السبت، 26 أكتوبر 2013

أدب المناجاة (5). أدب المناجاة.. عند ابن الجوزي من خلال كتابه المدهش.



أدب المناجاة (5).
أدب المناجاة.. عند ابن الجوزي من خلال كتابه المدهش.

نقلا عن موقع:  http://www.bab.com/node/4684
لم يذكر الموقع اسم المؤلف.
الإمام أبو الفرج جمال الدين بن علي بن محمد بن جعفر الجوزي البغدادي المولود سنة 508 هـ، والمتوفى سنة 597 هـ (1114 ـ 1201 م) من أئمة حضارتنا وأعلامها المشهورين. ـ والجوزي أوابن الجوزي عربي قرشي تيمي بكري يتصل نسبه بأبي بكر الصديق رضي الله عنه.. وقد ولد ببغداد وعاش بها وظهر نبوغه مبكرا (1) وهو من المكثرين في التأليف، وقد صنف في فنون كثيرة وقد حسب عمره وقسم ما ألفه عليه منذ ولد فكان ماخص كل يوم تسع كراريس (2) وأظنهم عنوا بالكراريس ما يعرف في عصرنا بالورقات أو الصفحات. فهو ـ بهذا ـ تال للطبري وابن حزم.. وربما فاق ابن تيمية وابن القيم في كثرة ما ألـــف. وقد برز ابن الجوزي في علوم كثيرة تفرد بها، وجمع من المصنفات الكبيرة والصغيرة نحوا من ثلاثمائة مصنف، وكتب بيده فيما قيل ـ نحوا من مائتي مصنف. وقد أخذ الفقه عن أبي منصور الجواليقي، وحفظ الوعظ، ووعظ وهو ابن عشرين سنة أو دونها، وحضر مجلس وعظه ألوف كثيرة، كان من بينهم الخلفاء والوزراء والأمراء والعلماء.. فضلا عن العامة.. وقيل إن أقل من كانوا يحضرون في مجلس وعظة عشرة آلاف مستمع.

 وقد عرف ابن الجوزي بفن برز فيه وبز فيه وهو فن الوعظ ويعتبر كتابه المدهش(3) العمدة في هذا الباب، والذي يمثل فيه ابن الجوزي قمة النبوغ في هذا الفن، الذي يعد من الفنون الأساسية في بناء الإنسان المسلم وتكوين شخصيته، على أساس رباني لا يتجاوز الدنيا، وإنما يربطها بالآخرة ربطا محكما لا تنفك عنه، تماما مثلما ترتبط القنطرة بالطريق، وترتبط الغاية بالوسيلة. وقد ساعدت الأدوات الثقافية الكثيرة التي يملكها ابن الجوزي فن الوعظ عنده على البلوغ للغاية، والصعود إلى قمة سامقة، قلما يطاوله فيها واعظ من الواعظين.. فعلمه بالحديث، وموهبته الشعرية، وقدرته الأدبية، وعلمه بالتاريخ، وثروته اللغوية، وإلمامه بالجوانب النفسية والاجتماعية المؤثرة في الإنسان، .. كل هذه المواهب جعلته ينجح في فن الوعظ.. وينجح كعالم مخلص يحسن تربية الأمة تربية رفيعة المستوى، جامعة بين الدنيا والآخرة. وكان تفرد ابن الجوزي بفن الوعظ تفردا لم يعرف له مثيل، فلم يسبق إليه، ولم يلحق شأوه فيه، وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته، وحلاوة ترصيعه ونفوذ وعظه، وغوصه على المعاني البديعية، وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية، بعبارة سريعة الفهم، بحيث يجمع المعاني الكبيرة في الكلمة اليسيرة (4).

وكتاب المدهش ـ الذي ندرسه في هذه الصفحات ـ دليل كبير على تفرد ابن الجوزي في هذا الفن العظيم.. فن الوعظ..

كتاب المدهش: ولقد أطلق أبو الفرج على كتابه اسم المدهش، وهو محق في ذلك، فهو آية من آيات الله في الوصول إلى لب المعنى، بأدق لفظ وأبلغه وأوجزه، وهو حافل بالمعنويات الدالة على سعة علم الإمام أبي الفرج الجوزي.. إن هذا الكتاب الذي بلغت صفحاته أكثر من خمسين وخمسمائة صفحة من القطع الكبير، بتحقيق الدكتور مراد قباني قد انقسم إلى قسمين بارزين: أولهما: الأبواب الأربعة الأولى، التي تعالج قضايا وثيقة الصلة بالواعظ والوعظ، لكنها ليست مباشرة في فن الوعظ، وفيها حديث عن علوم القرآن الكريم، وأبواب منتخبة من الوجوه والنظائر في المصطلحات والأدوات اللغوية، وباب في تصريف الفقه وموافقة القرآن لها. وكلام في علوم الحديث، وفضل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وثمة كلام في أشياء متفرقة نادرة وطريفة.. والباب الرابع منها خصه لذكر عيون التواريخ والتعريف بالأقاليم وقصص الأنبياء ـ ببلاغة وجيزة ـ حتى انتهى إلى سيرة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام... أما القسم الثاني؛ وهو جوهر الكتاب، فهو القسم الخاص بالمواعظ، وهو يتكون من مائة فصل.. أولها الفصل الخاص بشرح قوله تعالى هو الأول والآخر وآخرها الفصل الخاص بموعظة أولها: يا من أنفاسه محفوظة.. وهو الفصل المائة.. ثم أنهى ابن الجوزي كتابه بخاتمة في ثلاثة فصول أو بتعبير آخر بثلاث مواعظ أولها: الموت مقاتل يقصد المقاتل فما ينفعك أن تقاتل وثانيتها: موعظة أولها: أين الذين سلبوا؟ سلبوا المال ما غلبوا... غلبوا.. عمروا ديارهم فلما تمت خربوا وثالثتها: عباد الله إنما الأيام طرق الجد، والساعات ركائب المجد.. ولم يكن منهج الوعظ وما يوجبه من استحضار للآخرة والموت واستعلاء على الدنيا واستجاشة للعواطف العلوية الموصولة بخالق الكون.. لم يكن هذا المنهج بعيدا عن أية صفحة من صفحات الكتاب، حتى ما كان منها خاصا بقصص الأنبياء أو متعلقا بالتعريف بجانب من جوانب القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة..

 إن كتابه المدهش كله صفحة مناجاة لله سبحانه وتعالى، وهو كله قنوت ودعاء وشوق إلى ما عند الله.. ورغبة فيما فوق هذه الدنيا ـ وزهد في الدنيا.. عندما يتحدث ابن الجوزي في قصة الخضر عليه السلام يقول: لما علا شرف الكليم بالتكليم كل شرف.. قال له قومه: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، ولم يقل: فيما أعلم، فابتلي فيما أخبر به وأعلم.. فقام بين يدي الخضر، كما يقوم بين يدي السليم الأعلم.. فابتدأ بسؤال: (هل أتبعك)؟ فتلقاه برد: (لن)... وكم أن موسى من لن.. ـ أمر قومه بالإيمان فقالوا.. لن نؤمن.. وقعوا في التيه فقالوا: لن نصبر ندبوا للجهاد فقالوا لن ندخلها ... طرق باب (أرني) فرده حاجب (لن) (من لن تراني) ... دنا إلى الخضر للتعلم فلفظه بلفظ (لن) ثم زاده من زاد الرد بكف (وكيف تصبر)(5)..! ?

 وفي حديثه عن قصة أهل الكهف(6) يقول: كان رقم (كتب في قلوبهم الإيمان) قد علا على كهف قلوب أهل الكهف، فلما نصب ملكهم شرك الشرك، بان لهم خيط الفخ ففروا، وخرجوا من ضيق حصر الحبس إلى الفضاء فضاءلهم، فما راعهم في الطريق إلا راع وافقهم، فرافقهم كلبه، فأخذوا في ضربه، لكنهم ليسوا من ضربه، فصاح لسلط حاله: لا تطردوني لمباينتي جنسكم فإن معبودكم ليس من جنسكم، أنا في قبضة إثاركم أسير.. أسير إن سرتم، وأحرس إن نمتم، فلما دخلوا دار ضيافة العزلة، اضطجعوا على راحة الراحة من أرباب الكفر، فغلب النوم القوم (ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا) ثم يختتم كلامه عن أهل الكهف بقوله: ليس العجب من نائم لم يعرف قدر ما مر من يومه، وإنما العجب من نائم في يقظة عمره أما والله لو عرف الأنام لمـا خلقوا لما غفلوا وناموا لقد خلقوا لما لو أبصرته عيون قلوبهم ساحوا وهاموا ممات ثم قبر ثم حشر وتوبيخ وأهوال عظام ليوم الحشر قد خلقت رجال فصلوا من مخافته وصاموا ونحن إذا أمرنا أو نهينا كأهل الكهف أيقاظ نيام(7) ومن هذين النموذجين نرى صدق ما ذكرناه من أن كتاب المدهش كله إنما هو وقفة دعاء وقنوت، توجه بها ابن الجوزي إلى الله سبحانه وتعالى، وهو ـ في كل سطوره وما بين سطوره ـ سبحات فكر، وصلوات واستغفار وأنات، وصور من الخشوع والخضوع، النابعة من قلب يحترق شوقا، ويتفاعل إيمانا، بكل ما تحمله معاني الشوق إلى الله، ومعاني الإيمان العلوي الخالص.. وهو في النهاية نموذج أدبي شعري ونثري رفيع، يقدم صورة من صور تألق الوعظ بعامة في تراثنا الأدبي الإسلامي. إن عظمة أسلافنا الذين صنعوا حضارتنا كان في هذا المنهج الذي يمزج بين رهبنة الليل وفروسية النهار، ويأخذ من عبوديته الوقود لمعاملاته، ومن استحضار الآخرة الحضور الأزكى والأعلى والأقوى في الدنيا.. لقد كانوا علماء يوجهون علمهم لعمار الدنيا باسم الله، وتحت راية عبوديته، ولم يكن علم الإسلام، ولا علم الدنيا ترفا أو فكرا محضا موجها للاستعلاء، أو المنفعة الشخصية أو الوطنية أو القومية.. ولقد آتاهم الله بهذا المنهج الشمولية، والفقه الصحيح، والعلم الواسع.. كما بارك لهم في عملهم، وأعطاهم قيادة الحضارة البشرية.. وما سقط العلم الإسلامي إلا يوم أن وجهه بعضهم للدنيا وقطعوه عن الأخرة.. ووجهه أخرون ـ بزعمهم ـ للأخرة وقطعوه عن الدنيا.. مع أنهما في الإسلام متلازمان، تلازم الروح والجسد.

فإذا ما انتقلنا إلى القسم الثاني الذي يتكون من مائة فصل، والذي بسطه المؤلف في أكثر من أربع مائة صفحة يتجلى لنا ابن الجوزي إماما في أدب المناجاة والابتهالات.. ففي وقفته عند قوله تعالى هو الأول والآخر وهذا هو عنوان الفصل الأول من القسم الثاني عنده.. يتوجه ابن الجوزي إلى الذات العلية بهذه الابتهالات الفريدة... (8) سبحان من أقام من كل موجود دليلا على عزته، ونصب علم الهدى على باب محبته.. الأكوان كلها تنطق بالدليل على وحدانيته، وكل موافق ومخالف يمشي تحت مشيئته، إن رفعت بصر الفكر ترى دائرة الفلك في قبضته، وتبصر شمس النهار وبدر الدجى يجريان في بحر قدرته، والكواكب قد اصطفت كالمواكب على مناكب تسخير سطوته، فمنها رجوم للشياطين ترميهم فترميهم عن حمى حمايته، ومنها سطور في المهامه يقرؤها المسافر في سفر سفرته. وإن خفضت البصر رأيت الأرض ممسكة بحكمة حكمته.. كل قطر منها محروس بأطواره عن حركته، فإذا ضجت عطاشها ثار السحاب من بركة بركته. ونفخ في صور الرعد لإحياء صور النبات من حضرته، فيبدو نور النور يهتز طربا بخزامى رحمته ومنها قوله أيضا:(9) نظر بعين الاختيار إلى آدم، فحظي بسجود ملائكته، وإلى ابنه شيث فأقامه في منزلته. وإلى إدريس فاحتال بالهامه على جنته، وإلى نوح فنجا من الغرق بسفينته، وإلى هود فعاد على عاد شؤم مخالفته، وإلى صالح فتمخضت صخرة بناقته، وإلى إبراهيم فتبختر في حلة خلته، وإلى إسماعيل فأعان الخليل في بناء كعبته، وإلى لوط فنجاه وأهله من عشيرته، وإلى شعيب فأعطاه الفصاحة في خطبته، وإلى يعقوب فرد حبيبه مع حبيبته، وإلى يوسف فأراه البرهان في همته.

وفي أدب المناجاة في الحج يبدع ابن الجوزي، ويستعرض منازل الحج ومراحله بأدبه الرفيع، الذي يلبس ثوب المناجاة، معتمدا علي الشعر والنثر معا: لله درمنى وما جمعت وبكا الأحبة ليلة النفر ثم اغتدوا فرقا هنا وهنا يتلاحظون بأعين الذكر ما للمضاجع لا تلائمني وكأن قلبي ليس في صدري(10). حج جعفر الصادق فأراد أن يلبي فتغير وجهه، فقيل: مالك يا ابن رسول الله؟ فقال: أريد أن ألبي فأخاف أن أسمع غير الجواب. وقف مطرف وبكر، فقال مطرف: اللهم لا تردهم من أجلي، وقال بكر: ما أشرفه من مقام لولا أني فهيم!! وقام الفضيل بعرفة، فشغله البكاء عن الدعاء، فلما كادت الشمس تغرب قال: واسوأ تاه منك وإن عفوت!!

وفي الفصل الخامس يحدث نفسه ويناجي ربه(11)، فيقول: ما حظى الدينار بنقش اسم الملك حتى صبرت سبيكته على التردد إلى النار، فنفت عنها كل كدر، ثم صبرت على تقطيعها دنانير، ثم على ضربها على السكة، فحينئذ ظهر عليها رقم النقش: كتب في قلوبهم الإيمان لا تطردني فليس لي عنك غنى هذا نفسي إذا أردت الثمنا من طلب الأنفس هجر الألذ. من اهتم بالجوهر نسى العرض، يا صفراء يا بيضاء غـري غيري (يقصد الدنيا).. من أجل هواكم عشقت العشقا قلبي كلف ودمعتي ما ترقى في حبكم يهون ما قد ألقى ما يحصل بالنعيم من لا يشقى

 وفي الفصل السادس: أنا المقر على نفسي بالخيانة، أنا الشاهد عليها بالجناية أعف عني وأقلني عثرتي يا عتادي لملمات الزمن لا تعاقبني فقد عاقبني ندم أقلق روحي في البدن لا تطير وسنا عن مقلتي أنت أهديت لها حلو الوسن(12).

وفي ختام الفصل الثامن يتقلب في رجائه ومناجاته بين طرائف الصالحين: يا منفدا ماء الجفون وكنت أنفقه عليه إن لم تكن عيني فأنت أعز من نظرت إليه كانوا إذا ضيق الخوف عليهم الخناق نفسوه بالرجاء، فكان أبو سليمان يقول: إلهي إن طالبتني بذنوبي طالبتك بكرمك، وإن أسكنتني النار بين أعدائك لأخبرنهم أني كنت أحبك.. وكان يحيى بن معاذ يقول: إن قال لي يوم القيامة: عبدي ما غرك بي؟ قلت: إلهي: برك بي..(13). وفي بعض ما ورد من روائع الفصل الثامن عشر يتخيل ابن الجوزي عتاب الله سبحانه وتعالى للإنسان.. فكأنه كما يقول ابن الجوزي يقول له: يا مختار الكون وما يعرف قدر نفسه، أما أسجدت الملائكة بالأمس لك؟ وجعلتهم اليوم في خدمتك، لـما تكبر عليك إبليس، وقد عبدني سنين طويلة ـ طردته.

ويقول ابن الجوزي في الموعظة الثانية والثلاثين: لابد والله من قلق وحرقة، إما في زاوية التعبد أو في هاوية الطرد، إما أن تحرق قلبك بنار الندم على التقصير والشوق إلى لقاء الحبيب، وإلا فنار جهنم أشد حرا... شجاك الفراق فما تصنع أتصبر للبين أم تجزع إذا كنت تبكي وهم جيرة فماذا تقول إذا ودعوا القلق القلق يا من سلب قلبه، والبكاء البكاء يا من عظم ذنبه. كان الشبلي يقول في مناجاته: ليت شعري ما اسمي عندك يا علام الغيوب، وما أنت صانع في ذنوبي ياغفار الذنوب؟ وبم تختم عملي يا مقلب القلوب(14). كان داود الطائي ينادي بالليل: همك عطل كل الهموم، وحالف بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك حال بيني وبين اللذات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب(15). ـ كان لقوم جارية فأخرجوها إلى النخاس فأقامت أياما تبكي، ثم بعثت إلى سادتها تقول: بحرمة الصحبة ردوني فقد ألفتكم.. يا هذا قف في الدياجي وامدد يد الذل، وقل: قد كانت لي خدمة، فعرض تفريط أوجب البعد، فبحرمة قديم الوصل ردوني فقد ألفتكم(16).

 ويتألق فن المناجاة عند ابن الجوزي في غير موضع من فصوله الوعظية، وها نحن أولا نراه في وعظيته الثانية والسبعين يقول لربه: اللهم نـور دنيانا بنور من توفيقك، واقطع أيامنا في الاتصال بك، وانظم شتاتنا في سلك طاعتك، فأنت أعلم بتلفيق المقترف، اللهم قو منن أطفال التوبة بلبان الصبر، أرفق بمرضى الهوى في مارستان البلاء، افتح مسامع الأفهام لقبول ما ينفع، سلم سيارة الأفكار من قاطع الطريق، احرس طلائع المجاهدة من خديعة كمين، احفظ شجعان الغرائم من شر هزيمة، وقع على قصص الإنابة بقلم العفو، لا تسلط جاهل الطبع على عالم القلب، لا تبدل نعيم عيش الروح بجحيم حر النفس، لا تمت حي العلم في حي الجهل، أخرجنا إلى نور اليقين من هذا الظلام، لا تجعلنا ممن رأى الصبح فنام، لاتؤاخذنا بقدر ذنوبنا، فإنك قلت: ولا تنسوا الفضل بينكم (17) واعجبا لمن عرفك ثم أحب غيرك، ولمن سمع مناديك ثم تأخر عنك. حرام علي العيش مادمت غضبانا ومالم يعد عني رضاك كما كانا فأحسن فإني قد أسأت ولم تزل تعودني عند الإساءة غفرانا إلهي، لا تعذب نفسا قد عذبها الخوف منك، ولا تخرس لسانا كل مايروي عنك، ولا تقذ بصرا طالما يبكي لك، ولا تخيب رجاء هو منوط بك، إلهي، ضع في ضعفي قوة من منك، ودع في كفي كفي عن غيرك. ارحم عبرة تترقرق على مافاتها منك، برد كبدا تحترق على بعدها عنك(19).

 إنها مائة فصل في الابتهال والتضرع والمناجاة دبجها قلم من أروع الأقلام التي أخرجتها حضارتنا الإسلامية عندما كان النبع صافيا، وكان الاتجاه صادقا.. صادقا مع الله.. وصادقا مع النفس.. وصادقا مع الكون والإنسان.. وهكذا قدم الإمام ابن الجوزي من خلال كتابه (المدهش) نموذجا للمسلم الرباني، وللأدب الإسلامي الذي يتألق في الصعود بالإنسان إلى هذا المستوى الكوني الفسيح في مناجاة الله.. ـ وإن كتاب المدهش ـ بكامله ـ قطعة أدبية (نثرية وشعرية) رائعة، تمثل أسمى ما وصل إليه الإبداع الإسلامي في أدب المناجاة.. وهو يمثل لوحة جمالية ذات إيقاعات وألوان منسجمة ومتكاملة، وتخلو من أي شذوذ.. ـ ولقد أبرز لنا هذا الكتاب العظيم كيف تتألق روح المسلم، وكيف تنسجم مع عقله ولسانه وقلمه ولغته العربية البليغة.. ـ ومن خلال هذا الكتاب يدرك المسلم دوره ومكانته، ويدرك أحقية الدين الحق الذي ينتسب إليه... ويرتفع من خلال أدب ابن الجوزي ـ إلى مستوى دينه الرفيع.. بل يندمج بكل كيانه في مناجاة واعية صادقة لله. مبدع الكون، ومن يملك مفاتح الغيب.. أوليس هذا أرفع شرف للإنسان... أن يخاطب الله، ويناجيه، ويدعوه .. كما يناجي الحبيب حبيبه، والعبد سيده: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداعي إذا دعان، فليستجيبوا لي، وليؤمنوا بي، لعلهم يرشدون (البقرة 186).. ـ بلى: إنه أرفع شرف.. وأزكى مكان.. إنه المعراج إلى الله بالروح والقلب والوجدان.،،،،

ــــــــــــــــ الهوامش:

 (1) انظر في ترجمته: وفيات الأعيان، وذيل الروضتين، والبداية والنهاية، وابن الوردي، وتذكرة الحفاظ، وغيرها. (2) انظر ترجمته في وفيات الأعيان لابن خلكان. (3) ضبطه وحققه الدكتور مروان قباني، ونشرته دار الكتب العلمية بيروت، وقد اعتمدنا الطبعة الأولى الصادرة سنة 1401 هـ (4) مقدمة تلبيس إبليس نشر دار الكتب العلمية بيروت ط131403 هـ (5) المدهش: الطبعة السابقة ص 106، 107 (6) المدهش: الطبعة السابقة ص 121 (7) المدهش 122 (8) المدهش 139 (9) المدهش 139 (10) المدهش 147 (11) المدهش في 157، 158 (12) المدهش 165 (13) المدهش 173 (14) المدهش 208 (15) المدهش 255 (16) المدهش 264 (17) المدهش ص 332 وجدير بالذكر أنه في ص 274 يقول ابن الجوزي رحمه الله: إنما خلقت الدنيا لتجوزها، لالتحوزها، ولتعبرها لالتعمرها (الفصل الخامس والثلاثون) ونحن لا نقره علـى هذا بل الصحيح عندنا (إنما خلقت الدنيا لتحوزها وتجوزها وتعمرها وتعبرها) فهذا هو التصور الإسلامي للزهد! (18) المدهش 261 (19) سورة البقرة الآية 237 (20) المدهش 414، 415 نشر في مجلة (الأدب الإسلامي)عدد(18)بتاريخ (1419هـ).

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق