون هذا المعنى ألبتة، بل المقصود عندهم شدة المحبة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليس محرما بعض التوسع في الألفاظ، ومنه الترميز بالخمر على الحب الإلهي مثلا. ومنه أيضا بعض الدلال الذي يرشح من كلام بعض الصوفية، إذ الدلال من رسوخ المحبة، فهو غير الإدلال بالطاعة  الذي تكلم عليه المحاسبي وغيره،  فالأول بشروطه لا بأس به لأنه من فرط المحبة، والثاني المرء فيه على خطر لأنه من باب الغرور والعجب بالعمل.
 9- وهذه مشكلة التعبير الصوفي، فاللغة لا تساعده، لأن عالم الصوفي، عالمه الداخلي،  بحر عميق لا يدرك غوره فلا يمكن حكايته، ومن جهة أخرى هو لا يستطيع أن يكتم  ما يختلج في نفسه من خواطر ومحبة ولهف وشوق إلى عالم السماء ورب السماء.. لذلك يعجز عن تبليغ المعنى، وقد يلجأ إلى الشعر، لأن الشعر أقدر من النثر على تكثيف المعاني والتعبير عنها، ولذلك أيضا لا يمكن لمناهج البحث المعتادة أن تسبر غور التصوف لأنه تجربة ذوقية نفسية داخلية بالدرجة الأولى، فيستحيل نقلها إلى الغير، فكثرت بين أهل التصوف كلمة: ( دعه فإنه محجوب)، لمّا يقابلون بالإنكار من الآخرين على بعض أمورهم.
والخلاصة أن بعض التوسع في التعبير عن المحبة، كالسكر والسقي والهيام .. ونحو ذلك، لا بأس به، ما دام في حدود شرعية، هي حدود الأدب.
10- وهنا نصل إلى مربط الفرس كما يقولون، وهو أن القاعدة في موضوع المحبة بصفة عامة هي ألا يتجاوز العبد  مقام العبودية في صلته بالله سبحانه، أي يستحضر الإنسان أن العبد  عبد وأن الرب رب، فلا يتجرأ على سيده، بل يحفظ آداب العبودية، ومنها  كما جاء عن  نبينا عليه السلام: إنَّ الرَّجُلَ ليتكلمُ بالكلمةِ مِنْ رضوان الله لا يُلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجاتٍ ، وإنَّ العبدَ ليتكلم بالكلمة من سَخَطِ الله لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جهنَّم.
ومهما كانت درجة العبد من الله، ومهما ظن من نفسه قربه من مولاه، لا ينبغي أن ينسى أنه عبد مخلوق منّ الله عليه بالخلق والهداية والعون.. حتى في عالم الإنسان حذر علماء السياسة وأدباؤها من قديم الذين يصاحبون  الملوك بالاحتياط منهم، وبأن يحافظوا على المسافة بينهم وبين ملوكهم، فكيف بملك الملوك.
لذلك كان بعض الصوفية على حذر دائم، رغم تعبدهم وتزهدهم وإخلاصهم، فكانوا يخشون مكر الله، كما قال أبو بكر الصديق: لو كانت إحدى قدميّ في الجنة ما آمنت مكر الله.
ويعرف عالم التصوف نماذج لمن اجترؤوا على ربهم فعبروا  الحدود، فعاتبهم الله سبحانه، وربما عاقبهم، بل ربما سلب منهم الولاية أو أصل الإيمان نفسه.. وهذه قصة العزير الذي كان عابدا عالما، بل هي قصة إبليس نفسه، فقد كان عابدا من أفضل عباد السماء كما جاء في الآثار، لكنه نسي مقامه وأنه مقام عبودية فطفق يجادل ربه العظيم ويعترض عليه، فكانت عاقبته أن طرده من رحمته.
ومن قصص العتاب ما وقع حتى للأنبياء، فقال جل وعلا لنوح: (يا نوح إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم، إني أعيذك أن تكون من الجاهلين.. الآيات.)
أما يونس عليه السلام فقصته معروفة، إذ التقمه الحوت، فصار في ظلمات ثلاث، ولولا انتباهه لخطئه واستغفاره لربه.. لبقي فيها إلى يوم القيامة: (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه، فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.)
لذلك يرى بعض العلماء من الصوفية وغيرهم أن الحلاج مثلا لم يكن زنديقا، لكنه  تسرع في التصريح بأمور  لا يمكن شرحها للناس، لأنها غيوب من العالم الآخر لا سبيل إلى إيضاحها مهما حاولت، فكانت عاقبته صلبه، وإنما هي عقوبته على ما اقترفه لسانه.. وقد قال علي رضي الله عنه فيما رواه البخاري: حدّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله.  وعن عبد الله بن مسعود من كلامه: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة .
 11- وكثير من شؤون التصوف من هذا القبيل، خاصة أمور الكشف والمشاهدات والخواطر.. فهي دقيقة جدا، وغامضة، وملتبسة أحيانا حتى على أصحابها.. لذلك قال أحد أركان التصوف، وأحسبه أبو سليمان الداراني: ربما نكتت في قلبي نكتة، فلا أقبلها حتى آتي عليها بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.  لذلك كان الراسخون من شيوخ التصوف يوصون الناس بالوقوف عند ظاهر الشريعة، وما فيها من الأمر والنهي، لأن التزام ذلك صواب قطعا وآمن دوما، ونافع في الدنيا منج في الآخرة.. بينما طريق التصوف طريق خطر. والسبب في ذلك فيما بدا لي هو أن الحكمة العظمى من خلق الدنيا هي الابتلاء، والابتلاء تتعدد أنواعه جدا، كالابتلاء بالفقر والغنى، وبالصحة والمرض.. والتصوف لا يخرج عن هذه القاعدة، فسالكوه في ابتلاء أيضا، تختلف صوره عن الابتلاءات الأخرى المعروفة، لكن الجوهر واحد وهو وضع الإنسان الحرّ  أمام امتحان واختبار ما.. فهذا قدر الله في الدنيا، ولا أحد يشذ عن هذا القدر مهما كان قدره، واعتبر في ذلك بأحوال نبينا عليه السلام الذي كان يعيش ويتحرك تحت هذا القدر أيضا. لذلك يعرف تاريخ التصوف جميع النماذج البشرية: من الوليّ الكامل إلى الفاسق التام، كما عرف السائرين الصادقين إلى الله والآخرة، مع الكاذبين الذين اعتبروا التصوف طريقا من الطرق إلى الدنيا وجاهها ومالها.. لذلك صدق ابن تيمية حين قال كلمته الذهبية في الصوفية: والصواب أنهم قوم مجتهدون، فمنهم السابق بالخيرات، ومنهم المقتصد، ومنهم الظالم لنفسه.
فالمقصود من هذا كله أن على المؤمن أن يحفظ آداب العبودية، ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه ووقف عند حدّه. فإذا رسخ ذلك لم يكن عليه حرج أن يتغنى بحب الله سبحانه ويقول فيه شعرا، بل هو تعالى أولى من كل أحد بالمحبة والشوق ، وأحق سبحانه بالعبادة والأنس..
12- إن مشكلة بعض السلفية في هذا الباب أنهم لم يطوروا عمل ابن تيمية وابن القيم في مجال التصوف والسلوك، فقد كتب الأول مجلدين ضخمين في الموضوع وتحدث بالتفصيل في تاريخ التصوف ورجاله وأحواله ومقاماته وأكثر مشكلاته.. وميّز بين رجاله، فأثنى على الجيلاني والشاذلي والجنيد وأضرابهم، وحذر من الدجاجلة وأنواعهم. أما تلميذه ابن القيم فقد شرح منازل السائرين للهروي الحنبلي، من أفضل كتب التصوف، في أربع مجلدات هي مدارج السالكين، فتكلم بتفصيل كبير في مسائل الذوق والتصوف. وكان المفروض أن يستمر هذا المجهود الجبار في الأجيال اللاحقة حتى نحقق "التقارب السلفي-الصوفي"، لكن للأسف يكاد ما أخذه بعض القوم  من الشيخين هو ما يتعلق بالأضرحة والقبور وزيارتهما والتوسل ومسائل البدع الجزئية.. فابن تيمية عملاق كبير، لكن بعض الذين ينسبون إليه أنفسهم لم يكونوا في الأغلب على مستواه، بل قزّموه.. وهو  رحمه الله أكبر من أن يحصر في هذه القضايا فقط. وليتهم يقتدون بأمثال رشيد رضا، فهو مع سلفيته  واسع الأفق كثير الاطلاع، وأضاف جديدا إلى الفكر السلفي النيّر.
 لذلك من الملاحظ أن اكتشاف ابن تيمية في دقائق علم الكلام، وفي التصوف، وفي المنطق، ونظرية المعرفة، وفي مقاصد الشريعة والخلاف الفقهي العالي، وفي مختلف المعارف الإسلامية والعمرانية والسياسية... أكثره لم يجئ من طريق من ينسبون أنفسهم لابن تيمية وللسلف، بل جاء من علماء فكر ودين خارج هذه الدائرة المعينة.
فمن للمهمة وأمثالها، أم سننتظر اندلاع معارك صوفية- سلفية، على شاكلة الحروب السنية – الشيعية، فنضيف لتاريخ الصراعات الإسلامية- الإسلامية  فصولا جديدة من الدماء المعصومة ومن الطاقات المهدورة ومن الشروخ النفسية والاجتماعية.. حلقات مفرغة من التآكل الداخلي  للأمة الجريحة.. دفع المسلمون  بسببها – وما زالوا يدفعون - ثمنا غاليا من أمنهم وعيشهم ومكانتهم بين الأمم وشهودهم الحضاري. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يتبع
                                                                       إلياس بلكا.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق