الخميس، 17 أكتوبر 2013

من الفوضوية.. إلى الحركة المضادة للعولمة. سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (5).



سلسلة آفاق جديدة في العلوم الإسلامية.(5)

من الفوضوية.. إلى الحركة المضادة للعولمة.

إلياس بلكا

      أكتب هنا عن بعض القضايا المهمة التي أقدّر أن على الفكر الإسلامي المعاصر بحثها ودراستها، إما في إطار بحث أكاديمي بدرجة دكتوراه مثلا، أو ببحث حر يقوم به المفكرون والعلماء الشباب.. 

إذن نواصل استكشاف بعض الآفاق الجديدة في مجال البحث العلمي الإسلامي. فمن ذلك موضوع الفوضوية، وهو ترجمة لكلمة Anarchisme.

     وهنا لابد أن نفرق بين  "الفوضوية"، وهي  مذهب فلسفي واجتماعي، وبين  ما سمي بـ " نظرية الفوضى"، وهي نظرية تنتمي إلى مجال العلوم الرياضية والتجريبية،  ظهرت منذ منتصف السبعينيات - من القرن العشرين-  ولكنها امتدت إلى بعض العلوم الإنسانية.

        أدت الليبرالية -خصوصا بعد نجاح الثورة الفرنسية– إلى نشوء وضع متناقض، فالتنظيم السياسي للمجتمع –في صورة الدولة-  قائم على شعارات الحرية والمساواة والأخوة، بينما تستمر الحياة الاجتماعية مطبوعة بالعبودية الاقتصادية: الذين لا يملكون "عبيد للذين يملكون".

        هذا الوضع الجديد في علاقة الدولة بالمجتمع أدى إلى ظهور إيديولوجيات متنوعة، ماركس مثلا دعا إلى إعادة إدماج الدولة في المجتمع، بينما قال الفوضويون بكل بساطة: لماذا لا نتجاوز الدولة، بإزالتها ومحوها، وننظم المجتمع وفق مبادئ تعلو على الدولة. ولذلك فإن القضية المركزية للفوضوية هي احتفاظ الفرد بحريته واستقلاله الذاتي.

        ويجد هذا المذهب أسسه فيما يلي:

        أولا- الفردانية العقلانية. فهذا الاتجاه يمكن أن يؤدي إلى أفكار الفوضوية، وذلك لأنه ينبني على فكرة أن الإنسان حر عاقل، إذا احتاج إلى جماعة يمكن أن ينشىء معها عقدا اجتماعيا، فإذا لم يجد في هذا العقد ما يريد يصبح من حقه أن يفسخه ويثور عليه. لقد نقدت الفوضوية مبدأ العقد الاجتماعي وبينت كيف أنه يحمل بذورفنائه.

        ثانيا- المثالية، خصوصا الألمانية. فالعقل الذي تصوره هيجل -وهو الأصل بالنسبة للواقع الموضوعي-  تحول عند الكثير من تلامذته إلى العقل الإنساني، ثم عند آخرين إلى الأنا LE MOI.

        كثرة من المفكرين نظَّروا للفوضوية، من بينهم الألماني ماكس ستيرنر، المتوفى سنة 1856 . فهذا أهم فيلسوف فوضوي أعلى من شأن الفرد، وبيَّن أيضا أن جوهر الوجود هو تحقيق الفردانية، وذلك بوعي الذات وعيا كاملا يتجاوز مفاهيم الدولة والمجتمع والإنسانية. وقد نقد الليبرالية في أهم كتبه:" الواحد وميزته".  ومنهم أيضا الفرنسي بيير برودون، صاحب الكتاب المشهور: فلسفة البؤس، والذي رد عليه ماركس بكتاب آخر هو: بؤس الفلسفة. تدور فلسفته حول فكرة العدالة، فهي الكفيلة بتحقيق التوازن المطلوب بين كل القوى المتناقضة داخل المجتمع، مما يسمح بمحو الدولة. ومنهم الروسي ميشيل  باكونين (توفي 1876) الذي آمن بسلوك طريق القوة والعنف لتحقيق آمال هذا الفكر، له ما يمكن تسميته بـ "الفوضوية الشيوعية". وكَتب عن الدولة.

        على المستوى السياسي يتأسس الخطاب الفوضوي على مفاهيم: العقد الحر، والفيدرالية، والاشتراكية، ونقد الديموقراطية. وله آراء في تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وبعض الفوضويين يرفض في المجال المالي الفائدة على القرض.

        عمليا انصب تأثير الفوضوية على "الجمعية الدولية للعمال"، وهي جمعية نقابية. ثم اتخذت من استخدام القوة سبيلا لها، وقامت بسلسلة من الاغتيالات قبل أن  تنكفئ من جديد على العمل النقابي في أوساط العمال.

        ولعله بهذا العرض السريع يتضح أن في وسم هذا المذهب بالفوضى مبالغة بينة. بل يبدو لي أن في الفوضوية عناصر إيجابية، منها اعتبار الفرد، والتأكيد على حرية الفكر والعقل، والإعلاء من شأن  العدالة، فالفوضوية تعادي كل أشكال التسلط من  معتقد أو تنظيم أو دولة أو قانون.. وإن كانت تتطرف في ذلك أحيانا. وللفوضوية أيضا أفكار عن شكل الحياة الإنسانية، في مختلف مناحيها، وهي بديل عما عرفه الغرب، ولذلك هي جديرة بالتأمل . ويمكن للفكر الإسلامي الحديث - في سعيه لوضع تصور عن الحياة السياسية والاقتصادية البديلة-  أن يستفيد من الفوضوية، في بعض الجوانب، فهذه انتقدت الدولة، وخصوصا القومية، وهي الشكل المعروف إبان ازدهار المذهب، أي في القرن التاسع عشر، ولا يزال هذا الشكل مستمرا إلى اليوم، وإن  كان مقبلا على تغيرات كبيرة.

        والآن -بعد مرور حوالي قرن على أفول الفوضوية-  تذكرنا التطورات الحالية في تفتت الدولة وقهر الحضارة للإنسان ولإنسانية الفرد.. بأن في بعض أفكار الفوضوية جانبا من الصواب. فكأنها كانت قد استشعرت أزمة الحضارة التي يسير إليها الغرب، وهي الأزمة التي تكشفت فعلا  طيلة القرن العشرين. ولكن الحصار الفكري والسياسي الذي تعرضت له الفوضوية من طرف المذهبين الرئيسين: الليبرالي والشيوعي، أدى -مع العوامل الذاتية التي تعود إلى المدرسة نفسها- إلى انحسار الفوضوية فكرا وتأثيرا.

        إذن لا تهدف الفوضوية إلى إزالة النظام من الحياة الإنسانية وفتح الطريق للفوضى والعبث .. بل هي تقصد إلى إحلال نظام جديد محل النظام القديم.. النظام إذن مبدأ اجتماعي ضروري، ويبقى أن الأمر يتعلق دائما بالجواب عن سؤال: أي شكل من تنظيم الحياة الإنسانية ينبغي أن يسود؟

      فيا ليت  أحدا من باحثينا الشباب يتفرغ  لدراسة هذا الموضوع والتأليف فيه: إما في إطار بحث دكتوراه، وإما في إطار كتابة حرة.
إلياس بلكا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق