الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

من أدب المناجاة (3): حزب الشكوى للشيخ أبي الحسن الشاذلي رحمه الله.

رفقته هذا الحزب، وبعد غد تكون جمعة، وهي الجمعة الوحيدة في أفضل أيام السنة، وهي هذه الأيام العشر الأولى من ذي الحجة.. وهي فرصة للدعاء، علّه يستجاب.
يتعلق الأمر بدعاء منسوب للشيخ أبي الحسن الشاذلي رحمه الله. وهو من أرقّ وأجمل ما قرأت في المناجاة.. أدب المناجاة.
بهذا الدعاء وأمثاله تفهم لِم كان الدعاء مخ العبادة.

والنسخة جيدة ومصححة ومقابلة على عدة نسخ.

حزب الشكوى للشيخ أبي الحسن الشاذلي.

بسم اللـه الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين حمداً
 كثيراً مباركاً كما يُحب ربنا ويرضي . السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . اللهم صل على سيدنا محمد، كما صليتَ على سيدنا إبراهيم. وباركْ على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما باركتَ على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد . (ربنا تقبلْ منّا إنك أنت السميع العليم ).

 اللهم إني أشكو إليك ضعفَ قوتي وقِلّة حيلتي وهَواني على المخلوقين . أنت ربُّ المستضعَفين وأنت ربي، إلى من تَكِلني: إلى عدوّ بعيد يتجهَّمُني، أم إلى صديق قريب ملّكتَه أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أُبالي، ولكن عافيتك أوسعُ لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقتْ به الظلماتُ، وصَلح عليه أمرُ الدنيا والآخرة من أن ينزلَ بي غضبُك، أو يَحلَّ عليّ سخطك. لك العُتْبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك .

ربِّ أشكو إليك تَلوُّن أحْوالي وتوَقّف سؤالي. يا من تعَلقتْ بلطف كَرمه عوائدُ آمالي. يا من لا يخفي عليه خَـفاءُ حالي. يا منْ يعلم عاقبةَ أمري ومَآلي . رب إن ناصِيتي بيديك، وأموري كلُّها ترجِع إليك، وأحوالي لا تخفى عليك، وآلامِي وأحزاني وهُمومي معلومةٌ لديك. قد جلَّ مُصابي، وعَظُم اكتئابي وانْصرَم شبابي، وتكدَّر عليَّ صَفْو شرابي، واجتمعت علي همومي وأوْصابي، وتأخَّر عني تعجيلُ مطلبي وتنْجيزُ إعتابي . يا منْ إليه مَرجعي ومآبي، يا من يسمعُ سري وعلانية خطابي، ويعلم  ما عِلةَ ألَمي وحقيقة ما بي . قد عجزتْ قدرتي، وقلَّت حيلتي، وضَعُفت قوتي، وتاهتْ فكرتي، وأَشكَلت قضيتي . واتَّسعتْ قِصّتي، وساءَت حالتي، وبَعُدت أمْنيّتي، وعظمَت حَسرتي، وتصاعدتْ زَفْرتي . وفضحَ مَكنونُ سِرّي أسْيالُ دمعتي . وأنت مَلجئي ووسيلتي، وإليك أرْفع بَثِّي وحزني وشكايتي، وأرجوك لدَفع عِلتي. يا مَن يعلم سري وعلانيتي.

 إلهى بابُك مفتوحٌ للسّائل. وفضلُك مَبذولٌ للنّائِل وإليك مُنْتهى الشكوى، وغايةَ الوسائل. اللهمَّ ارْحم دَمعيَ السَّائلَ، وجسميَ النّاحِلَ، وحالي الحائِل، وسِنادي المائِل. يا من إليه تُرفع الشكوى، يا عالمَ السرّ والنجوى، يا من يسمع ويَرى، وهو بالمنظر الأعلى، يا رب الأرض والسَّما، يا من له الأسماء الحسنى، يا صاحب الدوام  والبَقا.

 رب عبدُك قد ضاقتْ به الأسباب وغُلّـقَت دونَه الأبواب، وتعذَّر عليه سلوكُ طريق أهلِ الصواب، ودارَ به الهمّ والغمُ والاكتئاب، وانقضى عمرُه ولم يُفتح له إلى فَسيح تلك الحَضراتِ ومناهل الصَّفو والراحات بابٌ، وانْصرَمت أيامُه والنفسُ راتعةٌ فى ميادين الغفلة، ودَنـِيِّ الاكتساب.. وأنت المَرجوّ لكَشف هذا المُصاب. يا من إذا دُعِي أجاب، يا سريعَ الحساب. يا رب الأرْباب، يا عظيم الجَناب. يا كريمُ، يا وهاب.

 رب لا تحْجُب دعوتي، ولا ترُد مسألتي، ولا تدَعْني بحَسْرتي، ولا تَكِلني إلى حَولي وقوتي. وارحمْ عجزي وفاقَتي، فقد ضاقَ صدري وتاهَ فِكري وتحيَّرتُ في أمري، وأنتَ العالِم بسرِّي وجهري، المالكُ لنفعي وضري، القادر على تفْريج كرْبي وتيسِير عُسري.

رب ارحم من عظُم مرضُه وعزَّ شفاؤه، وكثر داؤه وقلَّ دواؤه، وأنت ملجؤه ورجاؤه وعونُه وشِفاؤه. يا من غمرَ العبادَ فضلُه وعطاؤه ووسِع البريّةَ جودُه ونَعماؤه، ها أنا ذا عبدُك:

 مُحتاجٌ إلى  ما عندك، فقيرٌ أنتظر جودَك ورِفْدك، مذنبٌ أسألُ منك الغفرانَ،

جانٍ خائفٌ أطلبُ منك الصَّفح والأمانَ،

مُسئ عاصٍ، فعسى توبةً تجْلو بأنوارها ظلماتِ الإساءَات والعصيان،

 سائل باسِط يدَ الفاقَة الكُليَّة يسأل منك الجودَ والإحسان،

 مسْجون مُقيًّد، فعسى يُفَك قيدُه ويطلَق من سجن حِجابه إلى فسيح حضرات الشُّهود والعَيان،

جائع عار، فعسى أن يُطعم من ثمرات التَّقريب، ويُكسى من حُلل الإيمان.

 ظمآن. ظمآن. ظمآن.. تَتأجّج فى أحشائه لهيبُ النيران، فعسى يَبرُد عنه نارُ الكرْب، ويُسقى من شَراب الحب، ويكْرَع من كاسات القُرب، ويذهب عنه البؤسُ والآلام والأحزان، ويَـنعم بعد بُؤسه وألمه، ويُشفى من بعْد مرضه وسُقمِه حين كان ما كان.

 ناءٍ غريبٌ مُصاب قد بعُد عن الأهل والأوطان، فعسى أن يَذهب عنه صَدَأ القلب والشّقا، ويعود له القرب واللَّقا، ويبدوَ لَهُ سَلْع والنقا، ويَلوح له الأثـلُ والبانُ، ويناله اللطف وتَحُلّ عليه الرحمةُ والرضوان.

 يا عظيم، يا مَنان، يا رحيم، يا رحمن، يا صاحبَ الجود والامتنان والرحمة والغفران. يا رب يا رب يا رب ارحم من ضاقتْ عليه الأكوانُ، ولم تُؤنِسه الثـَّقلان، وقد أصبح: مُولَّهاً حَيران، وأمْسى غريبا، ولو كان بين الأهل والأوطان، منْزعجا لا يُؤيه مكان، ولا يُلهيه عن بَثه وحزنه تغيّرُ الأزمان، مُسْتوحش لا يؤنس قلبَه إنس ولا جانٌ.

 يا من لا يسْكن قلبٌ إلا بقُربه وأنواره، ولا يحيَى عبدٌ إلا بلُطفه وإبْراره، ولا يبقى وجود إلا بإمْداده وإظهاره.

 يا من آنَس عبادَه الأبرار، وأولياءه المقربين الأخيار، بمُناجاته وأسْراره. يا من أمات وأحْيى، وأقْصى وأدنى، وأسعَد وأشقى، وأضلَّ وهدى، وأفقر وأغنى، وعافى وأبلى، وقدّر وقَضى. كلٌ بعظيم تدبيره وسابِقِ تقديره.

 رب أيَّ باب أقصِد غيرَ بابك، وأي جَناب أتوجَّه إليه غير جنابِك. أنت العليّ العظيم الذي لا حول ولا قوة إلا بك. رب لِمن أقصِد وأنت المقصود. وإلى من أتوجه وأنت الحقُّ الموجود. ومن ذا الذى يُعطي، وأنت صاحب الكرم والجود. ومن ذا الذي أسأله وأنت الرب المعبود. وهل في الوجود ربٌّ سِواك فيُدعى، أم هل فى المَملكة إله غيرُك فيُرجى. أم هل كريم غيرك فيُطلب منه العَطا. أم هل ثمَّ جَوَادٌ سواك فيُسأل منه الفَضل والنَّعما.  أم هل حاكِم غيرك فَتُرفع إليه الشكوى. أم هل من مَلجأ للعبد الفقير يَعتمد عليه. أم هل سواك رب تُبسط الأكُف وتُرفع الحاجاتُ إليه. فليس إلا كرمُك وجودك. يا من لا مَلجأ منه إلا إليه، يا من يُجير ولا يجار عليه. أغيرك ها هنا ربٌّ فيُرجى، أم هل ثَم جواد فيُسأل منه العطا؟

 قد جَفاني القريبُ ومَلّني الطبيب، وشَمَت بي العدوّ والرقيب، واشتدَّ بي الكرَب والنّحيبُ، وأنت الوَدود القريب، الرّؤوف المُجيب.

 رب إلى من أشتكي وأنت العليمُ القادر، أم بمَن أستَنصِر وأنت الوَليّ الناصرُ، أم بمن أستَغيث وأنت القويّ القاهِر، أم إلى من ألتجئ  وأنت الكريم السّاتر، أم من ذا الذى يَجبُر كَسري وأنت للقلوب جابِر، أمْ من ذا الذى يغفر عظيمَ ذنبي وأنت الرحيم الغافِر، يا عالما بما في السَّرائر، يا من هو مُطلِع على مَكْنون الضمائر، يا من هو فوق عباده قاهرٌ، يا من هو الأوَّل والآخِر، والباطِن والظاهر. رب دُلَّ حيرةَ هذا العبدِ المُكابر وجُدْ باللَّطف والهداية، والتوفيق والعناية، على عبدٍ ليس له مِنك بُدٌّ وهو إليك صائِر.

 يا إلهَ العباد، يا صاحِب الجود. ويا مُمْرضي وأنت طبيبي، فلمن أشتكي وأنت عليم بعِلتي والذي بي. يا إلهي، يا خالقي، حَقيقٌ عليّ أن لا أشتكي إلاّ إليك، ولا عزم لي أنْ لا أتوَكل إلا عليك، يا من عليه يتوكلُ المتوكلون، يا من إليه يلْجأ الخائفون،  يا من بكرَمه وجميل عَوائِده يتعَلقُ الرّاجون، يا من بِسلطان قَهرِه وعَظيم رَحمته يَستَغيث المُضطرون. يا من لِوُسْع عَطائه وجميل فضْله ونعْمائه: تُبسَط الأيْدي، ويسألُه السائلون. رب فاجْعلني ممَّن يتوَكل عليك، وآمِنْ خوْفي إذا وصلتُ إليك، ولا تُخيِّب رَجائي إذا صرْتُ بين يديك، واجعلني ممن تَسوقُه الضروراتُ إليك، واعْطِني مِن فضلك العظيم، وَجُد عليَّ برِفْدك العَميم، واجعلني بك ومنك وإليك، واجعلني دائما بين يديك.

وارحم بجُودك عبداً ما لَه سببٌ ////   يَرجو سِواك، ولا علمٌ ولا عمل

يا منْ به ثِقتي يا من به فَرَجي   ////  يا من عليه ذَوُو الفاقـات يتَّكلوا

أدْرِك بَقيّة من ذابَتْ حُشاشتُه    ////   قبل الفَواتِ فقد ضاقَت به الحِيلُ

يا مُفرِّج الكُرُبات . يا مُجليَ العَظيمات. يا مُجيب الدّعوات. يا غافِر الزَّلاَّت. يا ساتر العوْرات. يا رَفيع الدرَجات. يا ربَّ الأرض والسماوات.

 يا رب ارحم من ضاقت به الحِيل، وتَشابهَت لديْه السُّبل، ولم يجِد لقلْبه قَراراً، لا عِلم ولا عملٌ. يا من عليه المُتَّـكل، يا من إذا شاء فعَل، يا من لا يُبرِمه سؤال من سَأل.

 رب فأجِب دعائي، واسمعْ نِدائي، ولا تُخيّب رَجائي، وعجِّل شفاءَ دائي، وعافِني بِجودك ورحمتك من عظيم بَلائي.  

يا رب قلَّ اصْطِباري، وطالَ انتظاري، واشتدَّت بي فاقتي واضطراري. وعظُمت عليَّ همومى وأوْزاري وأحزاني وأكْداري، وتَطاول عليَّ سوادُ ليلي، وبعـُد عني طلوعُ بَياض نهاري. وأنت القادر على دفع اعْصاري وذَهاب آصاري وتفْريج كربي وإصلاح قلبي.

 رب قد لاح لي  بارق من سَحائب رحمتك، فوقفتُ على باب حضرتك، أنتظر عواطفَ جُودك ولطائفَ رحمتك، وتعلـّقتْ أطماعي بعَوائد إحْسانك وصنائعِ الفضل، وانْبسَطت آمالي في واسِع كرمك ووعْد رُبوبيّتك. فلا تَرُدني بكَرّة الخائِب الخاسر، ولا تُرجِعني بِحسرة النادم الحَاسر. ولا تجعلني ممَّن حُجب عن الوصول، وبقي بين الرد والقبول،  مُتردداً حائراً. يا مَن هو على ما يشاء قادر، يا قوي يا عزيز يا ناصر.

 رب خُذ بيدي وارْحم قلّة صبري وضَعف جَلَدي. رب إني أشكو إليك بَـثي وحزني وكمَدي. يا من هو غوْثي ومَلجئي، ومولاي وسندي. رب فأطْلقني من سجن الحِجاب، ومُنَّ عليّ بما منَنت به على الأولياء والأحباب، وطَهّر قلبي من الشرك والشَك والارْتِياب. وثبِّتني أبداً قائماً فى الحياة وعند الممات، على السنة والكتاب. وفَهِّمني وعلمني وذَكرني ووَفقني، واجعلني مِن أُولي الفهم في الخطاب، وكنْ ليَ بلطفك ورحمتك وحنانك ورأفتك.. فيما بَقي من عُمري، وعند حضور أجَلي، ويومَ يقوم الأشهادُ للحِساب، وآمِن خوفي واجعلني من الطيبين الطاهرين وممن يُتلقَّى بسلام إذا فُتحت الأبواب.

رب أنت الذي بقدرتك خلقتني، وبرحمتك هديتني، وبنعمتك ربَّيتني، وبلُطفك غذَّيتني، وبجميل سِترك سَترتني، وفى أحسن صورة رَكَّبتني،  وفى عَوالم إبداعك بَدأتني، وفي خير أمة أخرجْتني، وسبيلَ النَّجدين ألْهمتَني... فأتمِم عليّ نعمتك التي لا تُحصى، وكَمّل إلَيّ أياديَك التي لا تُنسى، واجعلنى ممَّن هَدى واهتدى، وسمع ووَعى ، وقرُب وأدنى، وممن سَبقت له منك الحسنى، وممن نال أفضل ما يُتمنى.  واجعلنى من أهل القُرب واللِّقا والرُّتبة العليا فى دار البقا. ولا تجعلني ممن ضَل وغوى، ولا ممَّن قُسم له نصيب من الشقا، ولا ممن اشتَغل بما يَفنى، ولا ممن ضل سعيهم فى الحياة الدنيا، وهم يَحسبون أنهم يُحسنون صُنعا.

(ربنا وسعتَ كلَّ شيء رحمة وعلما)، وقد علمتَ ما كان وما يكون مِنا، وتقدَّس علمك الأعلى، وجَرى القلمُ بما شئتَ من القضا. فليس لنا إلاّ ما إليه وَفقْـتنا، ولا مفرَّ لنا إلا عَمّا به أرَدتنا. فتدارَكنا بفضلك ورحمتك، وحُفـَّنا بعفوك ومغفرتك.

 رب فكما وَسعتَ كلَّ ما كان فى علمك الأعلى، وأحطتَ بما كان وما يكون مني وبكل شيء حكماً وعلماً.. فجُدْ عليّ في كل ذلك برحمتك الواسعة العظمى، واغْمِسني في بحار كرمك وعفوك وحلمك أبداً.  يا مَن إذا وَعد وفَى، يا من وسع كل شيء رحمة وعلما.

 إلهي طلبتك وطلبتُ الحقّ إليك، فأعِنّي على الوصول والتوصُّل إليك، واجمعني واجمع بي من تشاء عليك. اللهم إنا نسألك حسنَ الأدب عند إرْخاء الحِجاب، برحمتك يا أرحم الراحمين.

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين .

(سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.)


هناك تعليق واحد: