الثلاثاء، 8 مايو 2012

مشروع التقريب بين السلفية والصوفية: التصوف السلفي (1)

السلفية والصوفية فريقان كبيران في الأمة الإسلامية.. لكنهما كثيرا ما كانا متخاصمين غير متفاهمين ولا حتى متعايشين.
هذه محاولة للتقريب بينهما، وهو مشروع كبير، أسأل الله سبحانه أن يعينني على إتمامه، كما أعانني على إكمال كتاب في دراسة الخلاف السني-الشيعي وتفهّم مصادره وآثاره ومحاولة علاجها
وهذه المقالة الأولى  من سلسلة مقالات المشروع.

التصوف  السلفي (1)
إلياس بلكا
التصوف من علوم الإسلام وتراث المسلمين الهائل. لكن بعض قضاياه ليست محل إجماع، والخلاف فيها قديم بين بعض الفقهاء وعلماء السلف من جهة، وبين بغض الصوفية من جهة ثانية.
ومن قضايا الخلاف بين الفريقين  مسألة الحب الإلهي، فبعض الصوفية يركزون جدا عليها بحيث يكاد التصوف عندهم ينحصر في حب الله تعالى، وما يستتبعه  ذلك من حب نبيه عليه الصلاة والسلام. بالمقابل بعض السلفية لا يكادون يعترفون بالمحبة ولا يكادون يعرفونها، وهذا انعكس على مذاهب بعضهم في العقائد والفقه حيث يغلب عليهم التشدد وسوء الظن بالخلق.
وكلا الطرفين، أو على الأصح بعض منهما، على شيء  من الغلو في الموضوع:
أولا بالنسبة لبعض الصوفية الذين يحصرون معظم طريق التصوف والسلوك في المحبة، فهذا خطأ لوجوه:
1- الإسلام ليس عاطفة فقط، بل شعائر وأعمال وعبادات ظاهرة ظاهرية، لذلك على العبد أن يتعبد لله كما أمره، فيصلي ويصوم ويحج ويتصدق، ويحترف ويعمل.. أي يأتي بأمور الشريعة كلها، ويحترم رسومها الظاهرة. ونحن نعرف الحديث المشهور الذي يستدل به الصوفية ويحبونه: حديث الولاية، وفيه: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به.. فأول الحديث القدسي هو: ما تقرّب إليّ عبدي بأحب إليّ مما افترضته عليه. أي أن العبد  يأتي بالفرائض أولا، ثم بالنوافل ثانيا، فهذا الذي يحبه الرب سبحانه. والمعروف تاريخيا أن المغالاة في طريق المحبة – مركبا على مذهب المعرفة ، وهما أصلا مذهب واحد- هو الذي أدى في فترات لاحقة إلى ظهور مذهب إسقاط التكاليف في التصوف، على اعتبار أن العبد إذا عرف ربه وأحبه أغناه ذلك عن العبادات البدنية التي تصبح مجرد تعب للجسم.
لكن من جهة أخرى يمكن أن نلاحظ على بعض السلفية  أنها تعطي لمذهب سقوط التكليف في تاريخ التصوف أكثر مما يستحق، وأقول هذا لسبب بسيط، وهو أن هذا المذهب كان دوما يعيش على هامش تاريخنا، ولم يرق أبدا إلى أن يشكل تيارا داخل التصوف، أي أنه مذهب أفراد، فلا ينبغي تحميل المسألة أكثر مما تحتمل، كما لا ينبغي أن ننكر أن الغلو في مذهبي المحبة والمعرفة يمكن أن ينتج هذا الانحراف لدى بعض الناس، كما أنتج الحلول والاتحاد.
2- التصوف تاريخ واسع وتراث هائل، وآراء واجتهادات وتجارب.. لها أول وليس لها آخر. لكن وجد في التصوف  اتجاه غلـّب  المحبة والتعلق بها لدرجة كبيرة لا يمكن اعتبارها تتسق تماما مع  بعض التفاصيل القطعية للعقيدة. وهذا من عهد رابعة العدوية رحمها الله. فهنا يغلب على الصوفي استحضار جمال الله وجلاله وجوده وعلوّه.. لدرجة أن المتأمل يفنى في هذه المعاني، فلا يستحضر غيرها. والمقصود أن المحبة حقّ  لاشك فيه، لكن لا ينبغي للعبد أن ينسى أن من صفات الله تعالى أيضا: القوة والجبروت والكبرياء والعظمة والسطوة على الخلق والعزة والانتقام.. كما أشارت إلى ذلك الآية: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم.)
والغفلة عن هذا المعنى هو الذي جعل بعض الصوفية يقولون إنهم سيستمرون على حب الله ولو عذبهم، كما قالت رابعة: اللهم إني لا أعبدك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، ولكنني أعبدك حباً لذاتك وعلاك، فإن شئت حرمتني من جنتك وإن شئت عذبتني بنارك.
وهؤلاء ما كان يجوز لهم أن يسألوا الله عذابه، وقد غفلوا عن مسألة بسيطة، ، وهي أنه لا أحد في الكون من أصغر ذرة إلى أكبر مخلوق يمكن أن يصبر على عذاب الله أو يتحمله لحظة واحدة. فالله عظيم  وقوي لا في جوده  ورحمته فقط، بل أيضا في عذابه وبطشه.. فمن ذا الذي يقوم لعذاب الله ويدّعي أنه سيستمر على حال من الأحوال، ومن ذا الذي يتمنى أن يتعرض لعذاب الله إلا أن يكون لا يقدر الله حق قدره: (وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه.. الآيات.) حتى ما جاء عن بعض الصالحين من الاستغراق التام في حضرة الباري، لدرجة عدم إحساسه تماما بالعالم الخارجي من حوله.. حتى هذا هو كائن ومتيسر بفضل من الله وتقوية منه سبحانه لعبده، فالإنسان أبدا تحت رحمة الله ومفتقر إليه عائذ بجنابه..
وهذا الجبل لما تجلـّى الله سبحانه له بنوره – فكيف لو تجلى له بجبروته وقهره وبطشه – ذاب ولم يستطع تحمل ذلك، وهي قصة موسى عليه السلام لما ناداه ربه إلى الجبل المقدس، فقال النبي: (قال رب أرني أنظر إليك. قال لن تراني، ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني. فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا، وخر موسى صعقا. فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين.)
ولذلك يروى عن سمنون رضي الله عنه، وهو أحد أركان التصوف القائم على الحب حتى صار يقال له: سمنون المحب.. أنه أنشد مرّة في  سكرات الحق هذا الشعر:
 وليس لي سواك حـــــظ           فكيف شئــــت فامتحنـّي
إن كان يرجو سواك قلبي         لا نلت سؤلي ولا التمني
 وبمجرد أن قال ذلك ابتلاه الله تعالى فقط بحبس البول ، لا بجهنم ولا بغيرها، فأصبح يتلوى من الألم، فانتبه لخطئه وأصبح يدور على صبيان المكاتب ويقول لهم: ادعوا لعمكم الكذاب.
والخلاصة أن على العبد أن يراعي الحالين معا، وأن يتقلب بينهما، وهما: الخوف والرجاء. فالخوف أصله صفات العظمة والقهر، والرجاء أصله صفات المحبة والرحمة والجلال.. والعبد كما يرجو ربه ينبغي أن يخافه، وكما يحبه يجب أن يرهبه.. فالكمال هو في الجمع بينهما، وهو حال الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: إني لأتقاكم لله وأخشاكم له.. وفي حديث آخر أنه امتقع وجهه حين رأى الريح مقبلة، وقال: عذب أقوام بالريح..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق