الجمعة، 19 أكتوبر 2012

العنود سعيد: أهزوجة التيه. قصة قصيرة.

هذه قصة قصيرة كتبتها العنود، وهي قاصّة واعدة ومبدعة قادمة بإذن الله.
أهزوجة التيه
العنود سعيد أحمد المهيري
يعود أبو عدي من عمله منهكا و خائر القوى، يلقي بنفسه على كرسيه الخشبي الأزلي و يغمض عينيه مرسلاً إشارةً لاسلكية إلى زوجاته الثلاث معلماً إياهن بمدى عجزه و تعبه، لعلهن يؤجلن حديثهن التافه إلى ما بعد، أو يترأفن به فيتوقفن عن الإصرار على مطالبهن اللاتي لانهاية لها.
أحياناً، يسأل نفسه لم تزوجهن، لم قرن نفسه بالهم والغم والبلاء، ولكنه يدرك اليوم بأن كل زوجةٍ يتزوجها طلقةٌ في صدر العدو، و كل طفلٍ ينجبه لغم تحت قدميه، و حتى اللحظة زرع ستة عشر ولا يزال عمله الدؤوب جاريا، فشعاره مقاومة المحتل ولو...بالإنجاب.
يغلق جفنيه  ليغط في نومٍ عميق رافعاً شعار اللاكتراث للوقت، فقد مل عد السويعات و الأيام
والسنون، أيجب أن يعيش عبداً للزمن؟ كم سمع من رفيقه أبو حسن، أو المثقف كما يحلو له أن يسميه، أن احترام الوقت و الخضوع لرغباته من سمات تكوين الإنسان المتحضر، آه كم يتمنى لو بإمكانه العدو إلى منزل أبو حسن كالطفل ليصرخ به: لن أحترم الوقت، أتفهم ذلك؟ عدني بدائياً، و لكني لن أحترم الوقت، سأستيقظ متى يحلو لي و أغفو متى يحلو لي، و ألعب مع أبنائي طوال النهار، و أشاهد الرسوم المتحركة و أحتسي الشاي، لن أسمح للزمن باستعبادي.
يستيقظ قبيل العشاء بدقائق، يغتسل و يلبس ثوبه النظيف، و يضع على رأسه شماغه الأبيض البالي، و يخرج أمام ناظري أزواجه و أبنائه. لا تتبعه خطاهم، ولا تناديه أصواتهم، فالجميع يدري إلى أين يذهب، ولكن لا أحد يجرؤ على التعليق أو إبداء رأيه، فقد اكتفوا بالتسليم بها كعادةً لأبى عدي، لا يعيش دونها ولا يطيق عنها صبراً.
يخرج الشيخ في أديم الليل وحده، يداه خلف ظهره، و المسبحة تتراقص على أصابعه السمينة كإقحوانةٍ يداعبها النسيم. يطأطئ رأسه كي يتفادى العالم و نظراته، لا يريد أن يرى وجهه أحد فيستوقفه لسلامٍ أو سؤال، فإنه على موعدٍ هام لا يحتمل عواقب تأخيره.
يصل أخيراً إلى أرضٍ قاحلةٍ، بيداءٍ ما بها قلبُ ينبض بالحياة، يبدو كل ما فيها منقرضٍ منذ حقب. يتربع على ترابها الناعم، يحبسه بين راحتيه ثم يطلق سراحه ليراه يتطاير في الهواء كالسرب المضطرب، و يتمتم و كأنما يهدئ من روع محيطه:
"قريتي، كم اشتقت إليك."
ما أن يلهج لسانه بهذه الكلمات حتى تسكن الأرض و ما عليها، و لا تسمع فيها إلا تنهداته الحزينة، و سعلته التي أدمنها إدمانه للسجائر. كم حاولوا مراراً و تكراراً أن ينقذوه من براثنها،
ولكن لن يردعه إلحاح زوجاته، أو سرطان الرئة الذي يتربص به، فقد سمع ذات مرة أن التدخين من آثار سوء الحالة النفسية، أي أن الأمر خارجٌ عن إرادته، أو هكذا أقنع نفسه على الأقل.
ينظر إلى القمر الأحمر والغيوم الهزيلة، يحدق به مطولاً منشداً تلك الأنشودة التي كانت تنشدها أمه لتنيمه.
ينشد ببقايا صوته العذب، متجاهلاً الدمع الذي راح ينهمر مدراراً على خديه المتجعدين، ينشد للقمر، والأرض، و لذكرى أمه التي ودعته منذ نعومة أظافره، ينشد ليوقد شعلات ذكراها،
 وذكرى من كانت القرية تعج بهم ذات يوم، ذكرى جدته، جارتهم أم نايف، إمام المسجد العم خليل، ورفقاء الطفولة. ولكن فقط ذكرى أمه هي التي حمل وزر إعادتها طوال السنون، فلما منّ الله عليه بابنة أراد أن يخفف من عبئه فسماها عليها، صبحية، و لكن الموت غيبها هي أيضاً،
وكأن القدر يأبى أن تخلد ذكرى تلك العجوز إلا من خلال هذه الأرض.
يتذكر وشمها المرسوم بدقة، رائحة البن التي كانت تسربلها، و ضحكتها الفرحة، يتذكر كيف كانت تقعده بحجرها و تغني له، أو تذود عنه كلما مد أبوه يديه الغليظتين ليلطمه، فقد كان، أو بالأحرى لا زال طفلها المدلل، ولن يدع الشيب برأسه يقنعه بعكس ذلك.
يتذكر والده، بلحيته السمراء الطويلة، بمشيته الغريبة وعصاه التي كان يتكأ عليها. يتذكره رجلاً غضوباً، حانقاً على من حوله، عنيفاً لا يرى الرجولة تتجسد إلا من خلال الضرب والإهانة، فلطالما أذاق زوجته المسكينة سعير صفعاته أو شدها من خصلاتها على مرأى من أطفالها الصغار. هكذا كان أبوه، لهذا لم يسم أيا من صبيته عليه، و تحمل انتقادات كبار العشيرة
والأقارب مرغماً، فهو رجلٌ لا يرضى بأن يحمل أنجاله أسماء أنصاف الرجال.
يتذكر كيف كان طفلاً صغيراً محمولاً على ظهر أمه حينما طردوا من قريتهم، يتذكر رائحة البارود النتنة بالهواء، يتذكر الغبار المتطاير من سقوط الجثث هنا وهناك، يتذكر البيوت الخاوية و النسوة المعددة. يتذكر دمع أمه الغزير تلك الليلة، وكيف وعدها بأن يعيدها للقرية في الصباح، لكنها اكتفت بالضحك عليه وعلى سذاجة الطفولة العالقة بفكره. أشرقت ألف شمسٍ وطلع ألف صباح، ولم يعد أمه للقرية بعد.
يصفر لحناً قنوطاً وكأنه يستدعى أطالس الليل لتؤنس وحدته، يغرس سبابته في الرمل ويخط بيته المفضل:
متى ننقل إلى قومٍ رحانا             ****         يكونوا في الغداة لها طحينا
ثم يمسحه دون تردد، فكم يعشق أن ينطبق هذا القول حقاً على قومه، و لكن الرجل الواقعي بداخله لا ينفك يذكره بحقيقة الحال، فالأسياد أصبحوا عبيداً، و الذليل صار عزيزاً، و العربان اليوم مجرد قربانا يقدم بالكنيست.
ينهض بكسل، يطالع الأرض من حوله و الكثابين الرملية و كأنه يودعها، ثم يدعو:
"حنانيك ربي أرجع لي ترابي."

تمر الليالي واحدةً تلو الأخرى، و تتبدل الظروف تبدل الشمس و القمر، و رغم ذلك لا يخضب أبو عدي قدميه إلا بتراب أرضه، يزورها قبيل عشائه اليومي، و كثيراً ما كان يعذبه الشوق إليها فيزورها قبيل طلوع الفجر، و كأنها حقنةً لا تنشط عضلة قلبه إلا بها.
حتى ذهب ذات فجرٍ، فرأى العمال أفواجاً، و أدوات البناء أكواماً، و الآلات و الجرافات تعيث في الأرض فساداً، فعلم أن نجاسة المحتل الصهيوني ستلون وجه القرية الحسين، و ستصير خدودها الحمر شاحبة، و شفتيها القانية باهتة، و ستمحي أثر أثمد العرب من عينيها، فمنذ الآن فصاعداً ستغدو أرض اليهود المغتصبين.
كاد أبو عدي أن يجن من هول ما رأى، فصار يشعر بدوارٍ و غثيان، و راحت قطرات العرق تتصب من جسده كأنها أسراب ظباءٍ تهرب من اللياث، فلم يستطع الوقوف و سقط فاقداً للوعي، ليستيقظ لاحقاً على فراشه و من حوله زوجاته بأعينهن الدامعة.
منذ ذلك اليوم ألمت به نوبات أرقٍ، فكان يسهر الليل يفكر بها، و كأنه قيسٌ و هي ليلاه، يفكر بحسنها و جمالها، بقمرها و شمسها، بحرها و بردها، يفكر و يفكر حتى يصدح صوت المؤذن فيقطع حبل أفكاره.
يطارده خيالٌ ما، و تحاصره جبالٌ سامقة من الأفكار، لا يعرف سبيلاً إلى عدها و إحصائها، بل يكتفي بالحملقة فيها ببلاهة.
رقاها فلم يسعد، و مكث بين حفرها و لم يسعد أيضاً، فإن بقى في الأسافل اعتراه شعوراً بالضآلة و الدونية، و إن طال الذرى أغاظه إحساساً بعدم اكتمال المهمة بعد، فما زال بعيداً عن الهدف، و لكن كيف تطأ قدماه أرضه؟ كيف؟ هذا ما كان يؤرقه.
ما رضي الرب أن يدوم هذا المخاض العسير دونما ولادة فكرةٍ جديدة، فجأة فكرة الاعتصام لتتخذ لها مهداً بفؤاد أبي عدي.  
فلما حان يوم التنفيذ و العمل، أوهم الجميع بأنه يستعد للمضي إلى كشكه بسوق البدو حيث يبيع ثيابٍ أشبه في رداءتها بالرقع، و خرج و خلفه صغاره. قبلهم و كأنه يؤدي واجباُ روتينياً ما، ثم و بدلاً من أن يسلك الطريق المعتادة إلى السوق، أتجه صوب قريته، فبدر لأحدهم و هو ذياب أن يتبعه دونما يشعره بذلك، ففعل حتى وصلا إلى أنقاض القرية، فإذا بوالده يتخذ من خيمةٍ صغيرةٍ منصوبة بوسطها مجلسه. ركض الفتى بكل ما أوتى من قوة إلى المنزل، فابلغ الجميع بما رأى، و لم تمر دقائقٍ معدودة إلا و بالعائلة بأسرها تجتمع بالخيمة الصغيرة.

سألته عائشة أولى زوجاته و أقربهن إلى نفسه:
"بربك ماذا تفعل يا أبا عدي؟ أي جنونٍ هذا؟"

تصنع الضحك ثم قال:
"جنون؟ أستغفر الله، أبات اليوم من يذود عن أرضه و وطنه مجنوناً يا أم عدي؟"

"أمازلت إلى يومك هذا تحاول الذود عنها؟ لقد ضاعت يا رجل، ضاعت، لم لا تفكر كالجميع؟ أرضى بقسمك و نصيبك، أرضى بعيشك كما هو، بعملك، أرضى و عش كما يعيش غيرك دون احتجاجٍ و اعتراض، أهذا مطلبٌ صعب يا رجل؟"

رمقها بنظرةٍ غاضبة، ثم قال بثقة:
"ما ظننت من تعرفني خيرٌ مما أعرف نفسي قد تتفوه بكلماتٍ كتلك، و لكنك للأسف يا عائشة أصبحت مثلهم، مثل الجميع، ترضين بالموجود ولا تطمحين لما هو أسمى، لا تطمحين بتحريرٍ، بوطن، بعزة، برفعة."

تلعثمت عائشة و هي تحكي قائلة:
"بالطبع أطمح، لكن ما باليد حيلة. ماذا تريدنا أن نفعل يا رجل؟ نحمل مدافع الهاون و نذهب للجهاد؟ ما خلقنا لهذا، نحن أناسٌ بسطاء، و ليس باستطاعتنا فعل شيء."

أخرج أبو عدي شيئاً من جيبه، و ألقاه أمامها، فقالت بحيرة:
"ماذا ستفعل بجواز سفرك يا أبا عدي؟ أرجوك لا ترتكب حماقة ما."

أخرج عود الثقاب و قال:
"ليس باستطاعتي أن أحمل مدفع هاون أو ألقي بالقنابل على رؤوس هؤلاء الخنازير، لكن بإمكاني فعل هذا."
حمل جواز السفر الإسرائيلي الكحلي بين أصابعه، و أضرم به النار على مرأى من الجميع. هنا أشاح بكره عدي بوجهه عنه، و كأنه يطلب من الشمس الحارقة التي لفحت وجهه بأن تبخره كقطرة الماء فلا يعود له على هذه الأرض وجود.

صرخت به عائشة:
"ماذا فعلت؟ أأصابك المس يا رجل؟ لقد حرقت للتو لقمة عيشك و عيش عيالك، حرقت ماضيهم، حرقت مستقبلهم، حرقتنا، حرقتنا."
أمسكت به من تلابيبه و راحت تضرب صدره بغضب، لكنه لم يتحرك قيد أنملة و أنتظرها حتى هدأت، فقال:
"أعلم ما فعلت للتو، لست سكيراً ولا مخموراً، لم يصبني لا مسٌ ولا جنون، بل أنا بكامل قواي العقلية، و لطالما كنت كذلك، إلا أن الشجاعة لم تؤتني إلا اليوم، و ها أنذا أمام ناظريكم أعلن التحدي."

سكت الجميع و طأطئوا رؤوسهم، و لسان حالهم يقول أبا عديٌ جن، جن، و لم يعد لنا من معيل. نظر إليهم و كأنه ينتظر منهم ردٌ ما، فلما كان جناه الصمت المطبق و الغضب المكتوم قال:
"لقد تحملت طوال هذه السنين الأمرين و أنا أرى قريتي و أرضي خاوية على عروشها، هجرها سكانها، غابت منها رائحتهم المميزة و أصواتهم البهيجة، أصبحت مجرد بيداءٍ خالية.
لقد تحملت كل هذا على أمل أن نعود لها يوماً، نعود فنعمر بها بيتاً و نبني بها حياً، نعود فنقطن بها أبد الدهر في سلامٍ و حبٍ و سكينة، لكنني فجئت عندما رأيتها تحول أمام ناظري إلى أرضٍ يهودية، فأدركت أن الاحتلال لن يمنحنا فرصةً للأمل، فلم نمنحه فرصةً للأمل هو الآخر؟ فليحلموا بتشييد قريةٍ جديدة على هذه الأرض، فليحلموا بالعيش فيها، لن أسمح لهم و لو تسبب الأمر بمقتلي. لا يا أم عدي لن أحمل حسامي و خنجري، و لن أجمع الحجارة لأقذف بها على رؤوسهم، و لكني سأنصب خيمتي و أعسكر بها أمام مرأى إسرائيل بأسرها، فليروا عزيمة الشيخ العربي الأعزل الذي يحارب لأجل أنقاض قريته."

مرت الأيام و هو رابضٌ بمكانه، كأنه صخرةٌ لا تتزعزع، الجداول من تحتها و الرياح من فوقها، لكنها لن ترضخ و لن تنكسر، بل ستظل كما هي، رغم أنف الجميع. نعم، هكذا كان أبو عدي.
تهدده الجرافة بسحقه فيضحك، يضربه الجنود حتى يدمي وجهه فيغسل جروحه الراعفة و يعود إلى خيمته، تتوسله زوجاته بالرجوع إلى المنزل فلا يلقين منه سوى الصمت و السكوت.
تقدم منه جندي حنطي البشرة ذات مرة فظنه قادمٌ لضربه، فقال له:
"لا تضربني يا ولدي، حسبي ما لقيت، أردني قتيلاً وأرحني."

هز الجندي رأسه ضاحكاً و قال بعربيةٍ لا تشوبها شائبة:
"لن نقتلك، اطمئن."

"لم؟ أنتم تخافون الله؟ أم تراعون حقوق الإنسان؟ للحق إني أستبعد الأمرين."

"لا، و لكننا أذكى من قتلك أمام أنظار العالم."

"أي عالمٍ هذا الذي تتحدث عنه؟"

"ألم ترى عدسات المصورين و الصحفيين في الخارج؟ يبدو إنك جذبت الأنظار يا عجوز."

ابتسم أبو عدي بثقة المنتصر فرد الجندي:
"لا تسعد، فنحن من نلعب و نحن من نضع القوانين هنا، أي بمعنىً آخر قد تحول هذه الصحفية الحمقاء بينك و بين الموت، و لكن ماذا يحول بينها و بينه؟ لا شيء. أيامك محدودة أيها العجوز، محدودة، و إني لا أنصحك بالمكوث هنا، مت بشرفٍ بدارك."

"بل سأموت هنا، على أرضي و ترابي، بنقبي و صحرائي، و جرافاتكم و دبابتكم و بنادقكم لن تمنعني."

بصق الجندي بوجهه ولطمه حتى أدمى أنفه، فلم ينبس أبو عدي ببنت شفة، بل أكتفى بشكره.

تقدمت منه الصحفية الأجنبية، راحت تصوره و تصور وجهه الذي تشع منه آثار الضرب، ثم طلبت من المترجم المرافق لها أن يحادث أبا عدي، فراح يسأله مختلف الأسئلة، وسط ذهول الصحافية الأجنبية التي لم تصدق مقدار عزم هذا العجوز البدوي، و راحت تناظره بإعجاب صادق و احترامٍ خالص.
و لكن قاطعت الحديث امرأة سوداءً غاضبة كانت تعدو نحوهم وكأنها ستلتهم لشدة حنقها، فقد تجاوزت الجنود و الحراس ودخلت حتى صارت قاب قوسين أو أدنى من أبي عدي، فصرخت بوجهه بالإنجليزية وهي تتباكى:
"أيها العربي القذر، انظر ماذا فعلت. لقد حرمتنا من تشييد منزلنا، حرمتنا من العيش على أرضنا، لقد حطمت مركب آمالنا، صدعت جدران خواطرنا، إنك لإرهابيٌ لئيم."

ثم أنقضت عليه لتضربه لولا أن أمسك بها المترجم و دفعها بعيداً، و بقى صدها صوتها و هي تصرخ:
"أقتلوه، أقتلوا هذا العربي الوسخ، أشنقوه، لقد دمر حياتنا و أحالها جحيماً، لقد أنتزع الفرحة من قلوبنا، أقتلوه. سنبني بيتنا ولو على قبرك أيها الإرهابي، على قبرك. "

هكذا كان الصهاينة يتحينون الفرص لخداع العالم، فيظهرون بمظهر الحملان و هم في الحقيقة ذئاب، و يذرفون دموع التماسيح و كأنهم من سلبت حقوقه و شرد شعبه و قتل أبنائه و سفك دمه، و يلصقون أبشع التهم و أعراها من الصحة بالعرب، ولا يبخلون عليهم بأفواجٍ من النعوت القذرة و الغير مهذبة. و قد كان أبا عدي يعرف كل هذا عنهم تمام المعرفة، فلم يغضبه فعلها ولا كلماتها، و لم يتبادل معها الشتائم أو يعتدي عليها بالضرب، بل توجه إلى المترجم قائلاً:
"قل لها بأن تنقل كل فعلٍ و كلمة قامت بها هذه المستوطنة، قل لها بأن تنقل الظلم الذي نتعرض له. قل لها بأننا نحن العرب تملؤنا الكرامة و الكبرياء و العنفوان، و إننا نفضل الموت على الهزيمة، و نفضل عناق التراب على عناق الذل، نعم، هكذا نحن العرب. قل لها بأننا عزيزي النفس، أحراراً لا نستعبد، نقاتل حتى الرمق الأخير و نجزل العطاء حتى تصفر يدانا.
قل لها ما قاله عمرو بن كلثوم:
متى ننقل إلى قومٍ رحانا                                            يكونوا في الغداة لها طحينا
هذا صحيح، فلن ترى على وجه الأرض كشجاعة العرب أو إقدامهم، أو عزيمتهم و صلابتهم، أو أخلاقهم السامية و آدابهم الجمة، قلها لها هذا، فإني أريد للعالم أن يعرف من هم العرب. "

مرت الأيام طوالاً عليه، قلت زيارات أبنائه و زوجاته، و كأنهم يأسوا من شفاء خبله، رحلت الصحفية و هجرت قريته العدسات المصورة، زادت هجمات المستوطنين الضارية، و كم وجد نفسه يقابل ركلاتهم و لكماتهم دون حامٍ أو مدافعٍ عنه، و لكن الصخرة لا تكترث لصفير الريح ولا تلتفت صوب خرير الماء، بل تظل قابعةً بمكانها.
لم ييأس، و لم يشبعه الضرب الذي تلقاه، و لم يرهبه التهديد و الوعيد. لا زال يرى في الغد ولو بصيصاً من الأمل، رغم تمسكه بواقعيته إلا أنه لا يزال يرى بشخصه نداً لإسرائيل، لا لن يطردهم من أراضي العرب، و لكنه سيطردهم من أرضه و قريته.

ذات ليلة تقدم منه رجلٌ ملثم بكوفية ، مما يبدو من وجهه تبين لأبي عدي سمار بشرته، فتيقن بأنه عربي، و دعاه إلى خيمته.
أتى هذا الرجل الغامض فوقف أمام أبا عدي، فحياه العجوز بترحاب و دعاه إلى الجلوس، لكن ضيفه هذا لم يكلف نفسه عناء الاستماع إليه، و سارع بإخراجه سكينه، فوضعها على رقبة أبا عدي و قال:
"ألم تتذكرني يا عجوز؟"

"لا والله."

كشف الرجل عن وجهه اللثام فرأى أبا عدي إنه ذات الجندي الذي لطمه و بصق بوجهه، فقال له:
"نعم، لقد عرفتك الآن."

لكمه الجندي بعنف ثم قال:
"جيد، و الآن حدق بوجهي جيداً فهو آخر ما سترى يا عجوز. لقد أنذرتك، نحن من نلعب اللعبة
و نحن من نسن القوانين، و لكنك لم تفهم. حاولت أن أفهمك بأنك تتحدى أقوى و أخطر كيانٍ بالعالم، حاولت أن أفهمك بأنك تتحدى إسرائيل، و لكنك لعميك لم ترى حقيقتها، إنها السيدة،
و أنتم الجواري، ولا تنكر هذا الواقع، فشتان بين ذوي النسب أحفاد هاجر، و بين الأذلة أحفاد سارة، شتان بين شعب الله المختار و بين الإرهابيون المحمديون الضالون، شتان بين من يعود لأرضه الموعودة و بين من يحاول عبثاً انتزاعها من أيدي أهلها.
يجب أن تفهم أيها العجوز أن الغلبة لنا، لنا، نحن الأسياد، نحن الأعزة، نحن الأحق بهذا التراب
و هذه الأرض، و لن يغير من موقفنا بتاتاً قبولكم أو رفضكم، سنقتلكم، سنشردكم، سنذيقكم الويل، سنعذبكم بكل الطرق، سنحرق أفئدتكم قبل جلودكم. و الآن، الوداع، فلتخلد بجهنم."

و على الفور، و كأنما ينحر شاةً، مرر سكينه الحاد على رقبة أبا عدي ليتدحرج رأسه على ذات التراب الذي عاش و مات عاشقاً له، فتحقق ما كان يصبو له، لاقى المنية هنا، على أرضه، بقريته، بنقبه و صحرائه، مات و لكنه لم يخسر شيئاً حقاً، مات ولكن قلبه لا يزال ينبض:
حنانيك ربي أرجع لي ترابي.
 فهل يعود ترابك يوماً يا أبا عدي؟؟؟




 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق