الجمعة، 11 أكتوبر 2013

منزلة الدين من السياسة الأمريكية ودوره في استراتيجيتها الخارجية. مقال مطول للأستاذ الكبير: الدكتور عبد المجيد الصغير، وهو قراءة في كتاب : المسيح اليهودي ونهاية العالم، لرضا هلال..

يشرفني ويسعدني أن أنشر في مدونتي هذه مقالا ممتازا لأستاذنا الكبير وأستاذ أجيال من الباحثين والأساتذة، وهو الدكتور عبد المجيد الصغير، زاده الله علما وبارك فيه وفي عمره وعطائه. 
 
منزلة الدين من السياسة الأمريكية ودوره في استراتيجيتها الخارجية

قراءة في كتاب : المسيح اليهودي ونهاية العالم، لرضا هلال*

عبد المجيد الصغيّر  كلية الآداب - الرباط


تمهيد :

لم يعد بخاف اليوم ذلك الدور الذي أصبحت تلعبه وسائل الإعلام المختلفة في تكييف وتشكيل فضاء من المعارف المتداولة، وبالتالي في إضفاء "شرعية" على جملة توجهات واختيارات ومفاهيم معينة، وإذا أمكن افتراض وجود إعلام ملتزم يتحمل دوره الإيجابي في هذا المجال، إلا أ الانحراف عن الاضطلاع بتلك المسؤولية وارد بل ومشاهد في كثير من الأحيان لأسباب نعرفها جميعا... بحيث قد تصير بعض المنابر الإعلامية قوة ضغط تساهم في التعتيم على جملة مفاهيم وقضايا وفي إحداث اضطراب يعرقل الوقوف على الحقيقة ويمنع من رصدها رصدا علميا...ودفعا لإمكانية هذا الانحراف. وجب على المفكر أو رجل العلم في المجتمع أن يضطلع بمهمة مزدوجة، تحقيق استقلاليته من كل الضغوط والاعتبارات الإيديولوجية والحيثيات الظرفية التي قد تساهم في توجيه المنابر الإعلامية وفق استراتيجية معينة، ثم ممارسته لأدوات "تحليل الخطاب" التي تمكن المفكر من أن يميز في قراءته وتحليلاته بين الصريح والمضمر في الخطاب المتداول، دينيا كان هذا الخطاب أو سياسيا أو أدبيا... إلا أن رصد هذه الظاهرة الأخيرة ظاهرة "ازدواجية الخطاب" وتردده بين التصريح والإضمار، تزداد خطورة وتعقيدا حينما تنصب القراءة النقدية على مظاهر من الاستراتيجية السياسية لبعض الدول التي نحتار في تقويم مواقفها، خاصة حينما تبدو هذه المواقف للوهلة الأولى فاقدة للانسجام مبتعدة عن الحكمة والصواب.

وفي هذا الصدد يلاحظ أن قراءة المفكرين وتحليل المتتبعين للسياسة الأمريكية قد خضعت دائما لمحددات اقتصادية واعتبارات جيوسياسية ولدتها غالبا ظرفية "الحرب الباردة" الطويلة. كما تم اللجوء دائما في استراتيجية تلك السياسة في المنطقة العربية إلى فرضية ثابتة مفادها قوة ضغط اللوبي الصهيوني داخل مراكز القرار السياسي والاقتصادي وفي المشهد الإعلامي بأمريكا... لهذا يتم التلويح دائما بأهمية تقوية التواجد العربي لمنافسة اللوبي الصهيوني في التأثير على الرأي العام الأمريكي طمعا في إحداث تغيير في الاستراتيجية الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية في العالم العربي عامة وفي فلسطين خاصة.

غير أن هناك أعمالا فكرية نقدية تعتبر هذا اللجوء المتسرع إلى اللوبي الصهيوني لتفسير الاستراتيجية الأمريكية الخارجية الثابتة تفسيرا تبسيطيا يقف عند سطح الوقائع والأحداث ولا يتعمق لإدراك عمقها الأساس وثابتها الخفي غير المصرح به غالبا. وتكمن قيمة تلك الأعمال الفكرية النقدية في قدرتها على إقناعنا بوجوب تغيير زاوية النظر إلى الممارسة السياسية العامة داخل أمريكا وخلخلة تلك الفرضيات الجاهزة حول خضوع المجتمع الأمريكي للأخطبوط الصهيوني. وبفضل هذا التغيير المنهجي في زاوية الرؤية وفي الذهاب بعيدا للكشف عن "المسكوت عنه" في ذلك المجتمع تنجح بعض تلك الأعمال النقدية في كشف الغطاء عن المستور الكامن وراء المواقف الظاهرة وإخراج اللامصرح به إلى منطقة الشعور، فتضع تلك الأعمال أيادينا على الأدلة الملموسة التي تسمح بفهم أفضل للمواقف وخاصة لتلك الاستراتيجية الثابتة في السياسة الخارجية الأمريكية التي لا تتأثر بتغير المشهد السياسي الداخلي من حين لآخر والذي تتداول عليه كما نعرف الكتلتان السياسيتان للحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي. نستطيع أن نذكر من بين هذه الأعمال النقدية كتابات نعوم تشومسكي كما نذكر داخل الفكر العربي أعمال وكتابات رضا هلال الذي نقف اليوم لنقدم بعض خلاصات كتابه الهام الموسوم بالمسيح اليهودي ونهاية العالم مع عنوان فرعي هو: المسيحية السياسية والأصولية في أمريكا، وقد سبق للمؤلف أن نشر في نفس الموضوع دراسات أخرى منذ بدايات سقوط النظام السوفييتي واستسداء القطب الأمريكي الأوحد.

غير أن قيمة كتابنا هذا والذي تمنى كاتب مقدمته لو استطاع أن يوزعه مجانا على كل العرب، تكمن أولا في حداثة دراسته وتتبعه للتطورات والتحولات الآنية في المجتمع الأمريكي، ثم إن الكتاب هو نتيجة معاينة مباشرة وتتبع ميداني شخصي لمختلف تلك التحولات والحركات الفكرية والدينية خلال هذه الفترة داخل المجتمع الأمريكي، هذا علاوة على تسلح المؤلف بمنهجية علمية وصفية دقيقة وتأسيس أحكامه على شهادات دامغة. كما أنه كتاب محرر بموضوعية صارمة وبأعصاب باردة جعلت مقدم الكتاب يقول عنها في استغراب "إن رضا هلال... يكتب هذا الكتاب الجديد المثير بأسلوب محايد تماما إلى حد يثير "الغيظ" أحيانا... وعندما يقدم حقيقة تثير الدهشة والانفعال، ومعها الدليل والبرهان فإنه هو نفسه لا يبدي أي دهشة أو انفعال، فقد أقام هذا الكتاب العزيز في قلبه وعقله، شرطيا حازما قويا يمنعه من أن يقول شيئا سوى الحقيقة المجردة" (ص 28). ثم إن الكتاب بعد كل ذلك ينجح في إلقاء الضوء على الدوافع الواضحة والمسكوت عنها مع ذلك وراء المواقف الثابتة للاستراتيجية الأمريكية في العالم العربي. وهو في سبيل بيان ذلك يوضح بالشواهد القاطعة والمصادر الدامغة مدى تغلغل إيديولوجية دينية عدوانية الطابع ضد كل من لا يشبهها في العالم، إيديولوجية تتخذ من التصورات والمفاهيم العقائدية التوارتية موجها أساسا لاستراتيجية التحرك الأمريكي فيما يسمونه "بالشرق الأوسط" وهذا هو الأمر "المسكوت عنه" في تلك الاستراتيجية ولعل الأخطر في هذه الاستراتيجية لا يكمن فحسب في طابعها العدائي المطلق الرافض للاختلاف، وإنما هو خطر يكمن كذلك في أسلوب التورية وعدم التصريح بتلك الدوافع والعقائد الدينية التي تشكل الوقود المحرك لتلك الاستراتيجية. وعليه، إذا كان المحللون السياسيون ومعهم وسائل الإعلام التقليدية لا يرون في المواقف الأمريكية الأخيرة، السياسية والعسكرية، إلا تجلياتها الظاهرة ومظاهرها السطحية، فإن على الباحث المفكر أن يستنطق كل الأدبيات السياسية والمعطيات التاريخية والثوابت الفكرية لرجال السياسة أنفسهم وللفاعلين الاجتماعيين كي يستطيع رفع القناع عن المسكوت عنه، وإخراج اللاشعور الذي قد تصيره بعض المواقف والأحداث شعورا ظاهرا وإيديولوجيا مفضوحة تكشف عن نفسها بنفسها قولا وعملا...

1. كان لا بد إذن للمؤلف أن يبدأ مقدمة كتابه بمراجعة نقدية لما درج عليه الفكر العربي خاصة من تعليل انحياز أمريكا للكيان الصهيوني. إن الواقع يشهد على عدم كفاية الأسباب التقليدية التي يقدمها المتتبعون للسياسة الأمريكية التي يحكمها ثابت واحد وهو المساندة المطلقة اللامشروطة لذلك الكيان المزروع في قلب العالم العربي. لقد قيل ولازال يقال إن ذلك الكيان يمثل "دركي المنطقة" يحفظ المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الأمريكية. وهو كيان ذو ولاء أمريكي لا شك فيه.

غير أن هذا التفسير غير مقنع، خاصة وأن الولايات المتحدة الأمريكية لدرك أنها تستطيع لو شاءت أن تحقق كل تلك المصالح والامتيازات دون حاجة إلى ذلك الكيان المرزوع، بل إنها قد استطاعت بالفعل أن تحقق ما لم تكن تحلم به في المنطقة اعتمادا على الخليج العربي وحدهم، اقتصاديا وسياسيا واستراتيجيا، وأكثر دول العرب مثلا تدين بالولاء السياسي لأمريكا أكثر مما تدين لها تلك "الدويلة" المزروعة بالحديد والنار.

فماذا بقي إذن ليثبت العرب لأمريكا "حسن نيتهم" وليقنعوها بضرورة العدول عن مشروع "الدركي الإسرائيلي" في قلب العالم العربي، بل ربما لو ساهمت أمريكا بنفوذها في إرجاع الفلسطينيين المهجرين قسرا إلى أرضهم وديارهم بفلسطين فلن ينس العرب صنيعها هذا معهم وازداد نفوذها السياسي والاقتصادي والاستراتيجي في قلب العالم العربي

لكن الحيرة تطال المفكر حين يستعرض أمامه كل هذه المبررات والفرص المتاحة التي تخدم فعلا المصالح الأمريكية والتي يملكها العرب ولم يبخلوا بها عليها يوما، ومع ذلك تدير الولايات المتحدة الأمريكية ظهرها لكل دول وشعوب المنطقة وتصر أن تضربهم في العمق وتحطم كبرياءهم وتتورط بسياستها "الإسرائيلية" في مواقف قد تعصف -لو وجدت رجالا- بمصالحها الحقيقية، بل إنها مصالح حتى لو تحققت،كما هي الآن، فلا تتم إلا باستمرار ركوب مخاطر الاصطدامات العسكرية والتقلبات السياسية والاقتصادية، وهي في غنى ربما عن كل ذلك لو وقفت بجانب العدل وعدلت عن تغذية جسم غريب زرعته في غير موضعه ضدا على حقوق الإنسان الطبيعية، خاصة حقه في العودة إلى أرضه واسترجاع ممتلكاته. فماذا يبقى إذن بعد عدم كفاية تفسير التأييد الأمريكي اللامشروط "لإسرائيل" سوى البحث عن مبررات أخرى لعلها تلقى مزيدا من الضوء على هذا التناقض الذي يتسم به الحضور الأمريكي الطاغي في الشرق الأوسط

كل هذا يبين على الأقل عدم كفاية التفسير المألوف للموقف الأمريكي من إنشاء ودعم إسرائيل بإرجاعها إلى تسلط اللوبي اليهودي داخل مراكز القرار الأمريكي، مع أن هذا اللوبي كان ضعيفا داخل أمريكا يوم قررت هذه الأخيرة الاعتراف بذلك الكيان سنة 1948.  لذا كان على المؤلف أن يلتمس أسبابا أخرى أكثر عمقا تسمح بالغوص داخل الثقافة الأمريكية المشتركة، مما مكنه أن يستخلص حقيقة مفادها :

أنه مهما يكن من أثر ذلك اللوبي اليهودي، إلا أن الانحياز لإسرائيل يتغلغل في المجتمع الأمريكي لأسباب ثقافية ولاهوتية (ص:15 ) وليس لمجرد أسباب سياسية واقتصادية فحسبتلك هي الحقيقة الصادمة التي يعلنها على الملأ كتابنا هذا عن "المسيح اليهودي" ويعمل على البرهنة عليها بالشهادات الحية الدالة على خطورة الموضوع إيديولوجيا، الكاشفة لانعكاساته السلبية سياسيا وواقعيا، ليس على المنطقة العربية وحدها، بل وعلى العالم أجمع.

وإذا كانت هذه هي المفارقة الأولى التي حاول هذا الكتاب إعادة تفسيرها، فإن المفارقة الأخرى التي نبه عليها المؤلف تتمثل في هذا التناقض ما بين الأساس القانوني والدستوري للدولة الأمريكية والواقع الفعلي لمجتمع هذه الدولة، إذ بقدر ما يعلن دستور الولايات المتحدة الأمريكية عن "علمانية" الدولة وفصل الكنيسة عن السياسة، فإن هذه العلمانية قد صارت في ظل مبدأ الحرية تعني رفع يد الدولة عن كل أنماط التدين وعدم حدها من نشاط الكنائس ومن حريتها. الأمر الذي سهل لكل هذه الكنائس اكتساح مختلف المواقع الاجتماعية، حتى صار المجتمع الأمريكي أكثر الشعوب الغربية تدينا، رغم كونه محكوما بدستور علماني المظهر. وتلك هي المفارقة الكبرى في هذا المجتمع الذي يستطيع بنشاطه وبأصوات منتخبيه أن يوجه ساساته للتصرف أحيانا ضدا على الدستور، حين يعلنون تشبثهم بمبادئه العلمانية ويبطنون تحقيق مطامح تيولوجية لا هوتية وعقدية (ص 21-24.)

2. يحرص المؤلف منذ البداية أن ينبه قارئه إلى أن عمله هذا ليس من باب الخيال الأدبي ولا هو من قبيل الفرضيات التي تصح وقد لا تصح على أرض الواقع، بل نحن أمام عمل هو في جوهره معاينة مباشرة لواقع اجتماعي وفكري أمريكي معاصر وتسجيل حي لصدمة حقيقية عاشها المؤلف شخصيا داخل الولايات المتحدة الأمريكية منذ زمن قريب في تسعينيات القرن الذي ودعناه، مباشرة بعد انهيار الكتلة الشرقية وحرب الخليج الثانية. ولقد كان الباعث الأول على هذه الصدمة لديه حالة الإعلام الأمريكي، خاصة منه الإعلام الديني الكنسي المنظم الذي يملك محطات إذاعية يقدر عددها بالآلاف، وقنوات وشبكات تلفزيونية، تعد بالمئات تنعت هناك "بالكنائس التلفزيونية" التي يوفر وعاظها ومنشطوها على ملايين المشاهدين الانتقال من منازلهم إلى الكنائس، فينتقلون هم إليهم في بيوتهم عبر تلك المحطات والقنوات ليكون محور وعظهم إيديولوجية واحدة مفادها : ضرورة دعم "إسرائيل" واحتلال القدس عاصمتها الدائمة وإعادة إقامة الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى، باعتبار هذا الثالوث "ميثاقا" "دينيا عقديا مسيحيا"، واستراتيجية ضرورية تمهد"لنهاية التاريخ"، واستعجالا لعدوة المسيح" المخلّص

غير أن الخطير في الأمر أننا لسنا هنا أمام إيديولوجية شاذة وتوجه معزول، وإنما نحن في الواقع أمام إيديولوجية تعرف اتساعا فكريا واجتماعيا مضطردا بل وتقف وراءها مؤسسات رسمية تضمن لها مزيدا من ذلك الانتشار والذيوع داخل كل الشرائح الأمريكية. وللتحقق من قوة ومبلغ نفوذ مثل هذه المؤسسات حرص المؤلف على زيارة إحداها والمتمثلة في ذلك المجمع الضخم لشبكة CBN في "فيرجينيا بتش" وهي الشبكة المتخصصة في بث المواعظ الكنسية المشار آنفا إلى إيديولوجيتها. لقد وقف مؤلفنا على ضخامة المؤسسة المكونة من أحد عشر طابقا ورأى بأم عينيه كيف تضم هذه المؤسسة جامعة مسيحية قائمة الذات، وهي جامعة REGENT المتخصصة في الدراسات القانونية وفي الصحافة والإعلام، وإنها بجانب هذا جامعة أشد ما تكون حرصا على بث تلك الإيديولوجيا المتعلقة بقرب "نهاية العالم" وبضرورة الاستعداد لذلك بنصرة إسرائيل" بل لقد لفت نظر المؤلف أن المجمع المذكور قد كتب على باب مدخله نص من الإنجيل ينذر بنهاية التاريخ ويبشر بقرب عودة المسيح، كما كتب على باب خزانة المجمع نص من التوراة يمجد عودة ملك داود على عرش "إسرائيل".

وقد علم المؤلف من القائمين على المؤسسة أن الهدف الأساس لجامعة REGENT وشبكة CBN  يتلخص في تهييء المجتمع الأمريكي لعودة المسيح المرتقبة وشيكا، كما علم أن الشبكة المذكورة كانت تملك محطة تبث أيضا من جنوب لبنان ثم تحولت إلى  البث عبر القمر الصناعي الإسرائيلي، والجدير بالذكر أنه بالإضافة إلى الجامعة فإن المؤسسة المذكورة التي يديرها الق التلفزيوني وزعيم الائتلاف المسيحي "بات روبرتسون" تضم كذلك مركزا للمساعدة القانونية ووكالة إغاثة محلية ودولية وقناة تلفزية ترفيهية، كما تضم شبكتها الإذاعية CBN "مجموعة آسيا المحيط الهادي الإعلامية" لشراء المحطات والقنوات التلفزيونية في آسيا وهولي وود، ووكالة سياحية ومؤسسة إعلامية تملك محطات إذاعية وتلفزية وتنتج برامج وأفلام تلفزيونية وتملك وتؤجر محطات بث فضائية، علاوة على "تلفزيون الشرق الأوسط" الذي أشرنا إليه، إنها بحق "إمبراطورية" كما سماها مؤلفنا في ملك زعيم الائتلاف المسيحي، هذا الائتلاف الذي يضم مليونا ونصف من الأعضاء يمارسون مختلف أساليب الضغط واللوبي في الحياة الأمريكية العامة (ص198.).

ثم جاءت الفرصة كي يلمس المؤلف بنفسه نموذجا من الممارسات الكنسية الأمريكية العنيفة التي تكرس الاعتقاد بقرب نهاية التاريخ، ذلك النموذج المتمثل فيما أقدمت عليه سنة 1993 طائفة "الديفيديين" بزعامة ديفيد قورش من ممارسة انتحار جماعي قدر عدد أفراده بأربعة وسبعين منتحرا، اعتقادا منهم أنهم بذلك ينفذون أمرا استعجاليا بنهاية التاريخ وعودة المسيح. غير أن ما لفت نظر المؤلف بعد هذا الحادث أن التابوت الذي وضعت فيه جثة ديفيد قورش قد لف بالعلم الإسرائيلي وليس بالعلم الأمريكي ! وقد تكرر عنف هذه الطائفة حين أقدم أحد أتباعها في الذكرى الثانية لموت زعيمها على إحراق المبنى الفيدرالي في ولاية أوكلاهما، متهما الحكومة الأمريكية إذ ذاك بخضوعها لضغوط دولية من شأنها في اعتقاده أن تؤخر عودة المسيح ...

وتلك  مناسبة للمؤلف كي ينبه قارئه إلى أن الممارسة الأمريكية للتدين جعلت الدين "بضاعة" أو رأسمالا يتداول ويتنافس بشأنه في سوق رائجة للدين" ! سوف تتخذ من حرية الإعلام ومن الديمقراطية فضاء لترويج تلك البضاعة الدينية التي أشرنا إلى مضمونها الإيديولوجي، كما تتخذ كأسلحة فعالة لها كل الابتكارات العلمية في ميدان التواصل والإعلام، ليظهر ذلك أولا على صفحات الجرائد الكبرى ومواقع الأنترنيت والبريد الإليكتروني وشبكات المحطات والكنائس التلفزيونية، إضافة إلى الجامعات اللاهوتية ومنظمات التبشير، قبل أن يتجلى ذلك ثانيا في ظهور "يمين مسيحي" يحظى بنفوذ قوي خاصة داخل الحزب الجمهوري، حيث خاض هذا اليمين حلبة الصراعات السياسية حتى صار اليوم في أوائل هذا القرن قوة انتخابية ضاغطة تتمتع بتواجد متنامي شامل سواء داخل المؤسسات التعليمية أو مجالس الولايات أو الكونجريس بمجلسيه، مما دفع بهذا التيار إلى تقديم مرشح عنه باسم الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية لسنة 1988  ثم لسنة 2000.

لذا حق للمؤلف رضا هلال أن يسجل منذ مقدمة كتابه هذا التعارض الصارخ بين السوابق الدستورية والقانونية في النظام الفيدرالي الأمريكي من جهة، وبين الرأي العام والواقع الفكري الشعبي والممارسة العملية على مستوى الولايات من جهة ثانية، إذ بالرغم من تلك السوابق الدستورية المؤكدة لفصل الدين عن السياسة، إلا أن الانتصار على المستوى الشعبي كان يسير دائما لصالح الأطروحة المضادة، وهي وصل الدين بالسياسة، دليل ذلك النسبة المرتفعة لتدين الأمريكيين، إذا ما قورنت بالحالة الأوروبية عامة وبحالة فرنسا خاصة. وأمام هذا المعطى الاجتماعي والفكري والديني القائم في الولايات المتحدة الأمريكية، كان لا مفر للمؤلف أن ينهج منهجا علميا صارما يبتغي تقديم وصف موضوعي لهذه الظاهرة الأمريكية الخاصة محاولا الجواب عن سؤالين أساسيين هما :

كيف تديّن الأمريكيون وتضخم المشهد الكنسي في العالم الجديد؟

ثم كيف تحيز الأمريكيون بفعل هذا التضخم للكيان الصهيوني "إسرائيل"؟

وهما سؤالان بإمكاني اختزالهما في سؤال واحد هو : كيف تديّنت أمريكا وتهوّدت في نفس الآن؟ مما يفيد أن التديّن المسيحي الأمريكي يصب حتما في "التهوّد" على مستوى التصورات العقائدية، ويترجم إلى مساندة "الصهيونية" على مستوى الممارسات السياسية.

3. إذن كيف تهود الفضاء العقدي المسيحي؟

من المثير للانتباه أن تبدأ الأصول الحقيقية لأحداث هذا الكتاب المعاصرة داخل أمريكا، أن تبدأ في زمن ومكان بعيدين ارتبطا في نفس الآن بالإسلام وبالمسيحية وبأمريكا ! إنها الأندلس أو شبه الجزيرة الإيبيرية ما بين القرن الثالث عشر والسادس عشر للميلاد، سواء بممالكها الإسلامية الجنوبية أو المسيحية الشمالية والتي سوف تنطلق منها أول بعثة لاكتشاف القارة الأمريكية بقيادة كريستوبال كولومبوس... ففي غمرة نشوة الحروب الصليبية وتراجع المسلمين بالأندلس تعرّض هؤلاء الأخيرون ومعهم أهل ذمتهم من اليهود إلى حملات الطرد والتنصير أرغمت مئات المتبقين منهم على التنصر وكأن من بينهم آلاف من اليهود الذي تظاهروا بالنصرانية فعرفعوا في شبه الجزيرة الإيبيرية بالمسيحيين الجدد أو "يهود المارانو".ومن الغريب أن ينجح هؤلاء في وقت وجيز بعد تنصرهم القسري هذا في تهويد الفضاء الديني المسيحي بأوروبا، خاصة بعد أن أصبحوا مستشارين لرجال الكنيسة وصاروا موضع ثقتهم في نقل أخبار التوراة وترجمة تصوراتها ومفاهيمها، بعد أن أعادوا بالأندلس صياغة ذلك في ضوء ما تراكم لديهم من مفاهيم لغوية وفلسفية وشرعية استفادوها من احتكاكهم الطويل بالحضارة الإسلامية بالأندلس، كما فعل موسى بن ميمون في المجال الشرعي والتوراتي، وكما فعل بعده موسى الليوني وغيره في المجال الصوفي الإشراقي (القبالا)... وبذلك قدر لليهود الذين كانوا طيلة القرون الوسطى منبوذين في العالم المسيحي وينظر إليهم بكثير من الريبة، وبعد أن علت الأصوات بطردهم من كل أوروبا، وقد تم ذلك في بريطانيا وفرنسا، قدر لهم- بعد أن اشتد عودهم في الأندلس الإسلامية ونضج فكرهم وبعد أن أرغموا على التنصر- أن يعودوا إلى العالم المسيحي ليلعبوا "دورا مهما في الحياة الدينية والثقافية والاجتماعية" حتى صار المسيحيون بفضل هذا التأثير اليهودي يبدون عناية بالعهد القديم ويقبلون على غير عادتهم، على تعلم لغة التوراة، فلا يجدون معلمين خيرا من أولئك اليهود، يهود الأندلس، وهي ثقة سوف تعبر من خلالها إلى العالم المسيحي العديد من المفاهيم والتصورات والإشكالات الفكرية اليهودية، مما حمل مفكري النهضة بأوروبا، أدباء وفلاسفة، على الانخراط في تلك الانشغالات والهموم التوراتية وكأنها تشكل جزءا من الفضاء الديني المسيحي بأوروبا (ص : 60).

ولعل أهم ما تم تسريبه، منذ القرن السادس عشر من الثقافة اليهودية إلى صلب العقيدة المسيحية، بعد أن أضفي عليه طابع هذه الأخيرة، ترقب اليهود وانتظارهم "للمسيح المنقذ"، وهي فكرة تم إعادة تأويلها من طرف "يهود المارانو" المنصرين ليصبح معناها الاعتقاد بضرورة عودة عيسى المسيح في آخر الزمان الذي ينتهي معه التاريخ ليستأنف دورته الأخيرة مع "الألفية السعيدة" Millénaire وبذلك تحقق الإدماج بين المسيح اليهودي العائد لتجديد دولة لليهود بالحديد والنار بين المسيح العائد آخر الزمان للدينونة الكبرى، كما عبرت عن ذلك رؤيا يوحنا التي قدمت تحت عنوان « Apocalypse » التي تشير إلى تلك النهاية المرعبة للعالم...

وبحسب هذا التكييف لتلك العقيدة الألفية أو "المللية" داخل الوسط الكنسي المسيحي، فإن مجيء أو عودة المسيح المنتظر لا يمكن أن تتم إلا إذا أعاد المسيحيون كل من تبقى من يهود العالم إلى أرض الميعاد في فلسطين، وأعادوا معهم بناء الهيكل في أورشيلم تمهيدا لتنصيرهم مباشرة بعد عودة ذلك المسيح...تلك هي الصورة العقدية التي صارت لمفهوم المسيح التوراتي داخل الثقافة المسيحية الأوروبية، وقد اقتنع كل المسيحيين بوجوب تحقيق ذلك الشرط الذي لن تتم عودة المسيح إلا به، ألا وهو ترحيل اليهود من كل العالم نحو فلسطين تمهيدا لإعادة "تأسيس الحكم الإلهي للأرض من أورشليم".

ولعل هذا ما جعل حركة الفرنسيسكان التبشيرية المتطرفة التي أسسها في إسبانيا المبشر ريمون لول" (1316م) تنخرط في عقيدة الألفية تلك وتضع ضمنه أولوياتها التربوية تعلم العبرية والآرامية، اعتقادا منها أن ذلك يعدها إعدادا أفضل للتواصل مع اليهود العبرانيين ومع المسيح الآتي الذي كانت الآرامية لغته اليومية ! ومنذئذ شاع الاعتقاد بين المسيحيين "أن اليهود الموجودين شركاء لا غنى عنهم في الأحداث العظمى المقبلة قبل مجيء المسيح (ص 62.).

غير أن المفكر لا يملك إلا أن يستغرب بعد إدراكه لحقيقة صادمة، وهي أن التهويد الأكبر للثقافة الدينية المسيحية إنما اضطلعت به بشكل أقوى حركة الإصلاح الديني البروتستانتي بزعامة مارتن لوثر، وهو الإصلاح الذي سيمثل بعد قليل الجسر الذي ستعبر عليه المسيحية المتهودة إلى أمريكا. لقد بدا مارتن لوثر في ثورته على الكاثوليكية التي ناصبت اليهود العداء طيلة القرون الوسطى، وكأنه أراد أن يقوم بردة فعل لما فعله قديما بولس، المؤسس الحقيقي للمسيحية، حيث عزم على قطع كل صلة للمسيحية الجديدة بالتراث اليهودي. فبخلاف ذلك ومع الإصلاح اللوثري تعزر الحضور التوراتي اليهودي في الفكر البروتستانتي وأقدم لوثر على نشر مؤلفه المسيح ولد يهوديا، كرس فيه بوضوح المفاهيم الصهيونية القائمة على وجوب استحضار كون اليهود وحدهم شعب الله المختار مؤكدا بصريح عبارته : "إن اليهود هم أبناء الرب ونحن الضيوف والغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل مما يتساقط من فتات مائدة أسيادها" (ص: 63) ولن تتزعزع عقيدة اللوثريين هذه في منزلة التوراة واليهود من الفكر المسيحي حتى حينما انقلب لوثر على اليهود ودعا إلى طردهم من ألمانيا والدفع بهم إلى فلسطين تحديدا، بعدما خاب ظنه في إمكانية تحويلهم إلى المسيحية تمهيدا أيضا لعودة المسيح حسب العقيدة المللية سابقة الذكر. ولهذا حق لمؤلفنا أن يؤكد أن :حركة الإصلاح البروتستانتي" لما يئست من تحويل اليهود إلى البروتستانتية تبنت الدعوة لعودة اليهود إلى فلسطين للتخلص منهم. وكان في ذلك إعلان نشأة المسيحية الصهيونية (ص: 64) هذه المسيحية الصهيونية أو اليهودية التي سوف ترحل مع البروتستانتية حيثما اتجهت، ابتداء من إنجلترا وانتهاء بالولايات المتحدة الأمريكية، بحيث صارت التصورات والمفاهيم والتقاليد التوراتية اليهودية تطغى على الجانب المسيحي في البروتستانتية حتى كادت تمس الثوابت العقدية المعروفة في المسيحية، مما اعتبر "غزوا عبرانيا" داخل المسيحية البروتستانتية، خاصة داخل نحلتها "البيوريتانية" أو التطهيرية التي سوف يلعب مفكروها في إنجلترا أدوارا واضحة للضغط على السلطة السياسية لتبني المشروع الصهيوني.

لقد تمخض عن هذا التهويد للبروتستانتية أن تبنت بريطانيا منذ سنة 1600 استراتيجية رسمية رفعتها إلى مستوى المهمة المقدسة، تقضي ببذل كل الجهود لتمكين يهود أوروبا من الهجرة إلى فلسطين باعتبار ذلك يتوافق مع العقيدة الألفية ويمهد لعودة المسيح... ثم توالت طيلة القرن السابع عشر التفسيرات والتأويلات والقراءات للأحداث الدينية والسياسية والعسكرية الكبرى في العالم باعتبارها "علامات على اقتراب موعد الألفية ونزول المسيح". وتسابقت القوى الغربية الكبرى في ذلك القرن، بروتستانتية كانت أو كاثوليكية، إلى مخاطبة ود اليهود ودعتهم إلى العيش بين ظهرانيها طمعا في تحويلهم إلى المسيحية والظفر بشرف قيادتهم بعد ذلك إلى أورشليم وإعادة بناء الهيكل، وكأن تلك القوى كانت تعد لحرب صليبية جديدة بعد زمن مضى على نهاية الحروب الصليبية"، فصارت بريطانيا وفرنسا تحلمان بإحياء دورهما المعروف في قيادة تلك الحرب، ولكن هذه المرة بمعية اليهود الذين اعتبرهم لوثر أبناء الله وأحباؤه !

هذا ولقد كان من المنتظر ألا يتأخر بعض أحبار اليهود عن استغلال دعاوى تلك المسيحية اليهودية داخل البروتستانتية، فركبوا موجة العقيدة الألفية في صيغتها المسيحية، وشددوا على دعاوى نحلة البيوريتانية الإنجليزية الداعية إلى اعتبار إنجلترا "إسرائيل الموقتة" تمهيدا للرحلة إلى إسرائيل الدائمة. ولهذا الغرض كتب الحاخام الأكبر لأمستردام كتابه أمل إسرائيل، أواسط القرن السابع عشر، يخطب فيه ود بريطانيا العظمى ويشجعها للمضي قدما في تنفيذ مشروعها المسيحاني المشار إليه، بل لقد كان من المتوقع لهذا الاكتساح الذي حققته المسيحية الصهيونية، في الفضاء الديني الأوروبي، أن نجد صداه ليس فحسب لدى الطبقة السياسية والفآت الاجتماعية العادية، بل إن أثر التغلغل للمفاهيم التوراتية ولذلك الغزو العبراني، قد مس الفضاء الفكري والفلسفي الأوروبي طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مما جعل أعمال شريحة واسعة من كتاب وفلاسفة أوروبا تعكس هموم وتطلعات المسيحية الصهيونية كما هو الشأن مع جون لوك وإسحاق نيوتن وجان جاك روسو وبليزباسكال وإيمانويل كانط وغيرهم من المفكرين والأدباء والشعراء الذين وإن اختلفت تصوراتهم الفلسفية والفكرية، فقد اتحدت عقيدتهم "الألفية" المترجمة لضرورة عودة المسيح والتعجيل بإرجاع اليهود إلى أرض الميعاد بعد طرد "الغرباء" منها[1].

هكذا يمكننا أن نستخلص مع مؤلف كتابنا هذا "أن المسيحية اليهودية (الصهيونية) أصبحت مع نهاية القرن الثامن عشر تيارا راسخا في الثقافة الغربية، إلا أنها منذ ذلك التاريخ تحولت من ميدان اللاهوت والفلسفة والأدب إلى ميدان السياسة (ص: 70) ولذلك لن يتأخر نابليون بونابارت في حملته على الشام سنة 1799 عن استغلال ما غرسته العقيدة الألفية والمسيحية اليهودية، فقام يدعو اليهود إلى المساهمة في تمويل حملته تلك والانضمام إليه واغتنام هذت العرض الثمين الذي تقدمه فرنسا الثورة ليهود العالم بإقامة دولة لهم فوق أرض فلسطين معلنا لهم أن المسيحيين الأحرار أدركوا أن اليهود عتقاد الله، "سيعودون إلى صهيون وهم يغنون" بعد طرد الدخلاء وأن العناية الإلهية أرسلت نابوليون لإتمام هذه المهمة وتحقيقها على أرض أورشليم (ص: 71) وأمام هذا الاندفاع والتحرك العملي الفرنسي الذي لن ينتهي مع فشل حملة نابوليون، أسرعت بريطانيا، خاصة بعد انتعاش الحركة الإيفانجيلية البيوريتانية، لمعاودة المحاولة، فقامت شخصيات نافذة في المجتمع البريطاني لحمل الدولة على تبني المشروع الصهيوني في صيغته السياسية، وكان على رأس هؤلاء اللورد شافتيسبري زعيم "المبشرين" الذي "جعل كل همه إقناع الإنجليز بأن اليهود حجر الزاوية من أجل الأمل المسيحي في الخلاص" معتبرا في مقال كتبه سنة 1839 أن فلسطين "بلاد بدون أمة، لأمة بدون بلاد" ! وهو الشعار الذي سوف تقتبسه فيما بعد الصهيونية اليهودية وتعيد صياغته هكذا : "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض (ص: 73) فهو شعار مسيحي قبل أن يكون شعارا صهيونيا. وسرعان ما تبنت بريطانيا هذا المشروع وجعلت رأس حربته أول قنصلية لها افتتحتها في القدس سنة 1838، ثم توالت المشاريع والدعوات الرسمية والاستطلاعات الميدانية لتحقيق مشروع عودة اليهود إلى فلسطين.

الواقع أن أول مؤتمر صهيوني يهودي خالص، وهو الذي عقد في بازل سنة 1897، لم يكن في حقيقته إلا صدى واستجابة لحركة صهيونية حقيقية داخل الفكر المسيحي عامة، والفكر المسيحي البروتيستاني خاصة، هذا الفكر الأخير الذي عرف داخل بريطانيا تحالفا بين رجال الفكر ورجال السياسة بمعية كهنة "ومبشرين: عملوا جميعا على إخراج المشروع القديم الذي بشرت به المسيحية اليهودية. والجدير بالذكر أن من أشهر المنتسبين لهذه المسيحية المتهودة، بعد وضوح صورتها الصهيونية، نجد وزير الخارجية البريطاني لورانس أوليفنت، ووزير خارجيتها أيضا جوزيف تشامبرلين ثم رئيس وزرائها اللورد أرثر بلفور، صاحب وعد بلفور الذي أضفى على عودة اليهود إلى فلسطين طابعا "شرعيا" وإلزاما أمميا ! وحوّل ما كان مجرد أسطورة وعقيدة مسيحية متهودة إلى سياسة عملية وخطة تطبيقية تساهم فيها كل الأمم للإسراع بعودة المسيح !

وفي ذلك تنفيذ "لخطة الرب" هذه لمن كان يعتقد في صدقها، وتحقيق لمصالح اجتماعية لمن كان يرغب في إبعاد اليهود عن أوروبا، وتنفيذ لاستراتيجية استعمارية توسعية لمن كان يتطلع إلى إيجاد موطن قدم في المنطقة. ولا نعدم من كان يرى كل هذه الأهداف مجتمعة جديرة بالتنفيذ على أنقاض فلسطين وشعب فلسطين. وتلك صورة من صور علاقة الدين بالسياسة في أوروبا إلى مطلع القرن العشرين، مع ملاحظة أنه بالرغم من تضارب المصالح الأوروبية وهيمنة العلمانية على الفكر الغربي، إلا أن ذلك لم يكن يكف ليؤثر مطلقا في تنامي وترسيخ الولاء "للصهيونية" بين جميع الاتجاهات الغربية بما يفيده ذلك الولاء من العمل على توطين يهود العالم في فلسطين. وتلك بعينها استراتيجية العقيدة الألفية وجوهر المسيحية الصهيونية[2].

4. ذلك هو مضمون الفصل الأول من هذا العمل، إلا أن المؤلف ينبهنا في نهاية هذا الفصل أن مفهوم المسيحية اليهودية وتطورها السريع نحو مسيحية صهيونية لن يعرف نضجه النظري ولا طريقه إلى التنفيذ العملي إلا داخل الفكر البروتستانتي في حياته الثانية في القارة الأمريكية.

وإذا كان المؤلف قد أجاب في الفصل الأول من كتابه عن سؤاله الأساس: كيف تهود الفضاء العقدي المسيحي؟ فإن سؤاله الآخر الذي يطمح إلى الإجابة عنه ابتداء من الفصل الثاني إلى آخر فصل من كتابه الواقع في سبعة فصول، هو: كيف صارت المسيحية الأمريكية بعيدا في التهود حتى عانقت، قبل اليهود أنفسهم، فكرة الصهيونية، فصارت مسيحية يهودية العقيدة، صهيونية الفكر والممارسة؟

جوابا على هذا السؤال الهام توقفنا الدراسات والوثائق التي يستند مؤلفنا عليها باستمرار، ومنها دراسات لباحثين يهود معاصرين، على الدور الذي لعبه يهود الأندلس "يهود المارانو" في الرحلات الاستكشافية الأولى للقارة الأمريكية، إلى درجة أن قائد أول رحلاتها كريستوبال كولومبس، لم يتلق من المساعدات لإنجاز رحلته المعروفة مثلما تلقاه من المسيحيين ذوي الأصول اليهودية بعد أن أقنعهم بجدوى هذه المساعدات أسقف.. سلامانكا" دييجودي ديكا الذي ينتمي هو نفسه إلى يهود المارانو (ص: 79-80)  لذا واستنادا إلى تلك الدراسات والوثائق يؤكد مؤلفنا أن :كريستوبال كولومبوس قد اكتشف أمريكا، بدافع اعتقاد بأن رحلته هي جزء من سيناريو ألفى مسيحاني، سوف يقوده في النهاية إلى تحرير القدس من المسلمين (الكفار) وإعادة بناء المعبد،وذكر في مؤلفه "كتاب النبوءات" أنه قال للملكة إيزابيلا، أنه سوف يستخدم الذهب الذي يجده في العالم الجديد لإعادة بناء الهيكل لكي يكون مركز العالم و"حلمة" الكرة الأرضية. (ص: 62).

وفي هذا الاعتراف ما يفيد أن "أمريكا منذ اكتشافها كانت عينها على إسرائيل" (ص: 30) كما أن في ذلك ما يؤكد أن طرد المسلمين من الأندلس واستعمار أمريكا واستعمار فلسطين، إنما هو مشروع واحد تم التخطيط له في وقت واحد، وشرع في تحقيقه في وقت واحد كذلك، وإن لم تتحقق حلقته الأخيرة وهي فلسطين، إلا بعد حوالي أربعمائة وخمسين سنة من بداية تنفيذه !

ولنأخذ الآن في التماس الأدلة على كل ما سبق : فهناك أولا ذلك الحضور للمفاهيم والتصورات والعقائد اليهودية داخل تلك التجمعات الأوروبية الأولى النازحة إلى العالم الجديد. إن المهاجرين البروتستانت الأوائل، وقد كان العديد منهم ذوي نزعة بيوريتانية، بمجرد أن رست سفنهم بالساحل الشرقي الأمريكي أعلنوا أن مستعمراتهم الأولى هناك بمثابة "أورشليم الجديدة" وإسرائيل الجديدة، وشبهوها بكنعان القديمة، ووقع لديهم التماهي بين تاريخهم وتاريخ العبرانيين بما يكرس معنى "الصهيونية"، فقد شبهوا أنفسهم وهم المهاجرون الفارون، بيهود الشتات، وجعلوا من ظلم حكم الملك جيمس الأول في إنجلترا مناظرا لظلم فرعون مصر، بل جعلوا من إنجلترا بلدا مناظرا لمصر القديمة، كما اعتبروا أمريكا أرض الميعاد، كما هي فلسطين في التوراة. بل ساروا بعيدا في هذا التماهي فاعتبروا طرد وقتل اليهود للكنعانيين سكان فلسطين الأصليين، تبريرا شرعيا لقتل وطرد الأوربيين للهنود الحمر سكان أمريكا الحقيقيين وعلى حد قول المؤلف : "كان المستعمر البيوريتاني يقتل الهندي الأحمر على أنه كنعاني فلسطيني(ص : 77).

لقد ترك هذا الإسقاط وذلك التماهي المقصود من البروستانتيين المكتشفين ما بين تاريخهم وتاريخ اليهود أثرا بالغا على "الشخصية القاعدية" الأمريكية إلى يومنا هذا حتى كادت أن تكون شخصية توراتية بامتياز، بحيث أصبح معهودا في الثقافة الأمريكية المعاصرة عبر تجلياتها الأدبية والسياسية، أن يقارن بين استيطان المهاجرين الأوروبيين لأمريكا واستيطان اليهود لفلسطين الحديثة، فيشبه الدور الاقتصادي والسياسي الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة اليوم بدور المعمرين الأوربيين الأوائل في أمريكا، باعتبارهم رواد التقدم الاقتصادي والتحديث السياسي.

في ضوء هذا التشكل لتلك "الشخصية القاعدية" الأمريكية ذات التكوين التوراتي لم يعد مستغربا أن تنشأ بين هؤلاء المهاجرين الأوائل جملة تقاليد وعادات وتظهر عدة مواقف تعكس بوضوح ذلك التوجه الديني اليهودي؛ وذلك من قبيل اختيار العبرية لغة للصلاة وتحبيذ الأسماء اليهودية على غيرها، وإطلاق أسماء الجغرافيا النورانية على المواقع الأمريكية، ومبادرتهم بطبع أول كتاب في القارة الأمريكية، ولم يكن هذا الكتاب سوى "مزامير داود" وتأسيسهم لجامعة "هارفارد" سنة 1636م مع جعل العبرية لغتها الرسمية... وغير ذلك من المظاهر والإجراءات التي جعلت من هذه المسيحية البروتستانية القادمة إلى العالم الجديد مسيحية "متهودة" تتعصب لليهود وللفكر اليهودي التوراتي أكثر من اليهود أنفسهم، حتى أن هؤلاء البروتستانت اعتبروا أنفسهم أنهم "شعب الله المختار" الذي حباه الله بأرض ميعاد جديدة. وهو شعور مثل لدى أغلب هؤلاء المهاجرين"سندا لاهوتيا" زاد من لهيب الثورة التي قادت أولئك إلى الاستقلال وإلى تخليص هذه الأرض الموعودة من جبابرة بريطانيا، تماما كما فعل موسى مع فرعون وكما فعل العبرانيون مع الكنعانيين !

غير أن الاعتقاد بالتطابق أو التشابه بين التاريخ التوراتي والتاريخ الأمريكي سوف يدفع إلى الاعتقاد بضرورة تخليص الأرض من كل "المخالفين" دينا وجنسا وحضارة. وهذا ما شجع أولئك المهاجرين على الاستمرار طيلة القرن التاسع عشر في غزو الغرب الأمريكي (Ouest) لتمشيطه من كل أولئك المخالفين، بناء على اعتقاد سائد عرف بينهم "بالمصير المبين" الذي كان مفاده، بعد تحقيق الاستقلال عن ظلم إنجلترا، إنشاء "مدينة فوق التل" أو مجتمع نموذجي، وذلك لن يتم إلا بعد إبادة المقاومين الهنود الحمر واستعباد الزنوج الأفارقة كآلات حية للاقتصاد، وتوسيع النفوذ الجغرافي "للأرض الموعودة"، حتى تشمل أقصى نقطة ممكنة، ولو كانت في هايتي أو حتى في ألا سكا. وإذا كان المجال الجغرافي قد تم توسيعه بهذا الشكل إلى حدود القرن التاسع عشر، فإنه "مع استهلال القرن العشرين سيتحول مفهوم [المصير المبين] ***" إلى إمبريالية عالمية، أي استعمار شعوب أخرى بدعوى نقل الحضارة المسيحية الأمريكية إليها في الفلبين وكوبا وبنما وفييتنام" 'ص : 79)، وسوف تكون المطالبة باقتطاع فلسطين لإنشاء كيان يهودي يتماهى معه التاريخ الأمريكي الحديث حجر الزاوية في "نظرية المصير المبين" المذكورة، وستتعالى أصوات المسيحية اليهودية بضرورة التعجيل بتحرير فلسطين من الحكم العثماني، وستبادر إلى شراء أراضي فيها كما سبق وأن اشترت غيرها من الأراضي.

حقا ! لقد كرس إعلان الاستقلال الأمريكي مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة، كما أن الساحة الفكرية الأمريكية لم تكن بمعزل عما يجري من "تفاعلات داخل أوروبا، وقد تأثرت أمريكا بأمواج من المهاجرين الأوروبيين الجدد نقلوا معهم بعض أفكار أوروبا الأنوار حول فصل الكنيسة عن الدولة، إلا أن ذلك سوف يدفع بالمهاجرين القدامى خاصة إلى القيام برد فعل مضاد سوف تشهد معه أمريكا "صحوة دينية" ثانية توجت بانتشار ما سميناه آنفا بالعقيدة الألفية أو "المللية" بحيث تم تهييء الأمريكيين قاطبة منذ أواسط القرن التاسع عشر لقرب عودة ثانية وشيكة للمسيح لأجل القضاء على كل الشياطين والكفار. فظهرت عشرات الكنائس والتوجهات المسيحية المختلفة التي جعلت هدفها الأساس التبشير بعودة المسيح وإقناع الأمريكيين بنهاية العالم وبالدور الريادي لأمريكا "وإسرائيل" في ذلك. ثم تناسلت القراءات الكنسية للتوراة وكثرت التأويلات المستقبلية لنبوءاتها الرمزية. وأسقطت تلك النبوءات على التاريخ الذي أصبح مجرد مرآة تنعكس عليها "التدبيرات الإلهية" سيرا نحو نهاية التاريخ في "الألفية السعيدة".

وقد كانت كنيسة أتباع "شهود يهود" أهم تلك الكنائس التي كان رئيسها شارل تازرسل (1916) قد تنبأ في كتاب له صدر سنة 1886 بأن نهاية العالم ستكون عام 1914 "ففيه تنتهي أزمنة الأمم (نهاية التاريخ) ويرفع غضب الله عن اليهود، ويصبح لزاما عليهم أن يعودوا إلى فلسطين لإنشاء دولة يهودية، إذ سبيل إلى قيام مملكة الرب [أي عودة المسيح] دون عودة شعب يهوه إلى وطنه (ص: 91)، وتكاد هذه الكنيسة المسيحية تقطع مع أهم العقائد الكنسية المعروفة حول المسيح لتتبنى بدلها العقائد اليهودية النورانية، بل ولتنتظر مع اليهود "مسيح السيف" الذي ينتظره اليهود ليعيدهم إلى أرض الميعاد.

ولعل من الحقائق الكبرى الصادمة التي يبرزها كتابنا هذا أن توظيف الوضع اليهودي واستغلاله سياسيا واختزاله في ضرورة إنشاء كيان يهودي مستقل في فلسطين، لم تكن لليهود فيه يد المبادرة، بل كانت البادرة في ذلك نابعة أساسا من داخل اللاهوت المسيحي الكنسي. فبسبب عدم تحمس يهود أوروبا باءت بالفشل محاولة بعض يهود أمريكا بإقامة دولة لهم على نهر "نياجرا" بالشرق الأمريكي تكون مقرا مؤقتا لتجميع يهود العالم تمهيدا لنقلهم إلى فلسطين، في حين "كان تراث اللاهوت البروتستانتي البيوريتاني المتهود والعقيدة المللية، هو الثرات الذي تولدت عنه مسيحية صهيونية أمريكية منذ العقد الخامس في القرن التاسع عشر وقبل صهيونية هرتزل بعقود. وهو التراث الذي رفد الثقافة والسياسة في الولايات المتحدة باعتقاد الالتزام بإقامة إسرائيل (عودة اليهود) والانحياز لهم، كالتزام لاهوتي وثقافي ثم سياسي" (ص: 95). وهذا هو الذي حمل العديد من الأمريكيين منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى شد الرحلة للاستيطان نهائيا بأرض فلسطين وشرعوا، قبل أن يفعل ذلك الصهاينة في القرن العشرين، شرعوا في إنشاء مستعمرات أو "كيبوتز" وشجعوا الأثرياء منهم على شراء مزيد من الأراضي الفلسطينية.

5. وهنا لا يجد مؤلفنا بدا من الوقوف لأجل تقديم بعض النماذج الدالة على تغلغل هذا الفكر الصهيوني القائم على تسييس المسألة اليهودية بعد تأسيسها على ذلك البعد اللاهوتي. وهي نماذج تقوم مقام الاستشهاد والتدليل على صحة ما يتخلل الكتاب من أحكام ورصد لوقائع الفكر الديني المسيحي في أمريكا، فإذا كان القارئ العربي اليوم يذكر أن هرتزل قد صار زعيم الفكر الصهيوني خاصة بعد المؤتمر الصهيوني في بازل سنة 1897؛ فإن المؤلف ينبهنا إلى أن هرتزل لم يكن إلا تلميذا صغيرا لوليام بلاكستون (1935) الممول والرحالة والمبشر الإيفانجيلي الذي زرع الروح الصهيونية بين المسيحيين واليهود على السواء في عصرنا هذا. فبفعل تحركاته المتواصلة وكتاباته المنتشرة استطاع بلاكستون أن يجند كل الكنائس الأمريكية، بما فيها الكنائس الكاثوليكية، لصالح المشروع الصهيوني، كما جند لتحقيق مشروعه العديد من الأثرياء وأصحاب النفوذ الاقتصادي والسياسي، بعد أن أقنعهم بالأبعاد الاستراتيجية لشعاره حول فلسطين والذي تداوله الإعلام الغربي إلى الآن: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" ! وقد ساعد بلاكستون في إقناع الأمريكيين بمشروعه هذا تدفق يهودي روسيا الفقراء أواخر القرن التاسع عشر على الولايات المتحدة الأمريكية، مما خلق تخوفا لدى الأمريكيين عامة، فصار بلاكستون يؤكد للجميع ضرورة تحويل هجرات اليهود نحو فلسطين بما ينسجم وعقيدته المسيحية اليهودية وبما يستجيب أيضا لتطلعات الأمريكيين بضرورة التخلص من اليهود الوافدين على بلدهم "ليصل إلى أن إقامة إسرائيل في فلسطين هو تأمين لقوة وعظمة أمريكا التي سيباركها الرب إذا وقفت بجانب اليهود" (ص: 98).

لعل في كل هذا ما جعل مؤلف كتابنا ينبه إلى أن ازدواجية ذلك الدافع لتهجير اليهود إلى فلسطين - الدافع العقدي والدافع الاقتصادي - "سيجعل من المسيحية الصهيونية أكثر تشددا من صهيونية هرتزل" (ص: 98) إذ تثبت الوثائق التاريخية أن هرتلز في الواقع لم يعترض مطلقا على عرض بريطانيا لإقامة دولة يهودية في العريش على أرض مصر؛ ثم بدا لبريطانيا أن تتخلى عن العريش وتعرض على هرتزل بديلا عنها في قبرص ثم أوغندا، وقد قبل هرتزل ذلك ولم يبد اعتراضا ولا أصر أن تكون فلسطين الأرض الموعودة للمشروع الصهيوني، وعندئذ، وبالرغم من وجود معارضة يهودية محدودة تتخوف من هذا التسييس للمسألة اليهودية وتحويل اليهود إلى قومية سياسية، عندئذ بادر المسيحيون الصهيونيون وعلى رأسهم  ويليام بلاكستون بانتقاد ما اعتبروه "تساهلا" من طرف هرتزل، وأبدوا موقفا متشددا مصرين أن تكون فلسطين دون غيرها الأرض التي يجب أن يقام عليها الكيان اليهودي الموعود. وأصر بلاكيستون أن يرسل إلى هرتزل نسخة من التوراة معلما على صفحاتها التي يشار فيها إلى فلسطين أرض كنعان كأرض لا بديل عنها لشعب الله المختار" (ص: 99).

هكذا يضعنا هذا الكتاب لحد الآن في الأجواء التمهيدية التي ستقود مباشرة إلى ميلاد ما عرف "بوعد بلفور". وتؤكد وثائق رسمية يعتمدها المؤلف هنا أن الدبلوماسية الأمريكية كانت تتردد في تأييدها لهذا الوعد، واضعة في الاعتبار ضرورة تجنب المواجهة العسكرية مع الدولة العثمانية، علاوة على رفض فآت عريضة من اليهود المشروع اليهودي برمته، ومع ذلك فإن الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون تجاهل عن قصد تقارير وزارة خارجيته الداعية لالتزام الحذر حرصا على مصلحة أمريكا في المنطقة، ونظرا لكونه سليل الكنيسة المشيخية ذات التوجه الصهيوني المسيحاني، فقد أصر الرئيس ويلسون أن يعارض تلك التقارير وقرر التصديق على وعد بلفور واعترف قائلا بأنه "كربيب بيت قس ينبغي أن يكون قادرا على المساعدة على إعادة الأرض المقدسة لأهلها" (ص ك 101) ولم يكن بالمستبعد أن يبادر الرئيس الأمريكي لاتخاذ مثل هذا الموقف، فقد كان الرأي العام الأمريكي مهيئا لتقبل الأفكار المسيحية الصهيونية إلى درجة أن "المشاعر المعادية للصهيونية التي أمكن استشفافها في الصحافة كانت فقط تلك المنبثقة عن تصريحات صادرة عن شخصيات يهودية معادية للصهيونية" (ص : 102).

وبهذا الصدد يلاحظ أن موقف الكونجريس الأمريكي هو الآخر من وعد بلفور لم يكن موقفا سياسيا محضا ولا علمانيا يؤكد على مفاهيم تقرير المصير وحقوق الإنسان والديمقراطية مثلا، بل طغت على تبريرات أعضائه، عند التصويت والتصديق، اعتبارات دينية محضة نابعة مباشرة من المسيحية اليهودية الصهيونية، كما ورد ذلك على لسان ممثل ولاية إينديانا بالكونجريس حيث خطب مبررا التصديق لصالح وعد بلفور : "كما خلص موسى إسرئيل من العبودية، فإن الحلفاء الآن يخلصون يهودا من أيدي الأتراك القبيحين، وهي الخاتمة الملائمة لهذه الحرب العالمية... إنني أحس أنني أعبر عن أفكار الشعب الأمريكي... [الداعية إلى ] أن حكومة الولايات المتحدة يجب أن تمارس سلطتها الملائمة لرؤية هذه الدولة اليهودية تقام لتنبثق منها تعاليم ومبادئ يهودا القديمة (ص: 102)  وقد ورد أيضا في اعتراف رئيس العلاقات الخارجية بمجلس النواب سنة 1922  قوله: "إنني لم أحتمل أبدا فكرة وقوع القدس وفلسطين تحت سيطرة المحمديين... إن بقاء القدس وفلسطين المقدسة بالنسبة لليهود... والأرض المقدسة بالنسبة لكل الأمم المسيحية الكبرى في الغرب في أيدي الأتراك، كان يبدو لي لسنوات طويلة وكأنه لطخة في جبين الحضارة من الواجب إزالتها" (ص: 102).

وفي هذا وأمثاله من المواقف ما جعل المؤلف يستنتج أن الإدارة الأمريكية إذا كانت قد انحازت بالمرة إلى الحركة الصهيونية المتصاعدة خاصة بعد سماح تلك الإدارة بفتح كل الأبواب وبلا شروط أمام الهجرة اليهودية لفلسطين، وإذا كانت قد قبلت قرار التقسيم الصادر سنة 1947 وأرغمت دولا أخرى على التصويت لصالحه، ثم أسرعت للاعتراف بالكيان اليهودي الصهيوني سنة 1948 في عهد الرئيس ترومان، فذلك ليس راجعا لضغوط اللوبي اليهودي كما يردد دائما، بل "إن قرار ترومان باعتراف أمريكا بالدولة اليهودية كان متمشيا مع خلفيته المسيحية المتهودة في لحظة أوج المسيحية الصهيونية في أمريكا" (ص: 104). ويسجل أحد الدارسين اليهود المعاصرين أنه عندما احتفل بالرئيس ترومان في أحد المعابد اليهودية باعتباره الرجل الذي ساعد على خلق دولة "إسرائيل" رد ترومان قائلا : "إنني قورش... إنني قورش، ومن ذا الذي ينسى أن قورش هو الذي أعاد اليهود من منفاهم في بابل إلى القدس؟ !" (ص : 105) فترومان إذن يعتبر نفسه "قورش" القرن العشرين ويفكر بهذه الخلفية التوراتية !

6. هذا وسوف تساهم الحرب الباردة بين الشرق والغرب الذي تزعمته أمريكا، كما ستساهم مختلف المشاكل الاقتصادية الداخلية علاوة على تطور القضية الفلسطينية، سيساهم كل ذلك في ميلاد حركات وتنظيمات مسيحية عرفت بمعانقتها لأفكار متشددة وبتمهيدها التدريجي لصعود ما يسمى "باليمين المسيحي". وقد تمثلت تلك الحركات خاصة في منظمة "المجلس الأمريكي للكنائس المسيحية" ثم في "الاتحاد الوطني للإيفانجيليين". لقد استغلت هذه المنظمات ظروف الحرب الباردة ومعاداة الشيوعية لتثبيت نفوذها في سائر الأوساط الفكرية والسياسية والاقتصادية الأمريكية، ولتحصل على ترخيص للبث الإذاعي والتلفزي الذي سرعان ما توسع عالميا بشكل مذهل وأصبح المصدر الأساسي للإرساليات التنصيرية ولترسيخ العقيدة الألفية والتبشير بقرب عودة المسيح، لقد كانت معاداة الشيوعية خاصة المبرر الذي اعتمده هذا اليمين المسيحي" البروتستانتي للنزول إلى قلب المعمعة السياسية وممارسة سلطة التأثير والتوجيه. ولعل هذا ما ما أغرى أشهر ممثليه المبشر بيلي جراهام، مؤسس مجلة « Christianity Today »  أن يحذر من مغبة ترشيح الرئيس الديمقراطي الكاثوليكي الأسبق جون كيندي، مقترحا ترشيح اسم آخر بروتستاني وينتمي إلى الحزب الجمهوري، وسبق له أن مارس التنصير في الصين... ولحد اليوم لازال اغتيال الرئيس كيندي لغزا متشابك الخيوط... !

ثم جاءت هزيمة حرب سنة 1967 التي كانت مبررا "تاريخيا" ودينيا لإعطاء دفعة أخرى للمسيحية الصهيونية وإغرائها بالمزيد من التأويلات لقراءتها "للكتاب المقدس" بما يجعل من تلك التأويلات نبوءات تشهد عليها أحداث "آخر الزمان" وقد كتبت مجلة « Christianity Today »  معلقة على الحدث "لأول مرة، منذ أكثر ن ألفي عام، فإن القدس الآن كاملة بأيدي اليهود، مما يعطي لدارس التوراة إيمانا عميقا ومتجددا في صحتها وصلاحيتها" (ص: 115).

وهكذا اعتبر احتلال القدس الخطوة ما قبل الأخيرة لنهاية التاريخ، هذه النهاية التي هي وشيكة الوقوع، ولم يبق لتحقيقها سوى إعادة بناء هيكل المعبد فوق قبة الصخرة. وبفعل تلك الأحداث العسكرية التي كانت تسير لصالح الكيان اليهودي، وبسبب نمو الحركة الصهيونية في العالم شهدت المسيحية الصهيونية بأمريكا سبعينيات القرن العشرين انتعاشا قويا، حيث أكسبها الوضع الجديد مزيدا من النفوذ وتضاعف نشاطها الذي امتد إلى توسيع مخططات التنصير في العالم، وفي هذه الفترة بالذات عقد بولاية عقد بولاية كولورادو مؤتمر كنسي ضخم ضم كل كنائس العالم، بما فيها كنائس العالم العربي ومن مختلف المذاهب، خصص لوضع الاستراتيجية الكفيلة بتنصير العالم الإسلامي قاطبة[3]... ! وفي هذه الفترة أيضا أقبلت نسبة كبيرة من الأمريكيين على "التعميد" من جديد، معتبرين أنفسهم "مسيحيين ولدوا ثانية" معلنين إخلاصهم للمسيحية الصهيونية ويقولون تبعا لذلك بعودة المسيح ويعتقدون بحرفية النصوص ويلتزمون بنشر ذلك المعتقد عالميا، كما هو الحال مع الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر الذي أعلن نفسه "مسيحيا ولد ثانيا" والذي أصر بعد معاهدة "كامب ديفيد" أن يلقي خطابا في الكنيست الإسرائيلي ليعترف أمامه قائلا : "لقد آمن وأظهر سبعة من رؤساء الجمهورية أن علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من علاقة خاصة، فهي علاقة متأصلة، في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه(...) إننا نتقاسم معكم تراث التوراة" (ص: 19).

7. لا شك في أن هذا الاكتساح الديني للمسيحية الصهيونية بأمريكا يرجع إلى عدة عوامل سبق الإشارة إلى بعضها، إلا أنه لا يجب بهذا الصدد الاستهانة بالدور المركزي الذي لعبه الإعلام المسيحي السمعي البصري في نمو هذه الظاهرة وانتشارها على المستوى الشعبي والرسمي معا "فلقد اعتمدت الحركة المسيحية الصهيونية والأصولية في فترة السبعينيات على الشبكات الدينية التلفزيونية التي سميت "الكنائس المرئية" في الدعوة لأفكارها والوصول بفاعلية إلى أكبر عدد ممكن من الناس من خلال برامج جماهيرية استعراضية" (ص 118) أثبتت الاستطلاعات أن عدد مشاهديها يوميا يقدر بحوالي سبعين مليونا من الأمريكيين ولساعات طويلة، إضافة إلى ألف وأربعمائة محطة إذاعية تنصب برامجها على كل ما يهم الأمريكيين من مشاكل سياسية واقتصادية وأخلاقية وثقافية ورياضية وترفيهية كذلك "وانتهاء بدعم وتأييد إسرائيل وسياستها، لأن في ذلك مرضاة للرب" (ص: 119) ومن بين تلك الشبكات التلفزية من يغطي ستين دولة أجنبية كما هو الحال بالنسبة لشبكات CBN التي تعتز بأن عدد مشاهدي برامجها يفوق عدد قراء كبرى المجلات والجرائد الأمريكية مجتمعة "كواشنطون بوست" ونيويورك تايمز" وغيرهما. وإذا كانت هذه الظاهرة الإعلامية هي التي نبهت كاتبنا رضا هلال إلى خطورة هذه المسيحية الصهيونية، فإنه يقف هنا ليسجل أنه "مع بداية الثمانينات جعلت الشبكات الدينية التلفزيونية والإذاعية "الكنائس المرئية" من "إسرائيل" قضية القضايا في برنامجها، وفي حملاتها لجمع التبرعات لدعم إسرائيل" وقامت زعامات تلك الكنائس التلفزيونية بعدة زيارات إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة لإنجاز برامج تستهدف منها "تأكيد الاعتقاد البروتستاني بدور إسرائيل في مخطط الرب لنهاية العالم بمعركة هرمجدون المجيء الثاني للمسيح" (ص: 120) وكما ضغطت المسيحية الصهيونية في القرن التاسع عشر على اليهود لجعل فلسطين، دون غيرها، الأرض الموعودة تصر هذه الشبكات الإعلامية المسيحية المعاصرة بأمريكا على لسان أحد أقطابها أن على إسرائيل بعد قيامها وتوالي انتصاراتها ألا ترضى إلا بمد حدودها من الفرات إلى النيل محتجا على ذلك بقوله "إن سفر التكوين من التوراة يذكر أن حدود إسرائيل ستمتد من الفرات إلى النيل، وستكون الأرض الموعودة هي العراق وسوريا وتركيا والسعودية ومصر والسودان ولبنان والأردن والكويت !! (ص :121) ولهذا اعتبر أحد القساوسة والذي يبث برنامجه الموسوم ب"إسرائيل" مفتاح أمريكا للبقاء" على خمسين محطة تلفزيونية، اعتبر أن تخلي إسرائيل عن الضفة الغربية سيجر الدمار على إسرائيل وأمريكا معا، وكان هذا القس قد أقدم على إنتاج أضخم فلم تلفزيوني يتوقع نهاية للعالم بحلول سنة 2000 ويكرس العقيدة الألفية المعروفة ويبشر بنهاية التاريخ وقرب المعركة الفاصلة بين قوى الخير وقوى الشر، وقد أطلق على فلمه هذا اسم:Jer USA lem D.C قاصدا التماهي ما بين اسم القدس ورمز اسم أمريكا مع التذكير بأنه لا بديل عن عاصمة داود !

8. لقد كان هذا المشهد الإعلامي مجرد انعكاس لواقع أمريكي يعرف اكتساحا متزايدا للمسيحية الصهيونية التي تطورت إلى ما سمي "باليمين المسيحي" هذا الأخير الذي سرعان ما وضع يده في يد اليمين السياسي داخل الحزب الجمهوري مما مهد الطريق منذ سنة 1980 لتلك المسيحية الصهيونية، بعقائدها المعروفة، أن تحتل مواقع مؤثرة داخل ذلك الحزب وفي السياسة الأمريكية قاطبة.

وهنا يذكرنا المؤلف أن علاقة اليمين المسيحي باليمين السياسي في أمريكا لم تكن وليدة الثمانينات، اعتبارا للصلاة الحميمية التي كانت قائمة قبل ذلك بين اليمين المسيحي وبين كل من الرئيس إيزنهاور والرئيس نيكسون.

إلا أنه منذ سنة 1980، سنة ترشيح الرئيس ريجان، بادر هذا الأخير رسميا في حملته الانتخابية لإعلان تأييده للرنامج الأخلاقي لليمين المسيحي المعروف بعقيدته الألفية وبمواقفه الصهيونية المتطرفة. وتمكن ذلك اليمين المسيحي من حشد أغلب الأصوات لصالح ريجان، ففاز بالرئاسة؛ ولذلك قرب إليه شخصيات نافذة في ذلك اليمين وعمل على إلغاء تشريعات اعتبرت من وجهة نظر اليمين المسيحي "علمانية" الطابع، لا تتوافق مع توجههم الديني والأخلاقي.

غير أن طموح اليمين المسيحي لم يقتصر على القضايا الداخلية، بل انخرط في عمليات خارجية اتسمت باستغلال مختلف الظروف للتدخل في الشؤون الداخلية لبعض الدول من قبيل تنظيم مظاهرات وحملات إعلامية لتأييد النظام العسكري في السالفادور بأمريكا اللاتينية، أو تكثيف الحملات التنصيرية التي قادها الإفانجليون إثر انتخاب كورازون أكينو في الفلبين، أو قيام هؤلاء الافانجيليين بدعاية ضد المؤتمر الوطني الإفريقي تأييدا منهم للنظام العنصري بجنوب أفريقيا. غير أن أهم مجال اتجه إليه اهتمام المسيحية الصهيونية الإفانجيلية كان هو حشد التأييد للكيان الصهيوني بفلسطين، وضمانا لانتصار هذا الكيان عارض هؤلاء الإفانجيليون بشدة كل تجميد نووي بأمريكا ووزع رئيس "الأغلبية الأخلاقية" التي يدين لها الرئيس ريجان بنجاحه في الانتخابات نشرة تحت عنوان :"الحرب النووية وعودة المسيح" تربط الحرب النووية مع الاتحاد السوفيتي بالمجيء الثاني للمسيح. وكانت "هرمجدون النووية من أجل إسرائيل" الرباط المقدس بين اليمين المسيحي الصهيوني والرئيس ريجان" (ص: 134).

وهنا يضطر كاتبنا رضا هلال ليقف عند شخصية الرئيس الأمريكي رونالد ريجان منبها بالوثائق الدامغة إلى الخلفيات الدينية التي كان لها تأثير كبير على الهموم الفكرية والمواقف السياسية والعسكرية لهذا الرئيس. فعلاوة على وسطه الأسري الذي رسخ لديه القيم التوراتية والمسيحية سابقة الذكر، وجد ريجان في بعض أصدقائه وعلى رأسهم القس الأفانجيلي الشهير بيلي جراهام مناسبة ليتقاسم معه الحديث حول نبوءات "الكتاب المقدس: المكرسة لعودة المسيح ونهاية العالم. وفي مقال صدر له سنة 1985 كشف رئيس مجلس الشيوخ الأمريكي أن الرئيس ريجان نبهه إلى ضرورة قراءة ما ورد في "الكتاب المقدس" بخصوص الحرب الأخيرة الفاصلة التي ستقود إلى نهاية العالم وعودة المسيح. ومن المفيد أن نقف عند شهادة ريجان كما سجلها رئيس مجلس الشيوخ المذكور. يقول ريجان في فترة تربعه على قمة السلطة في البيت الأبيض مفسرا نبوءة حزقيال :

"...لقد تحقق ذلك أخيرا بعد ألفي سنة: ولأول مرة يبدو كل شيء في مكانه بانتظار [معركة] هرمجدون والمجيء الثاني للمسيح... إن حزقيال يقول إن النار والحجارة المستعملة سوف تمطر على أعداء شعب الرب، إن ذلك يجب أن يعني أنهم سوف يدمرون بواسطة السلاح النووي...ويخبرنا حزقيال أن جوج وماجوج الأمة التي ستقود قوى الظلام الأخرى ضد إسرائيل، سوف تأتي من الشمال. إن جوج يجب أن تكون روسية. ليس من الأمم القديمة شمالي إسرائيل غير روسيا...(التي) تنطبق عليها تماما مواصفات جوج" !(ص : 135) "ومن ثم فإن توجه ريجان للانفاق العسكري وتردده إزاء مقترحات نزع السلاح النووي يتفقان مع رؤيته المستمدة من الكتاب المقدس.إذ أن [حرب] هرمجدون والتي تنبأ بها حزقيال لا يمكن أن تحدث في عالم منزوع السلام" (ص: 136).

هذا وبالرغم من فشل اليمين المسيحي، بعد فترة حكم ريجان في ترشيح ممثله الواعظ التلفزيوني بات روبرتسون رئيس شبكة CBN للانتخابات الرئاسية باسم الحزب الجمهوري إلا أن روبرتسون عبر منظمته "الائتلاف المسيحي" استمر في مساندة الحزب الجمهوري وكانت منظمته السند الأساس الذي سيقود جورج بوش الأب إلى منصة الحكم سنة 1988، وكانت هزيمته متوقعة في ولايته الثانية سنة 1992 لولا أصوات اليمين المسيحي، مما جعل من هذا اليمين بحق قوة ضغط نافذة في السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية. وحينما انقلبت الكفة لصالح الديمقراطيين، فإن "الائتلاف المسيحي لم يدخر وسعا لاستغلال  المشاكل الأخلاقية ذات الحساسية البالغة في المجتمع الأمريكي للإطاحة بالرئيس الديمقراطي بيل كلينتون. وتفضح زوجة هذا الأخير خيوط المؤامرة ضد زوجها في فضيحة ما عرف ب"مونيكا لوينسكي" حين إشارتها إلى لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق الليكودي بنيامين نيتنياهو ومآت المسيحيين الأصوليين الأفانجيليين... وهو اللقاء الذي انفجرت بعده قضية لوينسكي" (ص: 163).

لقد بلغت بالفعل المسيحية الصهيونية أوج تنظيمها في عهد الرئيس ريجان وبوش الأب طيلة ثمانينيات القرن العشرين، ثم توالت نشأة المنظمات المسيحية المتطرفة، مما جعل منها "لوبيا" مسيحيا صهيونيا أكثر تطرفا من اللوبي اليهودي نفسه. ونقف في كتابنا هذا على جرد لأهم المنظمات التي يضمها اللوبي المسيحي الصهيوني والذي سوف يصبح "أكثر نفوذا وتأثيرا في تسعينيات القرن العشرين بتغلغل داخل الحزب الجمهوري الذي سيطر على مجلس الكونجريس سنة 1994" (ص: 137) فعلاوة على تلك المنظمات المسيحية الصهيونية التي أنشئت منذ أوائل القرن العشرين، نجد في عهد ريجان منظمة "الأغلبية الأخلاقية" و"السفارة الرسمية المسيحية الدولية" التي يعلن رئيسها على الملأ :"أننا صهاينة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، وأن القدس هي المدينة الوحيدة التي تحظى باهتمام الرب، وأن الرب قد أعطى هذه الأرض لإسرائيل إلى الأبد" (ص: 142). وفي سنة 1990 كثفت هذه المنظمات من ضغوطها على الكونجريس فأصدر هذا الأخير بيانه إلى الإدارة الأمريكية بوجوب الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني. لذا يستخلص مؤلفنا استنادا إلى دراسات ميدانية أن "من الصعب حصر كل المنظمات المسيحية الصهيونية والأصولية في الولايات المتحدة الأمريكية... وتوجد مائتان وخمسون منظمة مسيحية أمريكية ممالئة لإسرائيل تمارس أنشطة مختلفة بدءا من اجتماعات كنسية للتضامن مع إسرائيل إلى الدعم اللاهوتي وطبع المنشورات وعقد المؤتمرات وتنظيم الأفواج السياحية إلى إسرائيل، إلى الدعم السياسي المباشر بأساليب 'اللوبي' " (ص: 146).

وقد وصل الأمر بالمسيحية اليهودية الصهيونية عبر مختلف وسائل إعلامها أن زرعت داخل المجتمع الأمريكي "بأن دعم أمريكا لإسرائيل، ليس فقط التزاما سياسيا وإنما رسالة إلهية بسببها يبارك الرب أمريكا وأصبح ملايين البروتستانت الأمريكيون يدعمون إسرائيل عن إيمان كامل بأن دعم أمريكا لإسرائيل هو السبيل الأساس لبقاء أمريكا السياسي والروحي" (ص 147). ولعل هذا ما يفسر لماذا لم يعد أحد خاصة من بين المسؤولين الأمريكان، يجرأ على الإشارة إلى الثقافة الأمريكية دون أن يضم وصف اليهودية إليها؛ وقد عانى الأمرين سنة 1992 حاكم ولاية ميسيسيبي المنتمي للحزب الجمهوري، حين اكتفى بوصف أمريكا قائلا "إن أمريكا أمة مسيحية" فانهالت عليه الانتقادات من كل جانب لكونه لم يصفها بكونها يهودية مسيحية، ولم ينفعه سوى الاعتذار عذ ذلك "السهو" الذي أصبح جريمة لا تغتفر (ص: 169).

9. هكذا تكون تسعينات القرن العشرين قد شهدت توالدا متناميا للمنظمات المسيحية الدين، الصهيونية التفكير والممارسة، تمكنت من الوصول إلى قلب الحزب الجمهوري والسيطرة على مجلس الكونجريس حتى صار يطلق على ذلك التحالف الديني والسياسي داخل الحزب الجمهوري "حزب الله" !كما نعتته بذلك مجلة Christian Century وفي دراسة لهذا التحالف بين الحزب الجمهوري الحاكم وجناحه اليميني المسيحي الصهيوني، تؤكد باحثة أمريكية "أن اليمين المسيحي كان مستعدا بل وراغبا بكل قوة في إشعال حرب نووية من أجل إسرائيل تحقيقا للنبوءات التوراتية" (ص: 167) وبالنظر إلى هذا الاندفاع فقد لعب ذلك اليمين المسيحي الصهيوني ولازال إلى الآن يلعب دور "المبرر" لكل ما تتورط فيه أمريكا من أحداث عسكرية، خاصة في العالم الإسلامي، بما يتلاءم ومرجعيته التوراتية الصهيونية، فصدام  حسين بعد غزو الكويت سنة 1990 لم يكن في ذلك التبرير سوى "المسيح الدجال الذي سيدعمه الروس في الحرب على إسرائيل، بما يمهد لمعركة هرمجدون بين قوى الشر (المسيح الدجال والعرب والروس) وقوى الخير (أمريكا وإسرائيل) لينتهي العالم ويعود المسيح" (ص: 168). ويعزو مؤلفنا هزيمة بوش الأب في انتخابات سنة 1992، رغم ما حققه من انتصار في حرب الخليج وسقوط الاتحاد السوفيتي، يعزو ذلك إلى إحجام اليمين المسيحي بقاعدته العريضة عن التصويت لصالح بوش مؤاخذا عليه دعوته لنظام عالمي موحد"، وهو النظام كان الذي يرى فيه ذلك اليمين خطرا على إسرائيل بجعلها على قدم المساواة مع باقي قوى الشر والكفر: التي تضمها الأمم المتحدة. كما أن بوش الأب دعا إلى "مؤتمر مدريد" لأجل السلام في الشرق الأوسط بل وهدد إسرائيل بتجميد القروض لها قصد إجبارها على التخلي عن الأرض التي وعد الرب بها إبراهيم... ويكفينا للوقوف على مدى "السلطة" التي صارت لتلك الأيديولوجية الدينية المسيحية ذات التوجه الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأمريكية، أن نستمع إلى رئيس منظمة "الائتلاف المسيحي" والمالك لأكبر شبكة تلفزيونية مسيحية CBN، وهو بات جوردون روبنسون، حين يقول مفتخرا عن منظمته : "إنها تحرك المسيحيين صفا واحدا وجماعة واحدة في الوقت المطلوب، إننا الرأس وليس المؤخرة... إننا في القمة ولسنا في القاع لنظامنا السياسي. الائتلاف المسيحي سيكون أكبر قوة مؤثرة في أمريكا بنهاية عقد التسعينات. لدينا من الأصوات ما يكفي لحكم هذا البلد... وعندما يضجر الناس سنحكم البلد" ! (ص:197) ويكفينا نحن أن نعلم أن هذا التنظيم  يقوم بتوزيع استمارات على أكثر من سبعين ألف كنيسة للتعرف على توجهات الناخبين، وسبق له في الانتخابات الرئاسية لسنة 1996 أن وزع خمسة وأربعين مليون نسخة من دليل الناخب. ولا يخرج مشروعه السياسي الخارجي عن التحرك في كل المجالات من أجل تحقيق الهدف الأكبر الذي فاه به رئيس هذا التنظيم حين قوله : "إن إعادة مولد إسرائيل هي الإشارة الوحيدة إلى أن العد التنازلي لنهاية الكون قد بدأ، وأن بقية نبوءات الكتاب المقدس تتحقق بسرعة مع مولد إسرائيل" (ص: 197).

هذا ولقد كان متوقعا أن تسري مثل هذه المفاهيم والحمولات اليهودية الصهيونية التي لاحظناها في جل التكتلات الدينية البروتستانتية والإفانجيلية إلى الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية أيضا، رغم التعارض الكبير بين الكنيستين.

 فإذا كان الكاثوليك الأمريكيون قد درجوا قديما على التحالف مع الحزب الديمقراطي، إلا أن "علمانية" هذا الأخير ومواقفه المتساهلة تجاه المشاكل الأخلاقية، كالإجهاض مثلا قد حملت الكنائس الكاثوليكية أن تحث أتباعها على تحويل ولائهم للحزب الجمهوري، الذي يتقاسمون معه نفس القناعات الأخلاقية، وقد ظهر أثر هذا التحول في الولاء في فوز كل من ريجان وبوش بمقعد رئاسة البيت الأبيض.

وبذلك شكل الكاثوليك قطبا جديدا داخل اليمين المسيحي الذي سبق لنا الوقوف على أطيافه البروتستانتية. غير أن مما زاد في هذا التقارب وشجع عليه تطور موقف الفاتيكان من القضية الفلسطينية خاصة. فبعد أن كان الفاتيكان معروفا بموافقة القديمة من اليهود واليهودية، تاريخا وعقيدة، وبعد أن رفض وعد بلفور بتقسيم فلسطين معربا عن تخوفه من هيمنة اليهود على مدينة القدس،مدينة المسيح، ودعا بالمقابل إلى "تدويل" هذه المدينة طمعا في إيجاد قدم له بها، بعد كل تلك المواقف شرع الفاتيكان منذ سنة 1960 في تغيير جل مواقفه الرسمية المعروفة من اليهود، ابتداء من تبرئتهم من دم المسيح إلى تأكيد "الهوية اليهودية" للمسيح نفسه، وانتهاء باعتراف الفاتيكان بالكيان الصهيوني فوق فلسطين سنة 1993. بل صارت تعقد مؤتمرات باشتراك الفاتيكان لأجل تعديل نصوص بعض الأناجيل لأجل "إنصاف" اليهود، كما حدث سنة 1997، مما يعني في آخر المطاف أن "لإسرائيل وللحركة الصهيونية مباركة الكاثوليكية لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ودعم الدولة اليهوديو" (ص: 180). لقد كان في مواقف الفاتيكان هذه ما شجع على اختراق مسيحي صهيوني إلى قلب المنظمات المسيحية الكاتوليكية بأمريكا، بحيث لم يعد هناك اليوم فارق بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية فيما يخص الولاء للعقيدة الألفية والصهيونية السياسية.

10. لعل هذا التتبع الدقيق من طرف مؤلفنا للتشكل الديني الأمريكي الحديث والمعاصر قد دفعه إلى تخصيص الفصل السادس من كتابه للوقوف على بعض التجليات العنيفة لذلك المشهد الديني داخل الولايات المتحدة الأمريكية، قبل أن يخصص الفصل السابع والأخير لتحليل بعض التجليات العنيفة الأخرى على المستوى الخارجي والدولي. والتنبيه واجب قبل ذلك إلى أنه إذا كانت السمة العامة التي نعتت بها كل تلك التنظيمات الدينية الأمريكية عبر وسائل الإعلام هي صفة "الأصولية" فإن هذا المصطلح الذي راج استعماله في هذا المجال منذ عشرينيات القرن الماضي سواء في الأدبيات المسيحية أو في الأوساط الصحافية، إنما يعني رفض كل تأويل للأصول ولنصوص الكتاب المقدس وضرورة الاكتفاء بالمعنى المباشر الظاهر منها، مع نفي كل تناقض عنها، دون أية محاولة للتأويل أو التوفيق بين تعاليم الدين ومتطلبات الحداثة والتغيير والتجديد، ومن ثم فلا مجال للتعدد في الفهم أو التسامح بين الأديان، فتلك هرطقة لا يقبلها الكتاب المقدس (ص: 193).. وعليه فالأصولية المنعوتة بها كل أطياف المسيحية اليهودية بأمريكا، وهي أغلب القاعدة الدينية بها، تعتمد على الإدراك الجزئي، لا الفهم الكلي، وتقول بحرفية النصوص، بلا تأويل ولا تفسير، وترفض كل مظاهر التحديث، ثم هي تجعل من العقيدة الألفية ونهاية التاريخ وعودة المسيح آخر الزمان قطب تحركها وأساس نشاطها...

وعليه، وبعد هذا التوضيح لمعنى "الأصولية" الدينية بأمريكا، إذا كانت تلك الحركات والتجمعات الدينية قد وجدت في السياسة الأمريكية الخارجية، خاصة منها تلك السياسية المساندة للكيان الصهيوني، ما يلبي طموحها العقدي "المللي" أو الألفي، ويزودها ببعض الصبر لارتقاب "نهاية التاريخ" الذي سيتم بعد عنف شديد في معركة "هرمجدون" الكبرى... فإن تلك الحركات والتنظيمات الكنسية قد رأت على المستوى الداخلي والتشريعات العلمانية والاختيارات الأخلاقية الليبرالية، في بعض جوانب الحياة اليومية الأمريكية، ما يتعارض وظاهر الكتاب المقدس، وهو الأمر الذي جند تلك الحركات والتنظيمات للقيام بردود فعل بلغت أحيانا حدها الأقصى من العنف، وهي مناسبة تجعلنا نقف على نماذج من ذلك "الإرهاب" الممارس من قبل العديد من الفصائل الدينية المسيحية. ويختار المؤلف أن يقرب قراءه إلى نوعين من ذلك الإرهاب والعنف الديني الذي يمارس علنا وفي واضحة النهار، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي كذلك.

أ. فعلى المستوى الأول يذكرنا المؤلف بالحادث الشهير الذي شهدته أمريكا سنة 1995 والمتمثل في تفجير المبنى الفدرالي في أوكلاهوما : ويرجع أصل الحادث في الواقع إلى أحد الأور الأورثودوكس المهاجرين إلى أمريكا والذي بعد تحوله سنة 1918 إلى إحدى الطوائف البروتستانتية، تمكن خلال ثلاثينيات القرن العشرين من إنشاء جماعة ما عرف ب"فرع الديفيديين" التي سرعان ما ظهر توجهها الصهيوني وعقيدتها المللية وإيمانها بنهاية العالم، خصوصا بعد وفاة مؤسسها الأول.

وفي السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وبعد صراع دموي أحيانا على قيادة الجماعة، تمكن الراهب فيرمون واين هاول من جمع "الديفيديين: حوله ووثق علاقته بالكيان الصهيوني بفلسطين، وأعلن للجميع أنه أصبح يرى في نفسه الملك الفارسي "قورش" الذي حرر اليهود من الأسر البابلي وأنه سيكمل هذا التحرير لباقي يهود العالم ويعود بهم إلى أرض الميعاد، ولأجل هذه المهمة غير اسمه إلى "ديفيد قورش" جامعا هكذا بين اسم الملك اليهودي والملك الفارسي بعد أن أنشأ في تكساس شبه مدينة كمعقل له أطلق عليه اسم "فلسطين" وشغل هو وأتباعه في ذلك المجمع بمدارسة الكتاب المقدس وبعزف موسيقى "الروك" استعدادا لعودة المسيح آخر الزمان. و"لقد أخبر قورش أتباعه بأنهم يعيشون نهاية التاريخ، وأنهم سرعان ما سينتقلون إلى إسرائيل ليبدؤوا تحويل اليهود إلى المسيحية، وليقودوا حرب النهاية ..." (ص: 201).

لذا كان انتظار "الديفديين" لنهاية التاريخ حافزا لهم على تكديس مختلف الأسلحة في مجتمعهم استعدادا لخوض المعركة الفاصلة، مما دفع بالمباحث الفيدرالية الأمريكية لتهاجم المجمع. وإثر سقوط ضحايا في الجانبين اضطرت الشرطة لضرب حصار على المبنى استمر أكثر من خمسين يوما. وتعجيلا "للخلاص" عمد ديفيد قورش في 9 أبريل 1993 إلى إضرام النار في مجمعه موديا هكذا بحياته وحياة ثلاثة وسبعين من أتباعه بمن فيهم واحد وعشرون طفلا، اعتقادا منه ومن أتباعه أنهم بهذا العمل العنيف ينفذون "خطة إلهية لنهاية التاريخ ومجيء المسيح اليهودي". وقد سبقت الإشارة إلى أن والدة قورش أصرت قبل دفنه أن "تلف تابوته بالعلم الإسرائيلي" الذي حصلت عليه من حاخام يهودي" !! (ص202) هذا الحادث ذي المعنى الديني وذي البعد الاجتماعي والسياسي هو الذي سيدفع في ذكراه الثانية أحد النشطاء في المليشيات المسيحية "تيموفي ماكفي" إلى تفجير المبنى الفدرالي في أوكلاهوما سنة 1995 انتقاما لمقتل ديفيد قورش. وتلك صورة من صور الإرهاب الأمريكي الداخلي الذي يتغذى من ترات متجذر ليس في الثقافة الدينية الأمريكية فحسب، بل لقد لمسنا شمول هذه الثقافة لأوساط فكرية وسياسية ذات نفوذ في المجتمع الأمريكي الحديث والمعاصر.

وتدل الوقائع والأحداث أن جل التنظيمات المسيحية بأمريكا تجمع على مشروعية اللجوء إلى العنف، سواء لتطبيق وفرض القيم التوراتية المسيحية أو للدفاع عما تعتقده يمثل "الهوية الوطنية المسيحية" لأمريكا. وفي سائر الأحوال يظل القاسم المشترك بين تلك التنظيمات الدفاع عن مشروعية "التطرف" وممارسة العنف لتغيير كل وضع مجتمعي مرفوض. ولأجل هذا التغيير المطلوب شكلت تلك التنظيمات الكنسية المختلفة ميلشيات" متحركة بلا قيادة نعتت منذ سنة 1997 ب "جيش الله"، لا تفتأ بين الحين والآخر تقوم بمداهمات عنيفة ومسلحة أحيانا ضد جهات ومؤسسات تعتبرها لا أخلاقية: فقد نظم أكثر من هجوم مسلح على عيادات تجيز الإجهاض وعلى أماكن ممارسة الشذوذ الجنسي، ولم يتوان القس اللوثري مايكل براي سنة 1994 عن تبرير مقتل أحد الأطباء الممارسين للإجهاض، ووضع كتابا في الموضوع بعنوان "حان وقت القتل"، وبدأت تلك الأماكن تشهد عمليات تفجير بل ظهرت وسط هذه التنظيمات أدبيات تعدد وسائل المقاومة "تتواوح بين تفجير المنشآت والقتل" مع تقديم "التفاصيل الدقيقة لتحضير المتفجرات وكيفية الحصول علي مكوناتها" ( ص : 214)[4]

من جهة أخرى، وعلى نفس المنوال، تسير المليشيات المتعددة الأخرى المدافعة خاصة عن "الهوية المسيحية للأمة الأمريكية"، وهي في آخر التحليل تنتهي إلى  القول بنفس العقائد المسيحية الصهيونية، مع اعتبارها الأمة الأمريكية وحدها الأمة الموعودة بحكم آخر الزمان في الألفية السعيدة الأخيرة قبلوا عودة المسيح، ولقد أقدم أحد نشطاء هذا التنظيم على تفجير عيادات الإجهاض في أكثر من ولاية أمريكية، كما قام بتفجير أولمبياد أطلنطا سنة 1996. علاوة على أن تيموفي ماكفى مفجر المبنى الفدرالي الشهير في أوكلاهوما سنة 1995 كان ينتمي إلى ميلشيات هذا التنظيم المسيحي. ومن المفيد هنا أن نقرأ في كتابنا هذا بخصوص تفجير أوكلاهوما، أن الشرطة الفدرالية قد توصلت إلى أنه كان في حوزة ماكفى" هذا نسخة من كتاب روائي سياسي "يصف فيه مؤلفه مجموعة صغيرة من الأشخاص...الذين ينفذون عمليات تفجير ذات دوافع سياسية ضد منشآت فدرالية، وبين تلك العمليات هجوم بقنبلة مصنعة من أسمدة كيماوية ضد مقر مكتب التحقيقات الفدرالي في أوكلاهوما... ومؤلف الكتاب...حصل على الدكتوراه من جامعة كولورادو وقام بتدريس الفيزياء...وخدم لفترة في حزب النازي الأمريكي، وفي عام 1984 قدم نفسه على أنه مؤسس جماعة دينية" (ص: 218).

ب. تلك نماذج تكرس النوع الأول من العنف والإرهاب الذي درجت عليه أغلب التنظيمات المسيحية الأمريكية على المستوى الداخلي. أما على المستوى الخارجي، فعلاوة على ما سبقت الإشارة إليه بخصوص الصهيونية التي روجت لها تلك التنظيمات الكنسية، وهي النزعة التي تكرس مفهوم شعب الله المختار وتشرع لحق طرد الفلسطينيين ومنعهم من العودة إلى أرضهم، وتبشر بحرب نهاية التاريخ الطاحنة، فإن تلك التنظيمات الكنسية لا تفتأ تمارس أنواعا أخرى أخطر من العنف والتطرف والإرهاب، تمارسه هذه المرة على المستوى الخارجي وتحت مظلة السلطة التنفيذية والتشريعية الأمريكية. وذلك حينما تعتبر تلك التنظيمات وتشيع في أدبياتها المكتوبة وبرامجها الإذاعية، أن الأمة الأمريكية خاصة مكلفة "برسالة صليبية عالمية" وأن "الشعب الأمريكي هو الشعب المختار [الجديد] الذي عاهد الرب على بسط سلطته على العالم" كما يؤكد أحد منظري تلك التنظيمات.

لقد كان مما أفررته المسيحية الصهيونية بأمريكا إبان القرن التاسع عشر ظهور مقولة ما يعرف ب"المصير المبين" المشار إليها آنفا والتي تخيل معها الأمريكان أنهم أصحاب "رسالة" لاهوتية مفادها أن الله قد جعل على عاتق أمريكا أن تقود العالم إلى التحضر وإلى الحرية. وذلك ما يبرر في عيون الأمريكيين مشروعية غزو أراض الهنود الحمر وحق استعباد الزنوج، كما برر في عيونهم، بعد اكتساح كل الغرب والجنوب الأمريكي، ضرورة استعمار شعوب وأراضي أخرى، كما وقع  بالنسبة لآلاسكا وهاواي وجويام والفلبين وبويرتوريكو. ثم بعد أن توافقت هذه الرسالة الصليبية" مع المصلحة الاستراتيجية في التوسع الاستعماري أصبحت أمريكا تعتقد أنها فعلا "أرض الميعاد الجديدة" وأنها مكلفة بتحضير العالم وفقا للقيم الليبرالية، مع تمسيحه وفقا للعقيدة الإفانجيلية المللية. وفي ذلك ما يوضح بالملموس أنه "كما أن للدين دورا في السياسة الداخلية [كما لمسنا ذلك آنفا] فإن له دورا في السياسة الخارجية الأمريكية" (ص:224).

وهكذا يسجل التاريخ أن الولايات المتحدة الأمريكية شرعت رسميا في تنفيذ "رسالتها الصليبية العالمية" هذه بمحاولة تمسيح جزر هاواي سنة 1819، ثم شرعت في التخطيط لنفس المشروع في الفلبين. وكما جاء على لسان الرئيس الأمريكي إذ ذاك، وهو افتراضا رئيس دولة ليبرالية علمانية : "إن أمريكا ستعلم الفلبين وترقيهم وتحولهم إلى المسيحية، فمن أجلهم أيضا مات المسيح" ولما قيل له إن الفليبين مسيحيون، أجاب فلنحولهم إلى البروتستانتية" (ص: 224) وتوضح وثائق الحرب العالمية الثانية أنه كان في نية أمريكا بعد ضرب اليابان بالقنبلة الذرية تحويلها أيضا إلى المسيحية...

وكي نبرز دور التيارات الدينية الكنسية ومساهمتها في تلك الرسالة الصليبية التحضيرية نذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية وتحت تأثير القيادات الكنسية الإفانجيلية خاصة كانت قد ركزت اهتمامها قبل وبعد الحرب العالمية الثانية على ضرورة دحر الشيوعية في العالم وخاصة في أمريكا اللاتينية، وفي هذا الإطار تذكر التقارير أن الشبكة التلفزيونية المسيحية الضخمة CBN تبرعت بملايين الدولارات لجماعات "الكونترا" المدعومة من أمريكا والمعادية للشيوعية في كل من نيكاراكوا والهندوراس وجواتيمالا. كما ساندت كل المنظمات الكنسية نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا والنظام السياسي لموبوتو في الزايير. كما أنشأت شبكة CBN محطة METV للدفاع عن إسرائيل وللتنصير بالشرق الأوسط...

غير أنه إثر تطور الأحداث الدولية وبعد تحالف اليمين المسيحي مع اليمين الجديد في الحزب الجمهوري ابتداء من سنة 1994 وجد ذلك اليمين المسيحي الفرصة ليوسع من استراتيجيته مما جعل منه "لوبيا" فعالا في تحديد الاستراتيجية السياسية الأمريكية في مختلف القضايا الدولية، خاصة ما تعلق بالمساندة المطلقة لإسرائيل وعدم التهاون في الزيادة في ميزانية التسلح والتسابق النووي. كما استطاع ذلك اليمين المسيحي أن يضع مع حلفائه شروطا دقيقة لقروض النقد الدولي ونجح في اتخاذ مواقف زجرية من الأمم المتحدة وبعض المنظمات التابعة لها، بحسب ما يخدم المصالح الأمريكية، واضعين في الاعتبار تسهيل كل الطرق وتذليل كل العراقيل لممارسة أمريكا "رسالتها الحضارية" وهي الرسالة التي أصبحت مطية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، خاصة منها دول العالم الإسلامي والصين. وبذلك يتبين للجميع أن الأمر لا يتعلق بمحض مزالق سياسية ولا بمجرد "فلتات لسان" كما يقال، ولكنه أمر عميق جدا في التكوين الديني والفكري لأمريكا.

والملاحظ هنا أنه بالرغم من قيام أصوات أمريكية تندد بمثل هذا التدخل في شؤون الدول وتحذر من مغبة أن ينقلب ذلك سلبا على المصالح الاقتصادية والاستراتيجية لأمريكا، إلا أن اليمين المسيحي ماض فيما يعتبره رسالته الصليبية المزعومة. وقد نجح بعد تحالفه مع اليمين السياسي داخل الحزب الجمهوري في الدفع بمشروع إلى الكونجرس اتخذت منه الكنائس البروتستانتية الإفانجيلية "حصان طروادة" للوصول إلى قلب الدول التي لا تتقاسم معها رسالتها التحضيرية وقيمها الأمريكية وعلى رأسها الصين والعالم الإسلامي. لقد تمثل "حصان طروادة" هذا فيما سمي "بقانون الحرية من الاضطهاد الديني" الذي سينجح اليمين المسيحي في الدفع به إلى الكونجرس والتصويت عليه سنة 1998. ومن غير الممكن أن ندرك أبعاد هذا القانون الذي وقعه مرغما عنه الرئيس الديمقراطي كلينتون، دون أن نتذكر مفهوم العقيدة المللية التدبيرية ونهاية العالم في تصور تلك المنظمات الكنسية الأفانجيلية. إذ أن نهاية التاريخ وعودة المسيح تتطلبان تهييء العالم لهذه النهاية وذلك بالعمل على تمسيح أكبر عدد من سكان المعمور، خاصة سكان المنطقة الواقعة على خطي العرض 10/40 والتي تقع من ضمنها الدول العربية، وقلبها فلسطين. وفي هذا ما يفسر أيضا لماذا "تنتشر في الأوساط الأصولية الأمريكية طقوس لصلوات من أجل أن تهبط نعمة المسيح على الشرق بمسيحية الأورثوذوكس مسلمية" ! (ص: 231).

والواقع أن التذرع بحماية المسيحيين في العالم ومنع اضطهادهم كان كما وصفنا "حصان طروادة" للتدخل في الشؤون الداخلية، في العالم الإسلامي، فتلك هو المبرر التي سبق وأن تذرع به قواد الحملة الصليبية الأولى حينما ادعوا وجوب حماية المسيحيين وتخليص القدس من المسلمين، وهي نفس الدعوى التي تذرعت بها روسيا القيصرية حماية للأورثوذوكس من العثمانيين وما ادعته كل من فرنسا وبريطانيا في الشرق العربي. وإذا كان اليمين المسيحي قد نجح فعلا في أن يجعل من قضية الحرية الدينية إحدى أولويات السياسة الخارجية، فإن الكشف عن الخلفيات والأبعاد الإديولوجية لذلك القانون ليس بالأمر الصعب.

وقبل أن يوضح المؤلف طبيعة الأطراف التي حركت مشروع هذا القانون يحرص أن يضعنا في الإطار العام للمشكل حينما يشير إلى أنه بعد سقوط الكتلة الشرقية وعلى إثر حرب الخليج الثانية أصبحت أمريكا تتطلع إلى "إدارة الكرة الأرضية" بمفردها حسب معاييرها، الأمر الذي أغراها بأن تدبر العالم لا من الأمم المتحدة، بل من الكونجريس الأمريكي نفسه. حيث أصبحت واشنطن تتحرك على أساس أن التشريع الأمريكي يجب أن يطبق أيضا خارج الولايات المتحدة الأمريكية" (ص: 232). وإذا كان لا بد من البحث عن "ذريعة" للتدخل في شؤون الدول الأخرى، فإن هذه الذريعة لا تعجز الإدارة الأمريكية، فقد كانت تهمة "الشيوعية" حاضرة في حالة حصار كوبا والإرهاب في حالة كل من إيران وليبيا. ثم أصبحت الذريعة الحالية هي الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتحت هذه الذريعة عرض على الكونجريس الأمريكي مشروع "قانون الحرية من الاضطهاد الديني" لأجل فرضه على الدول المتهمة بالإرهاب وعدم التعاون، تحت طائلة مختلف التهديدات. والملاحظ أنه بالرغم من الصيغة العامة للمشروع إلا أن الهدف الكامن وراءه هو اعتبار الأقليات المسيحية بالتحديد، حتى لو تمثلت في بضعة أفراد، ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول وممارسة مختلف الضغوط عليها، تماما كما كان يحدث في القرن التاسع عشر ضد الحكم العثماني...

غير أن التعرف على الأطراف التي هيأت هذا المشروع أو تلك التي ساندته جدير بأن يوقفنا على خلفياته الأيديولوجية ويكشف طموحاته الدينية الصليبية المنسجمة مع المشهد الديني الكنسي الأمريكي الذي سبق تحليله: فالمثير للاستغراب أن اللوبي اليهودي المتطرف هو أول من أثار دعوى اضطهاد المسيحيين بالتحديد في العالم، فأثار بذلك نخوة اليمين المسيحي والمنظمات الأصولية التي تحالفت معه من أجل صياغة مسودة ذلك القانون مما أيقظ المكبوت العقدي "الألفي" لدى هذه المنظمات الأصولية الإفانيجلية للتدخل في منطقة الشرق الأوسط خاصة، وتنفيذ رسالتها التحضرية الصليبية" القديمة. ولقد أظهرت الحملات العديدة التي عقدها اليمينان، اليهودي والمسيحي، بمعية "صقور اليمين السياسي" أن الرغبة واضحة في اعتبار الإسلام "شيوعية"الألفية الثالثة، يجب اجتثاثها كما اجتثت شيوعية الألفية الثانية.. ! والملاحظ بهذا الصدد أنه بالرغم من رفض الكنائس القبطية والأرثودوكسية بالعالم العربي الانخراط في المشروع الذي عرض عليها، متخوفة من أي انعكاس سلبي للمشروع عليها، بل ومحذرة من أن ذلك قد يعتبر تدخلا مفضوحا في الشؤون الداخلية لبلدانها، بل بالرغم من كل تلك التحذيرات من أوساط دينية معتدلة وجهات علمانية، بالرغم من كل ذلك مضى كل من اليمين اليهودي واليمين المسيحي الجديد واليمين السياسي بعيدا في الدفاع عن المشروع داخل الكونجريس، وقد كان واقعا تحت سيطرتهم، فتمت المصادقة عليه سنة 1998. ومهما تكن نوايا وتبريرات الإدارة الأمريكية الديمقراطية التي اضطرت إذ ذاك في عهد كلينتون للتصديق على المشروع، إلا أن المؤكد بحسب عبارة مؤلفنا "أن منظمات المسيحية الأصولية في الولايات المتحدة الأمريكية اعتبرت الحملة من أجل تشريع قانون الحرية من الاضطهاد الديني ضمن حملتها الصليبية العالمية عشية الألفية الثالثة" (ص: 236).

11. تلك بعض محطات الرحلة المتبعة التي قادت مؤلفنا رضا هلال إلى أعمق متاهات المشهد الديني الأمريكي الحديث والمعاصر، وذلك بعد أن تزود لرحلته بما يلزم من وسائل البحث والتحليل الموضوعي والوصف الدقيق للمكونات الفكرية والأخلاقية والسياسية التي مهما تشابكت وتعددت أسبابها، فإن الحقيقة البادية بوضوح من خلال شهادات الوثائق والواقع، إن هذه الحقيقة تلزمنا بالقول مع مؤلفنا أنه "وبعد مرور ربع قرن من صعود اليمين المسيحي في الولايات المتحدة الأمريكية، تظل حقيقة "واضحة" هي أن أي تحليل للسياسة الأمريكية الداخلية والخارجية، في المدى القصير أو المدى الطويل، لا بد وأن يأخذ في الاعتبار أن اليمين المسيحي [بمكوناته العقدية وبطموحاته العالمية التي سبق الوقوف عليها] قد أصبح جزءا ماثلا ومهما في المشهد الاجتماعي والسياسي الأمريكي" (ص: 226).

غير أن المفارقة التي جعل منها مؤلفا خاتمة كتابه إبرازه أن أهم وأخطر ما كرسته المسيحية الأصولية وكان وراء معانقتها للأيديولوجية الصهيونية والذي تجسده أسطورة "نهاية العالم" وعودة مسيح آخر الزمان، أن هذه الأسطورة الدينية بعينها سوف يتلقفها الفكر العلماني والليبرالي داخل الولايات المتحدة وينهض "ليبررها" وينتهي إلى تبني منطقها بعد أن يجعل منها مطية لوضع "استراتيجية أمريكية" عالمية؛ وفي هذا دليل آخر على تغلغل ذلك النوع من التفكير الديني الذي زرعته المنظمات الكنسية الأصولية في كل جنبات الحياة العامة الأمريكية. ذلك أننا حينما نتصفح البعد الإيديولوجي لكاتب فرانسيس فوكوياما الصادر سنة 1992 "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" نسترجع في الحقيقة نفس المفهوم الديني الذي كرسته المسيحية اليهودية حول نهاية العالم وعودة المسيح، وكأن هذا المسيح العائد هو بعينه ذلك "الإنسان الأخير" الذي بشر به فوكوياما. ثم إذا كانت العقيدة الألفية "المللية" في المسيحية اليهودية المكرسة لنهاية التاريخ مشروطة كما رأينا بحرب "هرمجدون" الكبرى وسحق قوى الشر، فإن موضوع كتاب صوميل هانتجتون "صدام الحضارات: إعادة تشكيل النظام العالمي" الصادر سنة 1996، ليس هو الآخر إلا تعبيرا ليبراليا عصريا عن تلك الحرب التي تنذر بها العقيدة المللية. بل إن برنار لويس اختزل ذلك الصدام فجعله بالذات صداما أو حربا "دينية" بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي (ص: 248). ثم إذا كان المنظران الأمريكيان فوكوياما وهانتجتون ينتهيان إلى التأكيد بأن الذي سيظفر بالبقاء في "نهاية التاريخ" وبعد صراع حضاري دموي إنما بالتحديد أمريكا ومعها الغرب المسيحي المتحضر، أو ليست تلك هي الدعوى القديمة للمسيحية اليهودية، بأنه عند عودة الميسح ونهاية العالم لن يبق خيار لا لليهود ولا بالأولى للمسلمين ولا لغيرهم سوى التحول إلى دين المسيح الذي يعود ليدبر مملكته الكونية وليقيم "نظاما إلهيا، عالميا، اعتبر بات روبرتسون، زعيم الائتلاف المسيحي، أن "النظام العالمي الجديد" الذي أعلنه الرئيس الأمريكي بوش عقب حرب الخليج الثانية، ليس إلا تمهيدا طبيعيا له ونذيرا بقرب حلوله، ومن ثم وجب أن يكون تمهيدا يقيمه العالم الغربي ويطبعه بحضارته الأوروبية الأمريكية وبثقافته المسيحية حتى يضمن أن تكون النهاية الكبرى للتاريخ نهاية "غربية" محضة ويكون النظام الإلهي العالمي المصاحب لتلك النهاية نظاما مسيحيا بامتياز، كما سطر ذلك في أساطير التوراة. (ص:258).

12. وبعد، فتلك صور حية ناطقة من العلاقة بين الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا كانت القرائن قد أجمعت على مبلغ تدين الشعب الأمريكي، مقارنة بالشعوب الأوروبية، إلا أن الحقيقة الصادمة التي تستخلص من مختلف صور التدين الأمريكي، أن هذا التدين في الأغلب عدواني الطابع، منغلق التفكير، إرهابي النزعة، يبشر بعالم مخيف حقا ! وهو مع كل هذه السلبيات يحظى بالرعاية، ويظفر بالمساندة المادية والمعنوية رسميا وشعبيا ويمكن من وسائل التأثير وطنيا وعالميا. لقد مثلت التنظيمات المسيحية الصهيونية، بجامعاتها وصحفها وكنائسها التلفزيونية، وبإيديولوجيتها العدوانية التحريضية ضد الفلسطينيين خاصة، وبإنذارها العالم بالحرب المدمرة آخر الزمان وفي "نهاية التاريخ" ضد كل من لا ينتمي لمملكة المسيح، وبثها لآلاف من جحافل "المبشرين" لتنصير العالم والتغرير بالرجال والنساء والأطفال كذلك... لقد مثل كل ذلك أخطر ما عرفه الفكر الإنساني من نماذج "الإرهاب" الفكري والديني والسياسي". ومن حق المفكر أن يستغرب كيف تضغط الإدارة الأمريكية على الدول العربية كي تعدل أو تغير بالمرة برامجها التربوية بحجة تطهير الحقل التعليمي والإعلامي من أسباب الكراهية والعدوان والإرهاب، وهي مع ذلك، كما رأينا، تحتضن ذلك النوع الخطير من الإرهاب المتنامي والمستشرى في الجسد الأمريكي والواصلة أثره إلى الأركان الأربعة من الكرة الأرضية... !

ثم إذا أمكننا تعليل دوافع العنف الذي سموه "إرهابا" في العالم الإسلامي والعربي بإرجاعه إلى مختلف أنواع الإحباط وانسداد آفاق الحياة الكريمة ... فماذا عساها تكون مبررات ودوافع ذلك الإرهاب العنيف والمنظم الذي تمارسه أغلب تلك التنظيمات الكنسية الأمريكية، مع أن نشطاءها والمنتسبين إليها يرفلون في بحبوحة من العيش ويتمتعون بكل حقوق المواطنة، الأمر الذي يبين بوضوح أن ذلك "الإرهاب الأمريكي" خلافا لغيره، إرهاب ليس مرتبطا بوضعية اجتماعية محددة، بل هو متأصل في التفكير عميق الجذور في الشخصية القاعدية لأمريكا، ولذلك حق للأستاذ المهدي المنجرة أن يلاحظ: "أن التطرف الديني الأمريكي لا مثيل له في أي بقعة من بقاع العالم، ولا حتى في البلدان الإسلامية، خاصة من خلال التحالف السائد بين اليمين المسيحي المتطرف واليمين اليهودي المتطرف"[5] وهنا لا بد أن تقدروا معي خطورة أن يمتلك مثل هذا المجتمع للسلاح النووي ولأسلحة الدمار الشامل. إن اليمين المسيحي الذي أصبح حضوره قويا داخل الحزب الجمهوري مهيأ بحكم إيديولوجيته سابقة الذكر أن يسخر في سبيل عقيدته المتطرفة كل ما يملك من أسلحة تحقيقا لأساطيره على أرض الواقع: فكيف يسمح العالم أن تمتلك دولة تشهد مثل ذلك الاكتساح لفكر يستعجل نهاية العالم ويتطلع إلى وضع حد للتاريخ وأن يضحي بالبشرية إذا لزم الأمر من أجل "استنبات" حفنة من البشر في فلسطين متوهما أن ذلك هو الشرط الأساسي لاكتمال وتحقق الإنسان الأخير" ؟

وعليه إذا أمكننا أن نستخلص مزيدا من المعطيات ذات الدلالة عبر ذلك الرصد الموضوعي لواقع الدين والتدين في المجتمع الأمريكي، فإنه لا بد أن نلاحظ أن تفادي سلبيات ذلك الواقع لن تغني عنه أبدا دعوات الفصل بين السياسة والدين، فقد ثبت فشل هذا الفصل في أكثر البلاد ليبرالية وعلمانية؛ وهو فصل سيظل وهميا مادام الإنسان بطبيعته لا تنفصل حياته العملية عن بطانته الوجدانية وتصوراته العقدية. إن تفادي مزالق التدين كتفادي مزالق التسيس يكمن في وجوب اتصاف الدين والسياسة معا بمعان وقيم تلتقي حول عقلانية متحررة وأخلاق ملتزمة وحوارية إنسانية، إن الحل في العلاقات بين الدول والمجتمعات يكمن في احترام واقع الإنسان كواقع يكرس إمكانية الاختلاف والتعدد العرقي والديني والسياسي، دون أن يحول ذلك كله أمام وجوب "التعارف" المبني على قيم إنسانية معترف بها دينيا وسياسيا[6]

وفي اعتقادنا أن بإمكان المفكر المسلم المساهمة الإيجابية في مد جسور من ذلك "التعارف" الإنساني انطلاقا من قيمه الاجتماعية والدينية التي تناديه دوما أنه "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين[7]. وبموجب هذه الآية فإن الكف عن العدوان العقدي وعن العدوان السياسي، خاصة في أجلى مظاهره وهو الاستعمار والطرد من الأرض، إن الكف عن ذلك كفيل بإقامة جسور من الحوار المتكافئ بقصد التفاهم، وجسور من التعايش بقصد التساكن والتبشير بغد أفضل وبتاريخ مفتوح، لا بحرب آخر الزمان !

ولا ريب أن المفكر المسلم المعاصر يتحمل مسؤولية إعادة بناء هذه المفاهيم الإيجابية في ثقافته الإسلامية خدمة للإنسانية جمعاء، بعيدا عن الأهداف الإيديولوجية والتوظيفات السياسوية والتسيب الفكري الذي يطال تلك المفاهيم[8]

وأخيرا لعل من الصعوبة بمكان تلخيص محتويات فصول هذا الكتاب، وهي صعوبة ليست راجعة لغموض أو تعقيد ما؛ فالكتاب واضح في أسلوبه، حذر في أحكامه وفي استعمال مصطلحاته، دقيق في تشريحه وتحليلاته، إلا أن هذه الدقة جعلت كل فقرة من فقرات الكتاب تمثل إضافة جديدة وحقيقة صادمة عن الواقع الأمريكي يصعب اختصارها واختزالها أو السكوت عنها. لذا فإن قراءتنا لهذا العمل لن تغني عن الرجوع إليه، إذ هي دعوة ملحة للاطلاع عليه، دعوة نتوجه بها ليس فحسب لرجال الفكر وللمنشغلين بتاريخ الفكر الحديث والمعاصر، بل لا غنى لمن يريد الاطلاع عن "المسكوت عنه" في السياسة الأمريكية وعلى ما صار يعرف بالنظام العالمي الجديد من التماس بعض محددات ذلك الواقع فيما رصده كتابنا هذا عبر الشهادات القاطعة والوثائق الناطقة من أسباب تبدو عميقة جدا في ثقافة الأمريكيين، شعبا وأحزابا وحكومات. وعليه فنحن أمام عمل علمي لا يستغنى عنه لا "رجل العلم" ولا "رجل السياسة" !والكتاب كما حرص صاحبه أن يقدمه للقراء "ليس كتابا في اللاهوت" ولا حتى كتابا في تاريخ الأفكار، بل هو بالأحرى كتاب في الثقافة السياسية، وفي "الأفكار - القوى" المهيمنة على هذه الثقافة في الواقع الأمريكي وفي الواقع الدولي تبعا لذلك./.




* -القاهرة : مكتب الشروق، ط، 2، 1422 هـ، 2001م.
[1] - إذا كان الإسلام دينا وحضارة وتاريخا، قد تعرض منذ البداية إلى التشويه من قبل الكنيسة الكاثوليكية، فقد كان من المتوقع أن تزداد حدة هذا التشويه الإيديولوجي مع البروتستانتية، خاصة في ظل الهدف الصهيوني الذي مثلته "العقيدة الألفية" القاضية بضرورة عودة اليهود إلى وسط العالم الإسلامي بفلسطين وطرد سكناها المسلمين منها.
وقد ساهم في تضخيم هذا التشويه جميع المواقف الدينية الكاثوليكية والبروتستانتية واليهودية، خاصة في ظل تأزم الأوضاع السياسية والعسكرية، حيث دخلت الدول الأوروبية في حروب سجال مع الأتراك العثمانيين، وكانت تتطلع للانقضاض على ممتلكاتهم المترامية الأطراف... في ضوء هذا نفهم مغزى ما فاه به قائد الحملة العسكرية البريطانية في فلسطين، الجنرال "أللنبي" حينما وقف على قبر صلاح الدين وقال : "الآن انتهت الحروب الصليبية" !!
[2] - لا شك أن هذا الملف الذي فتحه رضا هلال حول تهويد الفضاء المسيحي ابتداء من يهود إسبانيا والأندلس جدير بأن يدفع الباحثين لفتح ملف شبيه ومواز له وتظفر حوله هو الآخر بشهادات ووثائق ووقائع، ألا وهو حادث هجرة أفواج عديدة من يهود الأندلسي وإسبانيا إلى العالم الإسلامي، خاصة في ظل الخلافة العثمانية، وما تولد عن ذلك من تأثر فكري وعقدي وسياسي، سوف يبلغ مداه على يد أحفادٍ لهؤلاء اليهود،  وهم الأتراك "الدونمة" الذين سيكون لهم دور كبير في توجيه السياسة  العثمانية ثم في إسقاط الخلافة برمتها !
[3] - أنظر تحليلا نقديا لهذا المؤتمر في كتاب محمد عمارة استراتيجية التنصير في العالم الإسلامي، مالطا مركز دراسات العالم الإسلامي، ط: 1، 1992.
[4] - وسوف يتمكن اليمين المسيحي الجديد داخل الحزب الجمهوري من منع الولايات المتحدة الأمريكية الأمريكية سنة 1998 من المساهمة في صندوق الأمم المتحدة بحجة توظيف الصندوق لتلك الأموال في سياسة الإجهاض ومنع الحمل في العالم (ص: 230).
[5] -المنجرة المهدي، الإهانة في عهد المغا إمبريالية، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، ط: 1، 2004، كمثال لهذا التطرف الأمريكي المساند ماليا من طرف أباطرة البترول بأميركا نجد مؤسسة "جبل المعبد" التي تعد أكثر المنظمات المسيحية الأمريكية إرهابا ! أنظر المسيح اليهودي، ص: 143-144.
[6] -إذا كنا قد وقفنا في التجربة الدينية الأمريكية على نوع من "الأصولية" المنغلقة، فإن الفكر أو المنهج الأصولي في الإسلام وعلى النقيض تماما من مفهومي Intégrisme و Fondamentalisme المتداولين في الفكر الغربي- هو بالأحرى رديف "للتحرر، ورفض للتقليد، وتجاوز للجزئيات، واعتناء بالكليات ومراعاة للمصالح العامة، كما أنه فكر يقوم على الإيمان بجدوى الحوار، وحرية النقد، وقبول بالتسامح، واعتراف بإمكانية الاختلاف... وتلك كلها قيم تتعارض ومعنى "الأصولية" في التداول الغربي والمسيحي.
[7] - قرآن كريم، سورة الممتحنة ، الآية 8.
[8] - أنظر نموذجا لتصحيح مفهوم الحوار مثلا في بحثنا: "بعض معوقات الحوار الإسلامي المسيحي"، مجلة فكر ونقد، الدار البيضاء، السنة الأولى، العدد 5، يناير 1999، ص: 67-81.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق