الثلاثاء، 8 مايو 2012

تجديد علوم الفقه والمقاصد في ضوء المستقبل

سبق أن نشرت فصلية  التسامح  مقالي هذا بعددها العشرين:
يعرف عصرنا منذ بضعة عقود حرباً فريدة من نوعها، حرب شاملة بين كبار هذا العالم، صاخبة أحيانا، وصامتة في أكثر الأحيان..إنه السباق المحموم للسيطرة على المستقبل. أين نحن اليوم من هذا (الصراع حول المستقبل)؟ إن من أسباب قصور العقل العربي - الإسلامي، في هذه القرون الأخيرة من حياة الأمة، هو هذا الخلل في تعامله مع الزمن، بحيث يميل إلى استحضار الماضي بإفراط، كما تشغله كثيرا شؤون الحاضر المباشر..حتى أنساه ذلك -في كثير من الأحيان- التعامل الجاد والمدروس مع المستقبل الآتي. يقول وليد عبد الحي: (أزعم أن إحدى ثغرات ثقافتنا العربية تتجسد في أحد أبعادها في موقفها من الزمن، إذ طغى عليها الماضي والحاضر، بينما لم يحظ المستقبل -حيث سنعيش- إلا بأقل القليل، رغم أن معرفة أو محاولة معرفة - المستقبل تمثل أحد عناصر القوة)(1).
انظر  تتمة المقال أدناه (مزيد من المعلومات)، أو على هذا الرابط: 

والسؤال المطروح هو: هل في العقيدة وأصولها أو في الشريعة ومقاصدها ما يمكن أن يدفع بالعقل العربي - الإسلامي إلى أن يسد على نفسه باب المستقبل: استكشافا واستشرافا وتخطيطا وإعدادا..وما هي معاذيره الممكنة أو المتوهمة في ذلك؟ ثم ألا يمكن لعلوم الفقه والأصول والمقاصد أن تستفيد من الدراسات المستقبلية المعاصرة؟ وكيف يكون ذلك؟
انظر  تتمة المقال أدناه ، أو على هذا الرابط: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=476
تجديد علوم الفقه والمقاصد في ضوء المستقبل
إلياس بلكا*
مصالحة المستقبل
يعرف عصرنا منذ بضعة عقود حرباً فريدة من نوعها، حرب شاملة بين كبار هذا العالم، صاخبة أحيانا، وصامتة في أكثر الأحيان..إنه السباق المحموم للسيطرة على المستقبل. أين نحن اليوم من هذا (الصراع حول المستقبل)؟ إن من أسباب قصور العقل العربي - الإسلامي، في هذه القرون الأخيرة من حياة الأمة، هو هذا الخلل في تعامله مع الزمن، بحيث يميل إلى استحضار الماضي بإفراط، كما تشغله كثيرا شؤون الحاضر المباشر..حتى أنساه ذلك -في كثير من الأحيان- التعامل الجاد والمدروس مع المستقبل الآتي. يقول وليد عبد الحي: (أزعم أن إحدى ثغرات ثقافتنا العربية تتجسد في أحد أبعادها في موقفها من الزمن، إذ طغى عليها الماضي والحاضر، بينما لم يحظ المستقبل -حيث سنعيش- إلا بأقل القليل، رغم أن معرفة أو محاولة معرفة - المستقبل تمثل أحد عناصر القوة)(1).
والسؤال المطروح هو: هل في العقيدة وأصولها أو في الشريعة ومقاصدها ما يمكن أن يدفع بالعقل العربي - الإسلامي إلى أن يسد على نفسه باب المستقبل: استكشافا واستشرافا وتخطيطا وإعدادا..وما هي معاذيره الممكنة أو المتوهمة في ذلك؟ ثم ألا يمكن لعلوم الفقه والأصول والمقاصد أن تستفيد من الدراسات المستقبلية المعاصرة؟ وكيف يكون ذلك؟
أولا: الإسلام يؤسس للمستقبلية
تطلق كلمة المستقبلية وفق استعمالين: 1- الاهتمام العام بالمستقبل وقضاياه، واعتباره في الفكر والعمل. 2- مجموعة من الأبحاث حول التطور المستقبلي للإنسانية تمكـن من استخلاص عناصر التوقع(2). وأعني بالمستقبلية في مقالي هذا الاستعمالين كليهما. ويمكن أن نستكشف التأسيس الإسلامي للمستقبل -استشرافا وإعدادا- من خلال العناصر الآتية:
مبدأ النظام الكوني: لما كانت مدارك الدراسات المستقبلية هي -على العموم- مدارك العلم أو المعرفة نفسها, كان ما يحتاج إليه (الاستشراف) هو درجة من الاستقرار والرتابة في الوجود, وهذا ما يحققه المبدأ القرآني العظيم (النظام الكوني). فهذا المبدأ يوفر هذا الاستقرار -ولو في حدوده الدنيا- دون أن يُقصِي تماما عناصر الاحتمال والحرية والخروج عن المألوف... ونحوها من العوامل التي تجعل من الاستشراف المستقبلي نظراً فكرياً ممكناً، لكنه لا يكون قطعياً أو يقينياً، فهو أغلبي، أو ظني..وهذا لا يؤثر في شيء على مشروعية المعرفة المستقبلية ولا على جدوى توقعاتها(3). وهذا المبدأ -أعني النظام الكوني- أهم وأوضح من العلاقة السببية أو العلية، والتي يمكننا أيضا أن نبني على أساسها مشروعية (المستقبلية) في الإسلام(4).
علم السنن القرآني:لم يكتف الدين بإرشاد الإنسان إلى قيمة مبدأ النظام، بل قدم له نماذج تطبيقية وعملية -من التاريخ خاصة- لهذا المبدأ الكبير، قد تناثر الكلام عليها في عدد هائل من الآيات والأحاديث. لهذا دعا محمد عبده إلى تأسيس علم كفائي جديد سماه (علم السنن)، قـال: (إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سننا يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علما من المعلوم المدونة لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه. فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال وبينها العلماء بالتفصيل -عملا بإرشاده- كالتوحيد والأصول والفقه. والعلم بسنن الله -تعالى- من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة)(5). ولا يزال تأسيس هذا العلم وتطويره ديْناً في ذمة الأمة.
التوقع فائدة السننية: ومن أهم وظائف علم السنن أو فقه السنن: وظيفة التوقع. لذلك يطالب القرآن الكريم المسلم أن يضع دائما المستقبل في اعتباره: ﴿يأيها الذين آمنوا اتقوا الله، ولتنظر نفس ما قدمت لغد،(الحشر 18). ويتوعد الله -سبحانه- المشركين بالعاقبة المتوقعة: ﴿فهل ينظرون إلا سنة الأولين، فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا. أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، وكانوا أشد منهم قوة،(فاطر 43-45). أي هل ينتظرون ما سيقع في المستقبل، وكيف غاب عنهم أن المستقبل سيكون كالماضي، ما دامت هناك عادة جارية وما دام أن الحياة تسير على سنن ونظام معلومين...فهل ينتظرون مجرد التحقق، وحينئذ لن ينفعهم الندم. لذلك فإن نوحا -عليه السلام- توقع مستقبلا معينا لقومه، ودعا عليهم بناء على ذلك: ﴿إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا، قال الرازي: (إن قيل كيف عرف نوح -عليه السلام- ذلك؟ قلنا: للنص والاستقراء. أما النص فقوله -تعالى-: ﴿إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن. وأما الاستقراء، فهو أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فعرف طباعهم وجربهم)(6).
الغيب الإضافي: وقد ظن كثير من المسلمين أن المستقبل مجال مقفل تماما في وجه العقل الإنساني. وهذا خطأ أوقعهم فيه اعتقادهم أن الغيب ما لا قدرة للإنسان على الوصول إليه بحال. وهذا -في الواقع- هو ما يسميه العلماء بـ(الغيب المطلق)، في مقابل (الغيب النسبي أو الإضافي)، الذي قد يكون معروفا أو مشاهداً للبعض دون الآخر، أو في وقت دون وقت. قال الرازي: (الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل، وإلى ما ليس عليه دليل..أما الذي لا دليل عليه فهو سبحانه وتعالى- العالم به لا غيره. وأما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن نقول: نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل...وعلى هذا الوجه قال العلماء: الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة)(7). ثم إن العلماء قرروا فرقاً آخر بين الغيبين، قال أحمد القباب -من فقهاء المالكية وأساتذه الشاطبي-: (الذي استأثر الله به إنما هو علم الغيب. وأما ظنه فليس في الشرع ما يدل على منعه)(8). لذلك استنبط ابن حجر من حديث سليمان النبي -لما قال لأطوفن الليلة على نسائي، كلهن يأتي بفارس مجاهد، ونسي أن يقول إن شاء الله-: (فيه جواز الإخبار عن الشيء ووقوعه في المستقبل بناء على غلبة الظن...ومستند المخبر الظن، مع وجود القرينة القوية لذلك)(9).
من أصول الشريعة الكبرى: اعتبار المآلات: إن هذه المستقبلية القرآنية لم تبق أسيرة الاعتقاد والنظر، بل انعكست على الفقه ومقاصده، فأنتجت فيهما ما يسميه أهل الاجتهاد بـ: (اعتبار المآل)، وهو من أعظم الأصول الشرعية التي تدل على لزوم النظر في المستقبل ومراعاته. إن اعتبار المآل نوع من عكس الاستصحاب الذي هو -كما يقول القرافي- (اعتقاد كون الشيء في الماضي أو الحاضر يوجب ظن ثبوته في الحال أو الاستقبال)(10). فهذا استدعاء الماضي إلى الحاضر، وربما إسقاطه أيضا على المستقبل. والمآل عكس ذلك: استدعاء المستقبل إلى الحاضر، وتقديمه في الاعتبار عليه. يقول الشاطبي: (النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة. وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل. فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه. وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك)(11). وفي جميع هذه الحالات لا يصح إطلاق القول بالمشروعية أو بعدمها إلا بعد مراعاة المآل، قال: (وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة)(12).
المآل نظر مستقبلي: إن اعتبار المآل هو نوع من الموازنة بين ظاهر الدليل الشرعي ونتائجه من مصالح أو مفاسد، فهو الأثر المترتب عن الفعل؛ لذلك عرف محمود عثمان المآل بأن (يأخذ الفعل حكما يتفق مع ما يؤول إليه، سواء أكان الفاعل يقصد ذلك الذي آل إليه الفعل أم لا يقصده. فإذا كان الفعل يؤدي إلى مطلوب فهو مطلوب، وإن كان لا يؤدي إلا إلى شر فهو منهي عنه)(13). أما الريسوني فقال: (معناه النظر فيما يمكن أن تؤول إليه الأفعال والتصرفات والتكاليف موضوع الاجتهاد والإفتاء والتوجيه وإدخال ذلك في الحسبان عند الحكم والفتوى)(14). ويبدو لي أن أدق تعريف لاعتبار المآل هو تعريف الأنصاري: (أصل كلي يقتضي اعتباره تنزيل الحكم على الفعل بما يناسب عاقبته المتوقعة استقبالا)(15). وإنما وجب اعتبار المآل لأنه لا يتم النظر في الأسباب إلا مع استحضار المسببات، قال الشاطبي: (الأعمال مقدمات لنتائج المصالح، فإنها أسباب لمسببات هي مقصودة للشارع، والمسببات هي مآلات الأسباب، فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب، وهو معنى النظر في المآلات)(16). ويقول محمد إقبال: (فكرة الغاية لا يمكن أن تفهم إلا بالقياس إلى المستقبل... لا تقتصر الغايات على تلوين حالاتنا الشعورية الحاضرة وحدها، بل تكشف عن اتجاهها في المستقبل أيضا... إن تقيد أمر بغاية ما معناه تقيده بما ينبغي أن يكون. وعلى هذا فإن الماضي والمستقبل يؤثر كلاهما في حالة الشعور الحاضرة، وليس المستقبل غير محدد بالمرة)(17). ويستحيل تماما أن ننزع عن الإسلام هذا الاعتبار المستقبلي العميق، يقول المنجرة - من أبرز الخبراء المستقبليين في العالم -: (الإسلام -باعتباره دينا واجتماعا- هو قبل كل شيء نظر إلى الأفق البعيد، في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة...وكيفما كان الفعل الإنساني عليه -على المستوى الديني والاجتماعي- أن يستهدي بنتائجه الدنيوية والأخروية. وبهذا كان اعتبار المستقبل جزء من العمل اليومي للمسلم)(18).
نموذج نبوي من مراعاة المآلات: وقد فرع الشاطبي على هذا الأصل العظيم أربعة قواعد شرعية: الذرائع، والحيل، ومراعاة الخلاف، والاستحسان(19). ثم اعتبر أن الأدلة الشرعية والاستقراء التام يدلان على أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية..(20) فمن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر، لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين..(21). وقد بوب البخاري على هذا الحديث في كتاب العلم: باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه. ففي الحديث: ترك بعض الأمور التي يستصوب عملها إذا خيف تولد ما هو أضر من تركه. وفيه استئلاف الناس على الإيمان، وتسهيل الأمور عليهم حتى لا ينفروا(22).
الثورة الإبستمية في الإسلام: التمييز بين التنبؤ الفاسد والتوقع السليم: إذا كان الإسلام قد دعا إلى اعتبار المستقبل في حركة الأفراد والأمة، ففتح بذلك الباب واسعاً أمام منهج التوقع والاستشراف..فإنه -إلى ذلك- أرشد العقل إلى ما يصح منه وما لا يصح، وبهذا قدم للبشرية خدمة عظيمة، لأنه وجهها إلى دراسة المستقبل وفق أسس علمية سليمة، ومنع طاقتها أن تهدر في الخرافة والخطأ والضلال..فلا عجب إذن أن يسبق المسلمون إلى اكتشاف المنهج التجريبي في العلوم، وأن يؤسسوا بعضها لأول مرة كعلم الاجتماع وتفسير التاريخ والجغرافيا.
لقد أبطل الإسلام الكهانة والعرافة، ونهى رسوله عن مجرد استشارة الكهان والعرافين. ومنع أيضا الاستقسام، وهو استعمال قداح أو أزلام.. لطلب معرفة المستقبل وتعيين ما يجب عمله. ومن قواعد التوجيه الإسلامي هنا إبطال التنجيم من أصله، واعتباره من جملة فنون التوقع الخاطئ، فقال -صلى الله عليه وسلم-: من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد. وإذا كان الإسلام قد أبطل التنجيم الخرافي فإنه بالمقابل أقر الفلك العلمي، فتحدث القرآن عن السماوات وأجرامها، وذكر ظواهر فلكية عديدة، ودعا إلى التأمل فيها. وهذا توجيه معرفي -أو بلغة اليوم ابستمولوجي- عظيم، لم يعرفه الغرب إلا منذ قرون قليلة، إذ من المعلوم أن ظهور فن التنجيم عرقل تطور علم الفلك، وكان الفصل بينهما الشرط الأول لتتقدم المعرفة الكونية. لذلك اعتبر كثير من علماء الاجتماع والإناسة أن السحر والتنجيم هما أبرز المسؤولين عن وقف تطور المجتمعات البدائية وتجميد نموها الحضاري، والعلمي خاصة(23).
لم يقم الإسلام فقط بتحرير العقل من معوقات ابستيمولوجية معينة، بل تجاوز ذلك إلى تهيئة الإنسان للمستقبلية نفسيا ووجدانيا.
الإعداد النفسي للمستقبلية: وجه الإسلام الأمة إلى ضرورة التعاطي مع الزمان -الماضي والآتي- بنفسية إيجابية لا سلبية، ومقبلة لا منهزمة... فالإنسان ليس مجرد آلة مفكرة، بل هو أيضا روح وغريزة... والدين لم يغفل هذا الجانب حين اعترف بالطبيعة البشرية للتطير، فقال -عليه السلام-: ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدهم. ومع ذلك طالب المسلم بالإعراض عن الطيرة ومقاومتها. إن الإسلام حرم الطيرة لما فيها من التشويش على صفاء التوحيد، ولآثارها النفسية السلبية وما تبعثه في أصحابها من التشاؤم والاكتئاب... بينما جوز الفأل لأنه يشجع على النظر إلى المستقبل نظرة أمل وتفاؤل لا خوف وتشاؤم. والبشرية اليوم في أمس الحاجة لهذا التوجيه النبوي، وهي الغارقة في أمراض القلق والتشاؤم والخوف من المستقبل، حتى عد ذلك مشكلة العصر.
ومن الوصايا النبوية أيضا -كما في صحيح البخاري-: لا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان. قال الفقهاء: تكره اللو إذا تعلقت بالماضي. فما كان من الماضي الذي ذهب: الأصل فيه كراهة -أو حرمة- استعمال لو، وما هو من المستقبل وتحت الإمكان فالأصل فيه الجواز. إن مقصود النهي عن اللو تحرير الإنسان..لا يريد الإسلام أن يكون المرء أسيراً لزمن انقضى بل يريده مقبلاً على المستقبل ووعوده.
السيناريو في الدراسات المستقبلية: من هذا الضابط يمكن أن نستنتج جواز أسلوب السيناريو (أو المشهد) الذي يستعمل بكثرة في الدراسات المستقبلية، فهو يقوم على حصر جميع ما يمكن تصوره من احتمالات المستقبل، للاستعانة بذلك على اتخاذ القرار الأصلح(24).
 أمثلة التخطيط المستقبلي في زمن الرسالة:لم يكتف الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما سبق، بل أعطى من نفسه ومن سيرته الكريمة أمثلة حية وتطبيقات رائعة لهذه المستقبلية الإسلامية.
على مستوى الأسرة: أذنَ الإسلام في التخطيط الأسري، وذلك حين أباح العزل، حيث لا يريد الزوجان أن يكون لهما ولد في المستقبل القريب(25). ولو أن هذا الدين لا يسمح بالتخطيط المستقبلي ما أجاز التحكم في مستقبل المواليد. إن الإسلام بإباحته للعزل يكون قد أذن للإنسان أن يخطط كل شيء..حتى الحياة الإنسانية، ناهيك عن الحياة المادية أو الاجتماعية. وقد أعطى النبي العظيم القدوة من نفسه في نوع آخر من التخطيط الأسري. روى البخاري أنه عليه السلام كان يبيع نخل النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم. واستدل بذلك الطبري على إباحة الادخار مطلقا، ووافقه ابن حجر. وإذا أعملنا حكمة الادخار فإننا نستنبط أمرين: الأول: الأصل عموم الادخار، ولذلك فأبوابه كثيرة: من الدواء والغذاء.. إلى الآلات والألبسة.. إلى الماء والهواء.. والثاني: إذا كان الإسلام يرشدنا إلى أن ندخر لأسرنا، فإنه بذلك ينبهنا على قيمة الادخار لما هو أكبر منها كالشعب أو الأمة.. لهذا ينبغي للدولة أن تكون لها سياسة مدروسة للادخار المستقبلي في جميع المجالات، خاصة تلك التي تتعلق بالنواحي الاستراتيجية في حياة الأمة.
على مستوى المجتمع: ومن أبرز أمثلته فكرة الحجر الصحي التي كان أول من أقرها هو الإسلام، وذلك حين دعا إلى نوع من الفصل بين المرضى والأصحاء، فقال النبي الكريم في الطاعون: (إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه. وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه). ولم يكتشف العالم هذا المبدأ إلا بعد أن حصدت الطواعين والأوبئة مئات الملايين في تاريخ الإنسانية.
على مستوى الدولة: أمر النبي -عليه السلام- باعتباره إماما وقائد دولة باستخدام أسلوب الإحصاء، بل إنه طبّق ذلك عمليا في المدينة. بينما ورد في التوراة لعن العد وتحريمه، وكان لذلك أثر في تأخير ظهور علم الإحصاء بأوروبا. روى البخاري: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس، فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل. والحكمة من هذا الإحصاء هي أن الرسول احتاج إلى معرفة الطاقات والإمكانات التي بحوزته حتى يختار في ضوء ذلك المواجهة من عدمها ويدرس ظروفها وحدودها، إذ من المعلوم أن التخطيط السليم ينبني على المعلومات الدقيقة. لهذا جاء في السنة ما يشير إلى استمرار اعتماد الرسول عليه السلام أسلوب الإحصاء.
إذن ما دام الإسلام أقر الاهتمام بالمستقبل والإعداد له..فهل يمكننا الاستفادة من آخر ما وصلت إليه الإنسانية في هذا المجال، أعني: الدراسات المستقبلية؟
ثانيا: مقدمة في التعريف بالدراسات المستقبلية المعاصرة:
النشأة: يعتبر هذا (العلم) الوليد أحد أهم التطورات التي حدثت في مجال العلوم الإنسانية في النصف الثاني من هذا القرن. وقد استفاد من العلوم البحتة -وخصوصا الرياضيات- كما استفاد من العلوم الإنسانية كعلوم الاجتماع والتاريخ والاستراتيجيا.. ويعتبر كتاب المفكر الإنجليزي توماس مور (توفي سنة 1535م): (يوتوبيا)، من أوائل ما كتب في المستقبل. ثم تبعه فرنسيس بيكون (1626) في كتابه (أطلنطا الجديدة). ثم كتب توماس مالتوس (ت 1843م) دراسته حول السكان التي تعد أهم بحث مستقبلي في القرون الأخيرة. وللكاتب جورج ويلز (1946م) دراسات كثيرة حول المستقبل ساهمت في لفت النظر إلى هذا الحقل المعرفي الجديد. وكذلك فعل الروائي الفرنسي جول فيرن (1903م)(26). وهذه المرحلة تسميها ماسيني: ما قبل تاريخ الدراسات المستقبلية(27).
التطور المعاصر: بدأ إخضاع المستقبل للبحث العلمي والمنهجي في أربعينيات القرن العشرين بفضل جهود مؤسسة عسكرية أمريكية اسمها (راند). وهذا مثال للعلاقة الملحوظة اليوم بين العلم والحرب(28). ومنذ هذا التاريخ كثرت البحوث المستقبلية وانتشرت وظهر خبراء كثر يهتمون بهذا المجال وتأسست مئات المراكز والهيئات والمجلات والمؤسسات التي جعلت من المستقبل مجال اختصاصها. وبين يدي كتاب أصدرته الجمعية الدولية للمستقبل يضم أهم المعلومات المتعلقة بـ: 187 مؤسسة أو جمعية تهتم بالمستقبل، وكذا 124 مجلة في الإطار نفسه. وهذا في 38 دولة(29).
ولقد ساعدت عوامل كثيرة على إنجاز هذا التطور الكبير. إن توفر رصيد معرفي هائل -يتضاعف كل سبع سنوات- وضع بين أيدي المستقبليين كمَّا من المعارف لا يتصور(30). كما أن تقدم وسائل معالجة المعلومات -وخصوصاً الكمبيوتر- مكن من الاستفادة من هذا الكم المعرفي. وجاء علم تحليل النظم -وهو علم رياضي جديد- ليجعل من تحليل المعلومات المتوفرة عملية تفيد في الوصول إلى نتائج قيمة في التطبيق. وتعتبر المدرسة الأمريكية -ورائدها هو العالم الألماني أوسيب فلتخهايم- أهم مدارس المستقبليات. وبعدها تأتي المدرسة السوفيتية (الروسية حاليا) والفرنسية(31).
وظيفة المستقبليات: لم تعد الدراسات المستقبلية حلماً جميلاً، ولا مجرد خيال يشتط به العقل هاربا من ثقل الواقع المعيش، ولا -كذلك- ترفاً فكرياً يمارسه بعض العلماء ممن يحب كل جديد وغريب.. لقد استقلت هذه الدراسات بمناهج وقضايا وأفكار.. وأصبح لها الآن تاريخ يخصها.. بل تجاوزت كثير من الأمم هذا المستوى لتدخل هذا النوع من الدراسات في أكثر مجالات حياتها من أهم مبادئ الدراسات المستقبلية أن المجال الذي يمكن للإنسان أن يؤثر فيه هو المستقبل(32)، بالأساس. ولهذا يطرح الأستاذ المهدي المنجرة مفهوم: استعمار المستقبل، ويقول إن العالم الإسلامي إذا لم يخطط لمستقبله، فإنه يوشك أن يستعمر بدوره، كما استعمر ماضيه وحاضره(33). إن المستقبل ليس مجالاً للاستكشاف فقط، بل هو أيضاً مجال للعمل والتأثير. ولا تسعفنا الدراسات المستقبلية بمناهج كشف الآتي ومعرفة بعض ملامح المستقبل - فقط، بل إنها تعيننا لما نطرح على أنفسنا هذا السؤال: كيف نستطيع أن ننشئ مستقبلنا وأن نخضعه لآمالنا وتطلعاتنا وأفكارنا وعقائدنا؟ لهذا تعرف أهم الأمم المتقدمة انشغالاً مستمراً بالمستقبل: كيف سيكون، ومن الذي سيتحكم فيه، وما السبيل إلى أن يكون لنا موقع بين دوله المؤثرة..؟(34).
لا تدعي الدراسات المستقبلية معرفة الغيب، ولذلك كان مداها الزمني لا يتجاوز -في الغالب- ثلاثين سنة، وهو المستقبل البعيد.. لكنها تفيد في تقليل الاحتمالات الواردة في المستقبل بحيث يغلب على ظننا أن مجموعة (أ) من مشاهد المستقبل (السيناريوهات) مستبعدة الوقوع، ومجموعة (ب) راجحة الوقوع. وفي المجموعة (ب) تفاوت في الاحتمالات(35). يقول توفلر: (كل مجتمع يجد نفسه أمام سلسلة من المستقبلات المحتملة، وكذا أمام مجموعة من المستقبلات الممكنة، وكذلك أمام مجموعة من المستقبلات المفضلة.. كل هذه المستقبلات تتنافس باستمرار. لما نقنن التغيير وننظمه فنحن في الحقيقة نسعى إلى أن نحول بعض هذه المستقبلات الممكنة إلى مستقبلات أكثر احتمالا، وذلك لنحقق أمانينا التي تشكل مطلبا يتمتع بإجماع عام)(36). ويقول خبيران في هذا الحقل: إن تزايد أهمية الاستشراف لمستقبل المجتمعات -أو لمستقبل قطاع معين من الحياة الإنسانية- يجد جذوره في بنية العالم المعاصر وطبيعته الدينامية، أي بالضبط في تسارع حجم التغيرات التي تحدث في الواقع(37).
ثالثا: ضرورة استيعاب الدراسات المستقبلية في الفكر الإسلامي من خلال العلوم الثلاثة
إن الدراسات المستقبلية علم ناشئ اتخذ لنفسه هدفاً، هو استشراف المستقبل وحصر أهم احتمالاته، واتبع في ذلك منهجاً علمياً مقبولاً على العموم. لذلك ظهر لي أن هذا العلم صحيح، ومفيد أيضا. بل أعتبره من فروض الكفاية على الأمة. ويجب على الفكر الإسلامي المعاصر أن يفسح له مكانا بين أبحاثه واهتماماته. فهذا اللون من العلوم يزيد عمره اليوم على نصف قرن، حيث تشهد المستقبليات جهودا مستمرة في تعديل النظريات وتطوير الآليات. وأقل ما يمكن ذكره لصالح هذا العلم الفتي هو أن الدراسة المستقبلية تقلل من الاحتمالات الممكنة، فتعتبر بعضها أرجح من بعض، وقد تلغي قسماً منها... أي إننا وإن لم نعرف المستقبل فإنه يغدو أقل غموضا. وإذا استطعنا أن ندخل هذا العلم في دائرة مصادر العقل المسلم المعاصر واهتماماته وقراءاته أمكن أن ننقله من الاهتمام المفرط بأحداث الماضي ومشكلات الحاضر إلى قضايا المستقبل. لابد إذن أن ندرس (علم المستقبل) ونعرف حقيقة عقائد كبرى كالغيب والقدر..فإذا تم ذلك أمكن أن نبحث في مناهج هذا العلم وأساليبه التفصيلية انطلاقاً من المذهبية الإسلامية العامة ومن مقررات علوم أصول الدين ومقاصد الشريعة وأصول الفقه والفقه والقواعد الفقهية. والمطلوب هنا هو تقديم ملامح للبحث المستقبلي المقبول ديناً وفقهاً، بما أمكن من الدقة والضبط والتقعيد. وهذا يمكن أن يتم أساساً ضمن علوم إسلامية ثلاثة وعبرها:
1- علم الكلام:
يمكن للدراسات المستقبلية أن تفيد علماً مهماً من علومنا الإسلامية، هو علم العقائد أو علم أصول الدين أو علم الكلام... ينبغي أن نعيد قراءة علم الكلام وأن نجدد البحث في مسائله بما لا يتعارض مع أصول الاعتقاد وبما ينفع الناس وهذا العصر. وأقدِّر أن البحث في الدراسات المستقبلية خطوة تعين على تحقيق هذا المبتغى، ذلك لأنها تثير البحث والنظر في قضايا من أهم ما درسه علم الكلام: مشكلة القدر، وفعل الإنسان، ومسائل السببية والتعليل والتوكل، والغيبيات، ومفهوم الزمان، والمحال... ونحوها.
 المستقبلية وعقيدة القضاء والقدر: تعارض أم تكامل؟
إذا كان الإسلام يرشد إلى اعتبار المآلات ومراعاة المستقبل، بل إلى السعي فيه إعداداً وتهيئة، فهو دين المستقبل لا الماضي، فكيف نفهم عقيدة القضاء والقدر؟ إذ قد يعترض بها على المستقبلية فيقال: كيف يزعم المسلم -أو المجتمع المسلم- أنه يريد أن يكون له أثر على المستقبل، وإنما كل شيء بقضاء الله وقدره، خيره وشره..؟ وهذه قضية أساسية طالما زلت فيها أقدام وضلت بسببها أفهام، وهي أيضا قضية ذات خطر إذا أسيء فهمها. وقد عد مفكرو الأمة أحد أسباب انحطاط المسلمين أنهم لم يفهموا عقيدة القدر فهماً صحيحاً حسناً، فاضطربت عندهم مفاهيم السببية والتعليل والعمل والسعي في الأرض.. ونحوها(38). لذا كان الإيمان بالقدر بالنسبة إلى بعض المسلمين الذين لم يفهموا عن الدين مراده -قديماً وحديثاً- عاملاً يثبط العزائم ويدفع نحو التواكل والسلبية. يجب إذن أن يزيل البحث هذا التعارض الموهوم بين عقيدة القدر وبين الدراسات المستقبلية وهدفها الذي هو التأثير بشكل أو بآخر على المستقبل القادم.
إشكال القدر: ولا ينبغي الاستهانة بهذه القضية، فقد أشار كثير من العلماء لصعوبتها، يقول ابن رشد: (هذه المسألة من أعوص المسائل الشرعية؛ وذلك أنه إذا تؤملت دلائل السمع في ذلك وجدت متعارضة، وكذلك حجج العقول)(39). إن الإشكال في القدر يكمن في التوفيق بين فعل الله –تعالى- في الوجود وبين أفعال الإنسان.
العلاقة السببية: والحقيقة أنه لا غنى عن إثبات الأسباب والقول بسببية حقيقية لا عادية، وموضوع القدر وثيق الصلة بالعلية أو بالعلاقة السببية. وكنت قد درستها وبحثتها منذ سنين، وذلك في مجال الطبيعة أساساً، فظهر لي أن مشكلة السببية الطبيعية عويصة... لكنني أميل الآن إلى القول بأن قانون العلية حقيقي، وأن للأشياء فعلاً وتأثيراً بعضها في بعض، ولا مانع من تسمية ذلك طبائع، لأن الذي يميزنا -نحن المسلمين- عن الفلاسفة الطبائعيين هو أننا لا نقول بسببية مستقلة، يقول مرعي الكرمي: (ليس في الوجود سبب يستقل بحكم، بل كل سبب فهو مفتقر إلى أمور أخر... وله موانع وعوائــق تمنع موجبه، وما ثم سبب مستقل بنفسه إلا مشيئة الله وحده)(40). ولو اطلع القارئ الكريم على كتابي: (الوجود بين مبدئي السببية والنظام)، لوجد فيه تفصيلاً حسناً لهذه القضايا.
إن عقيدة القضاء والقدر لا تضاد في شيء المستقبلية: لا في الاستشراف والتوقع، ولا في التخطيط والعمل... بل إن القدر يشير إلى أن لله –تعالى- نظاماً صارماً يسير عليه الكون، وأن فعل الإنسان من جملة هذا النظام وأداة من أدواته.
2- المستقبلية ومقاصد الشريعة
كذلك أتصور -والله تعالى أعلم- أن الدراسات المستقبلية يمكن أن تفتح لـ (علم) مقاصد الشريعة آفاقا هامة بإدخال الإشكالات الكبرى لمستقبل الإنسانية في دائرة مجال دراسته وبحثه التطبيقي. نستطيع أن ندرس قضية التلوث والحفاظ على البيئة في ضوء كلام أهل المقاصد والأصول حول الضروريات الخمس، وخصوصا منها حفظ النفس... ويمكن -مثلا- أن نضع القاعدة الآتية: لا شيء في الفقه الإسلامي يمكن أن يسوغ تدمير البيئة والإضرار بها -بما يشكل تهديدا للوجود البشري حاضراً أو مستقبلاً، يقينا أو ظنا- من ذرائع اقتصادية أو صناعية أو علمية.. فحفظ النفس وضمان استمرار الوجود البشري مقصد من أهم مقاصد الشريعة وغاية من أعظم غاياتها...ومثل هذا كثير كما تتبينه في قضايا الجينات والإراثة وعلوم الحياة، وستجد كثير من قضايا المقاصد - كتعارض المصالح والمفاسد وبناء الحكم على المصلحة المرسلة... - في هذه الدراسات مجالاً خصباً لإجالة الفكر والنظر وميداناً واسعاً للاستنباط والترجيح...
3- الفقه والمستقبل
وأخمن أيضا أن العقل الفقهي المعاصر سيستفيد بدوره أشياء كثيرة لو اتصل بالدراسات المستقبلية وخاض في بعض مواضيعها وإشكالاتها. إن عملية الاجتهاد لا تنصب على الماضي فقط ولا على الحاضر فقط، بل إنها تشمل المستقبل أيضا. وكثير من الأسئلة الفقهية ترتبط -زمنيا- بالمستقبل. وما قاعدة سد الذرائع أو فتحها -المتفرعة عن أصل اعتبار المآلات- إلا مثالاً واضحاً يؤكد هذا الالتفات الفقهي إلى الزمان الآتي وما يحويه من وقائع وأحداث.
إننا نعيش في بداية هذه الألفية الثالثة تطورات كبرى لم يعرف التاريخ البشري لها نظيرا. لا بد للفقه الإسلامي -وللفكر الإسلامي عموما- أن تكون له كلمة في هذه التطورات، ولا بد أن يقدم رأيه في مجمل هذه الأحداث والاتجاهات الاستثنائية في عمر الإنسانية كله. وهكذا فإن الاتصال بهذا العلم يسمح للفقه الإسلامي بأن يكون له حضور في قلب العصر، يناقش القضايا الحالية ويفتي فيها، ويتأمل في مشاكل المستقبل ويدرسها. وذلك بالتركيز على الجانب التطبيقي لفن المستقبلية، أي بدراسة أهم القضايا التي تشغله والتي درسها الخبراء المستقبليون وبحثوها، ومنها: العلم والتكنولوجيا، والنمو السكاني، والثورة المالية، والتكنولوجيا الحيوية، وتكنولوجيا المعلومات، والتألية والإنسان الآلي، والبيئة، والدولة القومية، والديموقراطية، والبيروقراطية، والعلاقة بين مختلف الحضارات... ولا يعني هذا أن يتتبع الفقه هذه الدراسات في كل ما تراه وتخرج به، لكن المقصود هو أن يستفيد منها في عملية الاستنباط والاجتهاد. ولهذا أرى أن اشتغال الفقه الإسلامي بالمستقبليات سيدفعه إلى الاهتمام بالكليات والقضايا الكبرى، عوض الانشغال بالجزئيات وأحكامها فقط. أيضا يسمح استيعاب الدراسات المستقبلية في الفقه الإسلامي -بفروعه المختلفة- بالبحث الواعي والمنضبط في قضايا تشهد تغيرات كبرى وتشرف على الدخول في مرحلة جديدة. وأخص من هذه القضايا ثلاثة ببعض التفصيل:
 الدولة: إن الدولة القومية نموذج حديث ظهر في أوروبا منذ حوالي أربعة قرون، ثم وقع تعميمه في جل مناطق العالم.. فحين يدرس الفقه الإسلامي المعاصر قضايا الدولة القومية ومتعلقاتها، ينبغي له أن ينتبه إلى أن هذا الشكل الدستوري من الحكم مقبل على تغيرات جذرية قد تجعله متجاوزاً.. وميزة الدراسات المستقبلية أنها ترصد -بشيء من الدقة- هذه التغيرات وتبرزها وتوضحها.. ولهذا بدأ الحديث -منذ زمن- في هذه الدراسات عن مستقبل الدولة القومية أو عن نهايتها، حيث أعيد توزيع سلطة الدولة بين وحدات أكبر من الدولة، كالاتحاد الأوروبي، ووحدات أصغر كالجهات والأقاليم والمناطق الحدودية التي بدأت تنمو اقتصاديا(41). والجدير بالذكر أن القلق على الدولة القومية وملاءمتها للتطورات الإنسانية أمر سابق على عصرنا هذا، كما هو الحال عند بوكهارت في كتابه: تأملات في التاريخ الكوني. وما يقال عن مستقبل الدولة الوطنية يقال مثله عن مستقبل الديموقراطية.
المدينة: رأيي الخاص أن التمدن الذي يعرفه العالم الإسلامي كارثة من نواح مختلفة. لقد سمحنا بتوسع المدن وتضخمها دون تخطيط ولا تفكير، حتى أصبحت لدينا مدن عملاقة نفاخر بها ونتوهم أنها مداخلنا للحداثة وعالمها. لم ندرس نظرية ابن خلدون في الصلة بين التمدن والحضارة والدين(42). ولم نتأمل أعمال تالكوت بارسونز -من أكبر علماء الاجتماع المعاصرين- حول العلاقة بين التصنيع وانهيار الأسرة، والمعروف أن أصل المدينة الحديثة هو الصناعة(43). إن التمدن -خاصة العملاق- نقيض الاجتماع البشري القائم على الأخلاق وتماسك العلاقات العائلية والإنسانية، كما أوضحت ذلك أعمال الألماني جورج سيمل، وأعمال تلامذته في مدرسة شيكاغو(44). لذلك يعتبر المفكر الفرنسي المتميز لاتوش أن المدينة الحديثة من أقوى آليات التغريب: تغريب العالم(45). والمشكلة أن ظاهرة التمدن في ازدياد مطرد، كما أن مخاطرها وسلبياتها كذلك. يقول كيندي: بعد عشرين سنة سيكون عدد سكان المدن أكبر من عدد سكان الأرياف، وهذا لأول مرة في التاريخ. لكن النمو السريع للمدن تقابله أنظمة متناهية الضعف في التغذية والصحة والتمدرس والمواصلات، مما يجعل المدن العملاقة -في العالم الثالث خاصة- مجرد تكدس هائل للبؤس الإنساني القابل للانفجار(46). والمؤسف أنه حتى الخبراء في مجال هندسة المدينة لا يفكرون في أشكال بديلة أكثر إنسانية ودفئا، فمما يقترحه بعضهم ما يسمى بـ(المدن – الأبراج)، حيث تتشكل المدينة من مجموعة من الأبراج الشاهقة التي يمكن أن يصل علوها إلى آلاف الأمتار، يتكدس فيها عدد ضخم من الناس، والظاهر أنها أسوأ من المدن الحالية(47).
الساكنة: تعتبر قضية النمو السكاني -وكذلك التناقص السكاني- وسائر ظواهرها ومتعلقاتها إحدى أهم القضايا التي تشغل العقل المستقبلي المعاصر، خصوصا الغربي. لقد ظل الغرب طيلة العقود الماضية - كما يقول الدكتور المنجرة: يخاف لدرجة الهوس أحيانا ثلاثة تحديات كبرى، وهي: الإسلام واليابان والنمو السكاني(48). يقول كيندي: إن أكبر مشكلة للدول المصنعة هو أنها إذا كانت تمثل اليوم خمس البشرية، فإنها ستمثل العشر بعد ثلاثين سنة فقط، وبذلك ستصبح الهيمنة العالمية للقيم الغربية غير مؤكدة في المستقبل(49).
لكن حدث تطور ضخم جدا في العقد الأخير خاصة، تطور فاجأ الكثيرين، ولا أراه لصالحنا، ألا وهو: بدء انهيار معدلات الخصوبة بالعالم العربي - الإسلامي أيضا، وبمجتمعات الجنوب بصفة عامة.
من جهة أخرى، فإن التطور العشوائي لعلم الإراثة وتقنيات التحكم في الجينات والاستنساخ قد يعود على البشرية كلها بخطر عظيم. فمن الدراسات الممكنة أن نعرف ماذا يقول المستقبليون في هذا الموضوع، وماذا يمكن أن يستفيد الفقه الإسلامي من هذا الحديث، وما هي كلمته وفتواه في مستقبل علم الإراثة.
ختاما: ينبغي أن تكون الغاية هي تأسيس (بحث مستقبلي) يستهدي بمقاصد الشريعة، ولا يتعارض مع العقيدة الإسلامية...وفي النهاية قد نستطيع بناء معالم ما أسميه بـ(الفقه المستقبلي)، وهو الفقه الذي يشتغل بالمستقبل وقضاياه ويقلب وجوه الفتوى بحسب الاحتمالات الممكنة ويرجح منها ويضعف...فيخرج من ضيق الفتاوى الجزئية إلى رحاب الأنظار الكلي
******************
الحواشي
      *) أكاديمي من المغرب.
1- الدراسات المستقبلية في العلاقات الدولية، لوليد عبد الحي، ص5.
2- عن مجلة:, Paris Futuribles, no 71, novembre 1983
3- قد بين الأستاذ أحمد الريسوني - في أطروحته الممتازة – قيمة المعرفة الأغلبية في العلوم الإسلامية ومشروعيتها، ومنها: الفقه والتشريع. اقرأ كتابه: نظرية التقريب والتغليب، وتطبيقاتها في العلوم الإسلامية. طبع بالمغرب ومصر. أو انظر مقالي: (مدارسة في نظرية التقريب والتغليب، لأحمد الريسوني)، مجلة إسلامية المعرفة، عدد 35.
4- راجع كتابي الذي سيصدر هذه السنة -إن شاء الله تعالى- عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي: (الوجود بين مبدئي السببية والنظام. بحث في الأساس الشرعي والنظري لاستشراف المستقبل).
5- المنار، 4/139 آل عمران.
6- مفاتيح الغيب، 30/147.
7- مفاتيح الغيب، 2/32، البقرة آية 3.
 8- أورده الونشريسي في موسوعته: المعيار المعرب، 12/56.
 9- فتح الباري، 6/519. وراجع قصة سليمان في البخاري، حديث 3424.
10- شرح تنقيح الفصول، للقرافي، ص447.
11- الموافقات، 5/177.
12- الموافقات 5/178، والغب العاقبة.
13- القاموس المبين في اصطلاحات الأصوليين، لمحمود حامد عثمان، ص192.
14- نظرية المقاصد، ص67.
15- المصطلح الأصولي عند الشاطبي، لفريد الأنصاري، ص457.
16- الموافقات، 5/178.
17- تجديد الفكر الديني في الإسلام، لمحمد إقبال، ص64-65.
18- عن كتابه: p 168- 169 Première guerre civilisationnelle.
19- راجع التفاصيل في: الموافقات، 5/182 فما بعدها.
20- الموافقات، 5/179.
21- انظر تمام الحديث في: البخاري، ك العلم، ب من ترك بعض الاختيار، 126.
22- إكمال المعلم شرح مسلم، للقاضي عياض، 4/428.
23- انظر: Eléments de sociologie religieuse, p 30- 39. L’astrologie, p 104
24- راجع حول أسلوب السيناريو: Why futures studies, p 77-78, 90 to 101.. الدراسات المستقبلية، ص94.
25- راجع أحاديث العزل في كتب الحديث، خاصة السنن الكبرى للبيهقي.
26- انظر حول بعض هذه الكتب مقال: Le passé du futur في مجلة: Futuribles, n° 204, p 65. وراجع في التاريخ العام لهذه المرحلة: نحن والمستقبل، لقسطنطين زريق.
27- Why futures studies, p 4.: Masini
28- راجع مقالي: (العلم والحرب: كيف تصبح المعرفة وسيلة للهيمنة؟) في: المجلة الثقافية. عدد 64-65.
29- Lane Jennings: The futures research directory: Organisations and periodicals, 1993-94. World Future Society.
30- يقدر الباحثون أن المعرفة الإنسانية كلها - أي منذ آدم عليه السلام – تتضاعف اليوم كل سبع أو ثمان سنوات. إن ما حصله الإنسان من المعارف إلى حدود سنة 2008م سيكون مضاعفا سنة 2015 أو 2016، راجع بحث: (دور الموارد الإنسانية في حضارة المعرفة) في كتاب:Nord/Sud: Prélude à l’ère Post-coloniale, pp 202-209
31- راجع: الدراسات المستقبلية، ص8 إلى 13. Why futures studies, p 56 to 72
32- Why futures studies, p 7.
33- Première guerre civilisationnelle, p 176.
34- انظر المقالة المهمة للأستاذ المنجرة:
Futurs du monde islamique. Etude du futur: nécessités, réalités et horizons في: Première guerre civilisationnelle, pp 165-190
35- راجع: Chapter: Multiple Scénario Analysis: Introducing uncertainty into the planing process. In: Applynig methods; p 51 to 68.
36- Le choc du futur, p 513.. توفلر أحد أبرز علماء الدراسات المستقبلية.
37- مقال: La prévision de l’avenir et la révolution scientifique et technique, p 605. in: Revue internationale des sciences sociales, no 4, 1969. Unesco, Paris.  
38- راجع: الأزمة الفكرية المعاصرة، لطه العلواني، ص23-26.
39- مناهج الأدلة في عقائد الملة، لأبي الوليد محمد بن رشد، ص104-105.
40- دفع الشبهة والغرر، ص79، وانظر أيضا: ص138.
41- راجع: فصل مستقبل الدولة القومية في: Paul Kennedy: Préparer le XXI siècle.
 وانظر حول مستقبل الشكل البيروقراطي في الإدارة: le choc du Futur, pp 144-174
وراجع مقال: الديمقراطية المهزوزة في: 1.le Monde diplomatique, Octobre 1996, p
وانظر: مقال الدكتور محمد الجابري في جريدة الاتحاد الاشتراكي: مشروع النهضة العربي وآفاق المستقبل. 26 يوليوز 1996م.
42- اقرأ: الفصل الرابع من الكتاب الأول، ص257 فما بعدها، في المقدمة.
43- انظر بالخصوص كتابه:The social system
44- Introduction aux sciences sociales, p 448 à 454.
45- اقرأ: L’occidentalisation du Monde, p97
46- , 1er chapitre. Préparer le XXI siècle
47- اقرأ عن مدن المستقبل في: Article: la ville, in: Encyclopaedia Universalis; 23/ 629.
48- الحرب الحضارية الأولى، ص52-64.
49- , 1er chapitre. Préparer le XXI siècle
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق