السبت، 20 أكتوبر 2012

سلسلة التعريف بالمسيحية وفكرها (12): هيجــــل. لبشرى الجديدي.


تنبيه وتوضيح:
هذه سلسلة عروض وتقارير صغيرة  عن المسيحية: تاريخها وأعلامها ومشكلاتها.. وهي تهدف للتعرّف على هذه الديانة الكبيرة وفق المنهج الإسلامي الذي يقوم على المعرفة قبل الحكم مقتديا في ذلك بالقرآن الكريم الذي لا يكتفي بالرد على أهل الملل والنحل، بل يحسن عرض مبادئ الأديان ويشير إلى محطات مهمة من تاريخها وتحولاتها.
وهذه البحوث التي سأعرضها هنا تباعا هي لبعض طلبتي الذين درّست لهم بماستر مقارنة الأديان مادة: الفكر الديني المسيحي. وأكثر هؤلاء ما عادوا طلبة عاديين، فإن منهم أساتذة وباحثين.. لذلك أنا على يقين أنهم الآن لو استُكتبوا في هذه القضايا سيكتبون بطريقة أعمق وأفضل. لكن بحوثهم وتقاريرهم -وإن كان الغرض منها التدريب والتعليم- إلا أنها مفيدة وتلقي أضواء كافية على أهم قضايا المسيحية ورجالها.
وقد سبق أن أخذت موافقة أكثر طلبتي على نشر هذه التقارير. لكن إذا كان أحد غير موافق على ذلك، فليكتب إليَّ حتى أحذف مشاركته.



سلسلة التعريف بالمسيحية وفكرها (12):
                                                             بسم الله الرحمن الرحيم
الفـكر الديني المسيحي عـند هيجـل

إعـداد: بشرى الجـديـدي

        ولد هيجل في 27 أغسطس سنة 1770 بمدينة اشتوتجارت بإقليم Wûrtemberg بألمانيا ويرجع أصل أسرة هيجل إلى يوهان هيجل الذي هاجر إلى ألمانيا تحت اضطهاد النمساويين للبروتستانت، أما أبوه فلم يكن سوى مراقب بالضرائب. فقد أمه وهو ابن 13 من عمره، وكان لجورج فيلهيلم فريدريك هيجل أخ أصغر منه يسمى لويس ويعمل جنديا، بينما بقيت علاقته وطيدة بأخته كريستيان حتى آخر حياته.
        تربى هيجل في أسرة متوسطة الحال مهتمة بتعليم أولادها. وبعد أن ألم بأولويات التعليم عن طريق أمه انضم إلى المدرسة الرومانية في سن الخامسة، بينما أرسل إلى المدرسة الابتدائية باشتوتجارت في السابعة من عمره.
        ويبدو من مذكراته الشخصية التي كانت موضة العصر حينئذ وبدأها هو في سن الرابعة عشر، أنه قرأ كتب العلوم والفلسفة التي وصلت إلى يديه عن طريق مدرسيه حتى سن الخامسة عشر.
        وبعد ذلك تفتح ذهنه على أهم ما أيقظ ذهنه وأحالته في أواخر أيام مدرسته وهو الشعر اليوناني، وظل الشعر والفن اليونانيان مصدرا لرؤية انسجام وجودي كامل. وقال لتلاميذه فيما بعد مرة: " إن المثقف الألماني يشعر بأنه في بيته عند سماعه لاسم اليونان ".
        قام في سن السادسة عشر أيضا بعمل ملخصات للكتب الأدبية والعلمية التي كان يطالعها. والتحق هيجل بالجامعة في سن الثامنة عشر، وصار بحكم رغبة والديه بقسم الدراسات الدينية في توبينجين وهو معهد يحافظ على أنظمة الحياة في الأديرة. وتوزعت الدراسة بين موضوعات العقيدة الدينية وموضوعات الفلسفة. ويبدو أن الدراسة لم تستغرق اهتمامه بأكمله فانصرف عنها إلى قراءة روسو، واعتماد مناقشة السياسة وأفكار الثورة في النادي الذي أنشأه شيلنج. ولم يكتف هيجل في تلك الفترة بصداقة شيلنج وإنما عقد صداقة متينة مع الشاعر الألماني هيلدرين، فقرآ معا كلا من أفلاطون وسوفوكل وعمقا سويا معارفهما القديمة عن اليونان وآدابها.
        بعد أن تخرج من المعهد عمل هيجل مدرسا خاصا في أسر أرستوقراطية لمدة 6 سنوات، مما أدى إلى نضوج أفكاره وآرائه ونظراته المختزنة، إذ تعرف على فلسفات عصر التنوير في القرن 18، كما أنه شغل نفسه بموضوعات التاريخ، وكذا علوم الطبيعة وجعل يمعن أكثر فأكثر في قراءة فلسفات كل من كانط وفتشيه وشيلنج.
        وفي سنة 1801 سافر هيجل إلى بينا حيث أسندت إليه وظيفة التدريس بالجامعة. وفي سنة 1802 قام بتحرير " الصحيفة النقدية " جنبا إلى جنب مع شيلنج، والتي صارت مسرحا لفلسفة الهوية التي انتصرا لها. وحينما قصفت مدافع نابليون سنة 1806 مدينة يينا تهدمت الجامعة، وعمل هيجل مع صديقه Niethammer في تحرير صحيفة Bamberger التي كانت تسجيلية للأحداث دون تعليق.
        وفي 16 شتنبر 1811، تزوج هيجل من ماري فون توخر من أسرة عريقة في نورنبيرج التي صار فيها هيجل مدرسا بمدرستها الثانوية، ثم عمل بعد ذلك أستاذا للفلسفة بجامعة هيدلبرج. واستطاع في سن 47 أن يحتل مكانه الذي تاق للحصول عليه طيلة حياته.
        وفي يوم الأحد 13 نونبر هاجمته الكوليرا، ومات في اليوم التالي وهو راقد في غيبوبة وكان قد اختار مقبرته بجوار زولجار وفيتشه اللذين سبقاه في كرسي الفلسفة ([1]).
مــــؤلفاته ([2]):
- فينومنولوجيا الذهن:  1808.
- علم المنطق: 1812 – 1816.
- ظاهرية الفكر: 1807.
- علم الجمال: 1835- 1838.
- فلسفة الدين: 1832.
- فلسفة القانون: 1820.
- فلسفة التاريخ: 1837.
- تاريخ الفلسفة: 1833 – 1836.
- دائرة معارف العلوم الفلسفية: 1817.
- المدخل: 1809- 1812.  
المسيحـية عـند هيجـل:
        لاشك أن هيجل تأثر بشكل ظاهر بالدراسات اللاهوتية، فقد كان الدين موضع اهتمامه طوال حياته، وليس ذلك غريبا على رجل كان يعد نفسه في مطلع حياته ليكون قسيسا. ولهذا نراه في عهد شبابه يلتمس في الدين حلا للمشكلة التي شغلت ذهنه منذ حداثة سنه، وهي مشكلة التوفيق بين الأضداد. يدل عـلى ذلك مجموعة المقالات التي كتبها في العشرينيات من عمره: روح الديانة المسيحية ومصيرها – حـياة يسوع – مجمل المذهـب، والتي جمعت في كتاب: " الكـتابات اللاهـوتية المبكرة " ([3]).
        تعتبر المسيحية في تصور هيجل هي الديانة المطلقة بامتياز، ذلك أنه تركزت فيها كل الديانات السابقة، وانصهرت فيها كل أشكال التعبير الديني، فأصبح مضمونها هو الحق المطلق. والتحديد الأساسي الموجود في المسيحية هو القول، بأن الله هو الروح العيني، فما تنبأت به الديانات القديمة في شيء من الغموض، أصبح الآن واضحا تماما، والروح العيني هو وفقا للحظات الفكرة الشاملة يتمثل بأن الكلي ينشطر إلى الجزئي الذي يعود ويتحد مع الكلي في الفردي، فالكلي هو الفكرة المنطقية، وهي تظهر في التمثيل المسيحي على هيئة الله كما هو في ذاته قبل أن يخلق العالم، والخطوة الثانية هي أن يصبح الكلي جزئيا، أي أن يخلق الله العالم أو الطبيعة بما في ذلك الإنسان إلى الحد الذي يكون فيه الإنسان متناهيا، وجزءا من الطبيعة، ثم يعود الجزئي إلى الكلي في النهاية، وتلك فيما يرى هيجل هي: الكنيسة، وهي الدوائر الثلاث: الله كما هو في ذاته، والعالم، والكنيسة، تظهر في منظومة هيجل: مملكة الأب، مملكة الابن، مملكة الروح.
        إن هذا الانقسام الرمزي والالتحام ثانية في الذات الإلهية وتجلياتها هو الذي يشكل لب الدين المطلق في منظور هيجل، وهذا ما تقدمه المسيحية، ففيها تظهر فكرة الله على أنها " فكرة إله حقيقي، فكرة شخص وبمزيد من الدقة روح، وما هو من قبيل الروح يجسده التصور الديني في شكل ثالوث هو في الوقت نفسه وحدة " ([4]).
* مملكة الأب:
هنا درس طبيعة الله كما هو في ذاته قبل أن يخلق الله، فبما أنه كلي فهو الأب، والكلي يخرج الجزئي من ذاته، يعني أن الله الأب يخرج الله الابن، والجزئي يعود إلى الكلي وهو بذلك يصبح الفردي يعني أن الله هو روح القدس. فالله واحد لا ينقسم ومع ذلك فالله ثلاثة أشخاص ولكن الابن والروح ليسا مختلفين عن الأب لأن كل منهما ليس جانبا لله لكنه الألوهية كلها.
* مملكة الابن:
تتمثل في خلق الله العالم، الذي لابد أن يبتعد عن الله ثم لابد في النهاية أن يتصالح معه، لأن هذا الابتعاد يتطلب بالضرورة المصالحة والتوفيق، فلابد للإنسان أن يعود إلى الله ويتحد معه، وهذه الوحدة الجوهرية بين الله والإنسان تظهر في الدين، في عقيدة التجسيد وموت المسيح، وقيامه وصعوده. فالله ليس كليا مجردا، ولكنه يخرج إلى الجزئي ويدخل في العالم المتناهي ويصبح حيا، وفي استطاعة الوعي المألوف أن يجد في شخصية المسيح التوحيد بين الله والإنسان كحقيقة حسية مباشرة، لكن الله لا يصبح متناهيا فحسب، وإنما يسير مع التناهي إلى أقصى مداه فيذوق الموت، هكذا نجد أن السلب والآخرية والتناهي تشكل جانبا من جوهر الله نفسه، وذلك عنصر ضروري في فكرة الله بوصفه روحا، لكنه يقوم ثانية ويصعد إلى الأب، يعني أن الكل الذي أصبح جزئيا يعود إلى نفسه، وفي هذا العمل الجزئي الذي انشطر من الكلي يصبح متحدا معه ويتم التوفيق والمصالحة. وهكذا يتم التغلب على التباعد بين الله والإنسان.
* مملكة الروح:
روح القدس يوجد بالفعل في الكنيسة، وإذا كانت مملكة الأب هي الله قبل أن يخلق العالم في حين أن مملكة الابن هي الطبيعة، فإن مملكة الروح بوصفها اللحظة الثالثة، وهي لحظة الفردية، هي وحدة اللحظتين السابقتين، لأن الكنيسة هي من ناحية روح الله الخالص، ولكنها من ناحية أخرى موجودة وجودا فعليا في العالم، فهي مملكة الله على الأرض ([5]).
        خلاصة القول، إن فلسفة هيجل لو نظر إليها من ناحية محتواها، فليس ثمة فرق بينها وبين الدين بوجه عام والمسيحية بوجه خاص، حتى أنه يمكن القول إن غرض هيجل هو الدفاع عن العقيدة المسيحية وعرضها عرضا عقليا، لم يكن العقل إذن هو نقطة البداية عند هيجل، بل كان القنوت البروتستانتي والإيمان المسبق، فهو يؤمن أولا بالدين المسيحي وبعقائده إيمانا باطنيا بشهادة الروح على ما تقوله البروتستانتية، إيمانا لا أثر فيه للشك أو التردد. ومن هذه الناحية فإن فلسفة هيجل، أكبر دفاع عن العقيدة المسيحية في تاريخ الفلسفة الأوربية كلها حديثة ومعاصرة ([6]).
لائحــة المصادر
- عبد الفـتاح الديـدي: نوابـع الفكر الغربي -  هيجـل. الصفحة 9 إلى 12، دار المعارف بمصر.
- عبد الله إبراهيـم: المركزية الغربية، ص: 129، الطبعة الأولى 1997، المركز الثقافي العربي.
- إمام عبد الفتاح إمام: المنهج الجدلي عند هيجل، ص: 39- 40، دار المعارف، مصر.
- ترجمة إمام عبد الفتاح إمام: فلسفة هيجل، المجلد الثاني، الطبعة الثانية 1982، دار التنوير، بيروت.
- يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، مكتبة الدراسات الفلسفية، ص: 274، دار المعارف بمصر، الطبعة 5.

  



[1] -الفتاح الديدي: نوابع الفكر الغربي -  هيجل. الصفحة 9 إلى 12، دار المعارف بمصر.
[2] - يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، مكتبة الدراسات الفلسفية، ص: 274، دار المعارف بمصر، الطبعة 5.
  - الفتاح الديدي: نوابع الفكر الغربي -  هيجل. م. س، ص: 17.
[3] - إمام عبد الفتاح إمام: المنهج الجدلي عند هيجل، ص: 39- 40، دار المعارف، مصر.
[4] - عبد الله إبراهيم: المركزية الغربية، ص: 129، الطبعة الأولى 1997، المركز الثقافي العربي.
[5] - ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، فلسفة هيجل، المجلد الثاني، الطبعة الثانية 1982، دار التنوير، بيروت.
[6] - عبد الله إبراهيم: المركزية الغربية، مرجع سابق، ص: 135.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق