الجمعة، 11 مايو 2012

العقلانية المطلقة وخطرها على نمو العلم

نشرت مجلة التسامح - فكرية فصلية تصدر من مسقط - هذا المقال بالعدد  الثاني عشر:


العقلانية المطلقة وخطرها على نمو العلم 
إلياس بلكا

راجع المقال أدناه:


العقلانية المطلقة وخطرها على نمو العلم
إلياس بلكا*

أفكار سابقة في تأطير العلم
اعتقد ديدرو-وهو من أهم فلاسفة الأنوار- أن الرياضيات في عصره بلغت أوجها وانتهت، فلا توجد رياضيات ثانية ولا آفاق أخرى (1).
أما كونت فقد رفض الاعتراف بحساب الاحتمالات، وذم كل جهد علمي يبغي التعرف على أصل الكون أو تحديد المكونات الفيزيائية للنجوم. كما رفض أن تهتم الفيزياء بالبحث فيما يشكل المادة، وأدان كل نظرية في تطور الأجناس، وكل بحث أنثروبولوجي عن الأصل التاريخي للمجتمعات(2).
وكل هذا التحديد الصارم لمجالات العلم كان لاعتبارات أيديولوجية وفكرية تبغي "توجيه" المجهود العلمي، وهي في ذلك متأثرة بعصرها، وبمدى تقدم المعارف في هذا العصر، وبطبيعتها، وبالوضع العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري.
ولذلك ينبغي الحذر من وضع أطر للعلم تكون عبارة عن الحدود التي لا يسمح له بالتطور خارجها. إنه لا ينبغي صب الفكر في قنوات محددة، وتجميده في قوالب نهائية، ضمن ما يزعم أنه قيادة للعقل وحماية له من الخطأ والزلل. وقد أثبت الزمن خطأ كثير من أفكار كونت وقواعده الموجهة للبحث العلمي. ولو أخذنا -مثلاً- بنظريته الإبستيمولوجية في البيولوجيا -أو علم الأحياء-ما ظهرت "بيولوجيا الخلايا" أصلا(3)، وهي من أهم التطورات التي عرفها هذا العلم في القرن العشرين.
 الأصنام الذهنية
وقد كان لبعض المفكرين وعي بما تشكله بعض الموجهات والأفكار العقلانية من خطر على تطور المعارف، منهم "بيكون" الذي بيـَّن في كتاب "الأرجانون الجديد" كيف يصبح العقل أسيرا لنفسه، وذلك عن طريق ما أطلق عليه "أصنام العقل أو المعرفة"، ومن ذلك: التسرع في التعميم، و أثر العادة والتربية، ومشكلة اللغة المستعملة، وتقديس آراء السابقين...(4).
ويمكن أن ندرج في هذه الأصنام الفكرة التي تعتبر أن منطقاً معيناً هو القادر وحده على إنتاج المعرفة الصحيحة. وهذا مثلاً حال المنطق الأرسطي الصوري، والذي ثبتت اليوم عرقلته لنمو العلم. حتى قال برتراند راسل- أحد كبار المناطقة المعاصرين: "إن الله لم يبتل البشرية بالجوع ولا بالمرض، ولكن ابتلاها بأرسطو". وحتى لو صححنا هذا المنطق الصوري فإنه يبقى مجرد نوع أو شكل من مناطق كثيرة ومختلفة(5). وكذلك يمكن أن تشكل العادة أحيانا عائقاً لتطور المعرفة، وقديماً انفرد أبو حامد الغزالي عن كثير من المفكرين قبله بالتنبيه على أثـر العـادة -خصوصا الذهنية- في الحد من انطلاق العقل وتضييق أفقه، إذ "خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام والتخيلات بحكم إجراء العادات"(6). ولذلك اعتبر منشأ غلط الفلاسفة "أنهم تصوروا الأمور على قدر ما وجدوه وعقلوه، وما لم يألفوه قدروا استحالته"(7). ومن هذه الأصنام أيضا التقليد، أعني تقليد السابق.
ولهذا كان موقف كوندورسيه -في الموضوع- أقرب إلى الصواب من موقفي كونت وعصريِّه ديدرو... فقد بين أن العلم بحاجة إلى الحرية، وأن العقل لا يستطيع أبداً أن يصل إلى حد الإحاطة الكاملة بالطبيعة والوقوف على حدودها الأخيرة، ولذلك فالعلم بناء متواصل لا ينتهي أبداً (8).
بل إن تاريخ المعرفة يدل على أنه كثيراً ما ينشأ الإبداع على الهامش، وخارج القوالب الجامدة لما يمكن تسميته بـ"العلم الرسمي". من ذلك اكتشاف نظرية الفوضى أو العماء chaos على يد الأمريكي لورنز، وتعد هذه النظرية اليوم من أبرز الإنجازات العلمية المتأخرة، وامتد أثرها إلى جلّ العلوم، بما في ذلك العلوم الاجتماعية والإنسانية(9).
سبل أخرى إلى المعرفة، غير العقل
بل إنّ العلم يحتاج إلى قدرات إنسانية أخرى غير العقل المحض، مثل الملاحظة والتجربة والخيال الواسع والحدس... وهذا ما تفطن له الفكر الغربي اليوم والذي أعاد اكتشاف هذه النواحي في الإنسان، ويمكن أن نذكر في هذا الصدد الكتاب الكلاسيكي لإريش فروم: "اللغة المنسية: مدخل إلى فهم الأحلام والقصص والأساطير". وتبين مثلاً أن ما يقال عن العقلانية الفائقة لليونان خطأ، أو- على الأقل- غير دقيق، والصواب أن للإنسان اليوناني وجهين أحدهما عقلاني والآخر غير عقلاني... فهذا ما توصل إليه الإنجليزي دودس في كتابه الشهير: "الإغريق واللاعقلاني". إن الكون والحياة عألمان معقدان ومليئان بالألغاز، وإن إدراك الوجود من حولنا هدف على كل قدراتنا أن تتعاون من أجله. وفي هذا الإطار نحتاج أيضا إلى الوحي الذي يخبرنا عن نواح من الوجود لا نعرف عنها شيئا برغم كل ما حققه الإنسان من تقدم علمي وتقني.
 قيمـة الخيـال
ومن القضايا المهمة التي لا تزال تثير تعجب الباحثين ما عرفه عصر النهضة الأوروبي من فورة كبيرة في الاهتمام بكل ما هو "غير عقلاني"، من تنجيم وسحر وباطنية...وسائر الفنون الخفية... ويعتبر بعض الباحثين أن هذا الجو "اللاعقلاني" الذي طبع بداية النهضة كان إيجابيا؛ لأنه سمح بتجاوز الأطر التقليدية للفكر الوسيط الأوروبي، حين اعتبر أن كل شيء ممكن ووارد، وبذلك مهّد لكوبرنيكوس وكبلر...(10).
ولا شك اليوم أن النهضة الأوربية تدين في اكتشافها الخيال للحضارة الإسلامية، خاصة من خلال التصوف والآداب(11). وهذا ما يفسر السحر الذي مارسته "ألف ليلة وليلة" على المثقفين الأوروبيين، حتى إن فولتير –زعيم مفكري الأنوار– قرأها ستة عشر مرة. كما أن الأثر الإسلامي ثابت ومعروف على أهم عملين أدبيين في فجر النهضة: دون كيشوط لسرفانتس، والكوميديا الإلهية لدانتي(12).
 العلم بين الإطار العقدي والتوجيه الابستيمولوجي
إنّ الذي يبدو لي ضروريا بوصفه إطارا للعلوم ليس هو الفكر الفلسفي الذي يؤدي إلى تجميد العلم في قوالب نهائية، ولا حتى التوجيه الابستيمولوجي الغالي(13)، كما هو عند كونت مثلا... إن العلم بحاجة إلى إطار أخلاقي وعقدي، يسمح لنا بالاستفادة من منجزاته دون أن تنقلب نجاحاته إلى أسلحة خطرة ضدنا. وتخبرنا العقيدة أن أسرار الله –سبحانه- في الوجود لا تنتهي: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مددا﴾(14). وأن للخالق حِكَما في كل شيء: ﴿صُنْعَ الله الذي أتقن كل شيء﴾(15). ولذلك كان الإنسان طالب علم للأبد: ﴿وقل رب زدني علما﴾(16)، ﴿وفوق كل ذي عِلْمٍ عليم﴾(17). وفي الآثار: من قال أنا عالم فهو جاهل(18).
إن الكون كتاب مفتوح أمام الإنسان، الذي أُخبر أنه لن يكمل قراءته، لكنه مدعو للمحاولة الدائمة. وينبغي أن تكون الغاية خيِّرة تنفع البشرية ولا تضرها: ﴿وافعلوا الخير﴾(19)، ﴿ولا تعثوا في الأرض مفسدين﴾(20).
 الغيب وحدود العلم
إنّ أهمية الإطار العقدي للعلم -سوى ما تقدم- أنه يُثبِت "الغيب" بوصفه حدّاً للمعرفة. وهذه العقيدة التي بمقتضاها توجد حدود للعقل البشري، وأنه لا ينبغي له أن ينفـي عالم الغيـب أو يحكم عليه... عقيدة إيجابية، وذلك لأن الاعتقاد في الغيـب ينشـئ في الإنسان شعورا بسعة الوجود، وتنوع الموجودات، وأهمية العالم المجهـول... وهـذا له أثره في تشكيل عقلية مرنة وغير ضيقة لها قدرة على تصور الوجود بأشكال مختلفة. وبهذا تنفتح أمام العلم آفاق جديدة غير مسبوقة ولا محدودة.
ومن جهة أخرى كان الإسلام حريصاً على التمييز بين عالمي الغيب والشهادة، وتبيين حدودهما، ولذلك جاءت عقيدة الغيب -في هذا الدين- واضحة ودقيقة ومحددة، ليس لأحد أن يزيد فيها أو ينقص منها. وفي هذا حماية للعلم أيضا، حيث لاحظ بعض الدارسين-كعالم الاجتماع الفرنسي بوتول-أن الاتساع الكبير لدائرة الغيبيات والمقدسات في المجتمعات الأولى كان من عوامل عرقلة المعرفة والإبداع التقني فيها(21). ويمكن أن أُمثّل لهذا بالديانات الروحية التي ترى الروح في كل شيء من بشر وشجر وحجر... وهي روح شريرة في الأكثر، مما أدى إلى خنق كل مجهود علمي لإدراك الوجود.
إنّ القاعدة في العلم وطلب المعرفة هي حرية البحث وتعدد المناهج وتنوع الرؤى والتصورات... و لذلك فمحاولات رسم طريق محدد للعلم لا يعدوه تضرُّ به أكثر مما تنفعه. والإطار العقدي- الأخلاقي هو وحده ما يحتاجه العلم، خصوصا في هذا القرن الذي يَعِد بخير كثير، ولكنه أيضا ينذر بشر مستطير.
*************************
الهوامش:
*) باحث و أكاديمي من المغرب.
1-Emile Bréhier: Histoire de la philosophie,5/232, Cérès Editions Tunis,1944.
2- Histoire de la philosophie, 6/332-333
3 - انظر:  345/6, Histoire de la philosophie
4-Histoire de la philosophie, 4/41-42.
5 – راجع:
Marcel Boll et Jacques Reinhart: Histoire de la logique, Presses de France ,5éme édition ,1961.
6- الاقتصاد في الاعتقاد، الغزالي، ص109، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1988م.
7- المنقذ من الضلال، الغزالي، ص63، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 3، 1991م.
8- 6/232-233 Histoire de la philosophie, ويمكن أن تراجع بهذا الصدد أعمال الفرنسي غاستون باشلار.
9- راجع قصة هذا الاكتشاف وظروفه في كتاب:  
James Gleick , La théorie du chaos, Traduit de l’anglais par Christian Jeanmougin.Editions Albin Michel ,Paris 1989.
10- Robert Locqueneux, Histoire de la physique, Collection Que saisje 1er édition,1987.
11- راجع كتاب هنري كوربان عن الخيال المبدع لابن عربي.
12- انظر ما كتبه في الموضوع خوان غويتسلو في مؤلفه: الاستشراق الإسباني، ترجمه كاظم جهاد.
13- الغالي، من الغلو.
14- سورة الكهف، آية 109.
15- سورة النمل، آية 88.
16- سورة طه، آية 114.
17- سورة يوسف، آية 76.
18- رجح السيوطي أنه من كلام يحيى بن أبي كثير، من التابعين، كما في الحاوي للفتاوي، 2/45، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر، ط 1959م.
19- سورة الحج، آية 77.
20- سورة البقرة، آية 60.
21- Gaston Bouthoul, Les mentalités, Presses de France , 4 éme édition ,1966 , p 115

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق