الاثنين، 17 ديسمبر 2012

سلسلة التعريف بالمسيحية وفكرها (17):الغنوصية، سيد عبد الله ولد سيد محمد.

الغنوصية
إعداد :سيد عبد الله ولد سيد محمد                                                   
                                                                      تقديم:
 الغنوصية" ( أو " الأدرية " وتترجم للعربية ايضا بـ " العِرْفانِيَّة" ) لا تزال مصطلحا غامضا، على الرغم من انها ولعقدين من الزمن اصبحت دارجة بكثرة في مفردات المجتمع المعاصر ، فالكلمة "Gnosis" مشتقة من اليونانية ومفهومة ضمنيا بـ" معرفة " او "فعل التعرف " ولدى سماعها لأول وهلة، فانها احيانا تخلط خطئا مع مصطلح آخر دارج ايضا من نفس الجذر ولكن لها معنى معاكس ألا وهي " agnostic "   " أي اللا أدري "، وتعنى حرفيا " عدم المعرفة ". واللغة اليونانية تميز بين، المعرفة العقلانية والمنطقية، وتميزها عن المعرفة المكتسبة بالخبرة و الإدراك ، فهذه المعرفة الأخيرة المكتسبة من الفهم الداخلي والخبرة الشخصية هي التي تشكل الغنوصية.
في القرن الأول من النصرانية فإن المصطلح "Gnostic " " أدري " أتى ليشير الى مجموعة ابتداعية مختلفة ومتنوعة وجديدة من المجتمع النصراني. وقد ظهرت بين التابعين الأوائل للنصرانية حيث كانت جماعات تميز نفسها عن الأسرة الكبيرة للكنيسة من خلال الإدعاء  أنه ليس بالإيمان بالمسيح ورسالته فقط ، لكن من خلال " شهادة خاصة " او خبرة إلهامية بالإله. وقد كانت هذه الخبرة  أو الغنوصية هي التي تميز التابع الحقيقي للمسيح، وهذا ما أكدوا عليه.أما Stephan Hoeller ستيفن هولر فيشرح ذلك ويقول ان هؤلاء النصارى لديهم " اقتناع كامل    بأنه ممكن للإنسان  أن يلج الى المعرفة الشخصية والمطلقة للحقيقة الأصيلة للوجود، و علاوة على ذلك ، فإن الوصول الى مثل هذه المعرفة يجب أن يحقق دائما الإنجاز الأسمى من الحياة الإنسانية."
 إن نظرة تاريخية عامة على الكنيسة الأولية في القرن الأول والنصف من النصرانيةالفترة حيث وجدنا " الغنوصيين " المسيحيين لأول مرة – لم تكن هناك فكرة واحدة محددة ومقبولة عن النصرانية قد تشكلت بعد-. وخلال هذه الفترة التي كانت تتشكل فيها النصرانية كانت الغنوصية واحدة من بين عدة تيارات تتحرك في عمق ماء الدين الجديد ، أما النصرانية بشكلها النهائي والحضارة الغربية كانوا غير مستقرين ومحددين بعد في هذه الفترة الأولية. والغنوصية كانت واحدة من البذور الأولية التي أثرت في تشكيل مصيرها.
            المبحث  الأول: جذور الفكر الغنوصي
تتسم الغنوصية بتعدد المصادر، وتعدُّد المكونات الثقافية وانعدام التجانـس ، ومن أهـم المكونات، ولعله أهمها  التراث الديني اليهودي.  والذى كان له بُعداً حلولياً كمونياً قوياً في اليهودية جعل لها قابلية عالية لإفراز الفكر الغنوصي. ويجب أن نتذكر أن اليهودية التي نتحدث عنها، وهي يهودية ما قبل الهيكل، لم تكن مفاهيمها أو عقائدها الدينية قد تبلورت بعد، بل كانت هذه المفاهيم تحتوي على أفكار ثنوية وتعددية كثيرة.  
وثمة نصوص عديدة في العهد القديم يمكن تفسيرها تفسيراً غنوصياً بكل بساطة. وقد كان الغنوصيون اليهود يشيرون إلى الإصحاح الأول في سفر التكوين (وخصوصاً الفقرة رقم 27 "فخلق الإله الإنسان على صورته، على صورة الإله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم")، وإلى حزقيال 1/26 ( "وعلى شبْه العرش شبْهٌ كمنظر إنسان عليه من فوق")، كما أن كتب الرؤى (أبوكاليبس) اليهودية دعَّمت الاتجاهات الغنوصية بتقسيمها الزمان وبكل حدة إلى زمان الفساد الحاضر وزمان الخير المستقبل، وبرؤيتها للتاريخ باعتباره ساحة صراع شرس بين قوى الخير وقوى الشر ، كما أن النزعة الحلولية الكمونية القوية في هذه الكتب مهَّدت الجو لظهور الغنوصية ، فعلى سبيل المثال : جاء في كتاب حكمة سليمان أن روح الإله (النيوما) توجد في كل الأشياء ، وقد انتشرت كتب الرؤى في نهايات الألف الأخير قبل الميلاد، وكثير من عناصرها دخل الفكر الغنوصي.
ويذهب بعض الدارسين إلى وجود غنوصية يهودية قديمة قبل ظهور الغنوصية في العصر المسيحي (واستمر ذلك حتى العصر الحديث بعد أن دخلت التيار الغنوصي الأشمل). وفي كتابات فيلون السكندري ردود على بعض المهرطقين في عصره يُفهَم منها وجود اتجاهات غنوصية. وثمة نظرية تذهب إلى أن جماعات البحر الميت أو جماعات قمران (مثل الأسينيين) هي جماعات غنوصية مترهبنة.
كما تُعَدُّ كتابات فيلون نفسها من مصادر الفكر الغنوصي إذ حاول المزج بين الفكر الديني اليهودي والفكر الإغريقي ، ويبدو أن فيلون لم يكن وحيداً في محاولته هذه، فقد نشأ تراث كامل بين يهود الإسكندرية يهدف إلى التوفيق بين الحضارتين،وهذا يظهر في الترجمة السبعينية للعهد القديم التي كانت تترجم المفاهيم اليهودية القومية بمفاهيم يونانية عالمية (وكانت كلمة «نيفش» العبرية، أي «نفس»، تُترجَم إلى كلمة «نيوما»، ومعناها «روح»، التي استُخدمت في الكتابات الغنوصية فيما بعد). ومن الأمثلة الأخرى، مسرحية حزقيال تراجيكوس، وهو الكاتب المسرحي اليهودي السكندري الذي حاول هو الآخر المزاوجة بين التراثين اليهودي واليوناني وانتهى إلى تَصوُّر غنوصي. ففي مسرحيته المسماة «الخروج»، يرى موسى الإله في رؤياه جالساً على عرشه وعن يمينه رجل ، وحينما يدخل موسى، يدعوه الإله ليجلس عن يساره ، وقد كان هذا الرجل هو الآدم قدمون أو الأنثروبوس أو الإنسان الأول.
وقد انتشرت الحركة الغنوصية في المراكز التجارية الكوزموبوليتانية، مثل أنطاكية والإسكندرية ومدن آسيا الصغرى، وهي مدن كانت توجد فيها عبادات هجينة مختلطة وجماعات يهودية تتفاوت في حجمها ، وداخل هذه المدن، اختلطت الجماهير اليهودية بالنخبة الإغريقية الخالصة أو النخبة المتأغرقة ذات الأصول الشرقية، واختلط الشرق بالغرب.
             المبحث الثاني :المعتقدات الغنوصية
قد اعتمدت الغنوصيّة في تعاليمها على الكثير من الأساطير لشرح نشوء العالم المادي مِن الإله الواحد المجهول ،ومن أهم هذه التعاليم:
- أن كائنات إلهيّة انبثقت عن الله الواحد وهي ذات كيان أدنى منهُ، آخر هذه الكائنات كانت "الحكمة" التي كانت تريد رؤية الله الذي لا يُرى، فجرَّت على نفسها عقوبة من إله أدنى شرير هو الكائن الوسيط المسؤول عن خلق العالم المادي والبشر، لكن الله أراد أن يفدي البشر الماديين فنفخ فيهم شعلة إلهية فالإله الشرير هو إذاً إله العهد القديم الذي كان يريد دائماً إبقاء الإنسانية في عبودية الجهل، كي لا تستطيع بلوغ المعرفة، على هذا تشهد بعض فقرات الكتاب المقدس كطرد آدم وحواء من الفردوس والطوفان..
 - أن الخلاص هو في تعلّم الأسرار الخفية ومعرفة أصل الروح ومصدرها الحقيقي
ومعتقدها الثنوي يجعل الروح الخيّرة في مواجهة الجسد الشرير، وفي حالة تعارض دائم مع المادة الفاسدة ، والأرواح وحدها تمتلك المعرفة، وهي قد خلصت بالطبيعة، وهذا يستتبع كُرهاً للدنيا المادية ودعوة دائمة إلى التقشف. ،
- الإله الحقيقي هو إله يخفى عن عيون البشر ويتجلى بإله سفلي هو خالق العالم، وهي ترفض إله العهد القديم الذي تعتبره فاطراً شيطانياً، شريراً مسئولا عن مثالب العالم.
 - تعتبر المسيح معلماً روحياً مكلفاً بقيادة البشرية نحو معرفة الله الحقيقي الخفي. والمسيح حسب الغنوصية ليس ابن إله العهد القديم، بل هو من ’شيث‘، الابن الثالث     . لآدم الذي ينتمي إلى المعبودة الأنثوية  باربيل     
- أن البشر  حرفياً، مُحاصرون في أجسادهم، كما في قول يسوع مُخاطباً يهوذا: "هذا يُغلّفني" حسبما تُشير مخطوطة  إنجيل يهوذا  الإسخريوطي .   
-أن  باستطاعة الناس إنقاذ أنفسهم من الإثم بالوصول إلى المعرفة الروحية، كما اعتقد معظمهم بوجود كائن علوي بعيد غير معروف  وقد خلق العالم، الذي كانت تحكمه أرواح شريرة ـ في اعتقادهم ـ شيطان تابع، غير طبيعي، يسمى ديميرج.   --أن الأفراد المتميزين يملكون ومضة سماوية حبيسة في أجسادهم المادية. ويمكن من خلال الغنوصية تحرير الومضة السماوية من العالم المؤسس على الشر ومزجها بالكائن المتميز.
- اعتقد معظم النصارى الغنوصيين أن المسيح كان رسولاً من السماء، وجلب المعرفة المقدسة للنصارى العاديين، وادعوا أن المسيح حل مؤقتًا في جسم بشري، لذا فهم ينفون موته وبعثه كما نص على ذلك العهد الجديد.
- تستخدم الغنوصية مفردات الحلولية الكمونية الواحدية وصورها المجازية (الجسد ـ الجنس ـ الرحم ـ الأرض) لإدراك العالم.
ـ  يخلق الإله العالم من مادة قديمة.
 ـ  تتم عملية الخلق نتيجة تصادم ضخم أو لقاء جنسي بين عنصرين أساسيين.
  ـ  الخلق يتضمن عناصر من الغريب واللامعقول.
  ـ  التغير والظلام والطمي تنتج الحياة.
  ـ  الثعبان والمخلوقات الهجين هي رمز الطاقة ويتم تأليهها.
  ـ  العالم جسد يجدد نفسه دائماً، ومن هنا العود الأبدي.
  ـ  عقيدة التقابل بين السماء والأرض والعرفان الكوني كما هو في الأعالي  كذلك في هذا العالم.
- قسّم الغنوصيون البشر إلى طبقتين: الروحيون الذين هم نفوس مستنيرة والجسديون أو الماديون وهم عبيد المادة. وأضاف بعض الغنوصيين فئة النفسانيين وهم طبقة متوسطة.
 - أرجع الغنوصيون اكتسابهم للمعرفة السرية بواسطة المثابرة على استقامة الأخلاق والاستنارة الفجائية التي تمكنهم من إدراك طريق الله والكون وذواتهم. وقالوا إن هكذا معرفة تحرر البشر وتكشف لهم أسرار الحق.
 - حصر الغنوصيون فهم الواقع بهم. فقالت جماعة منهم هي جماعة ناسن (200م): "إننا وحدنا نعرف أسرار الروح غير المنطوق بها".
خاتمة:
 رغم ان التفاصيل التاريخية واللاهوتية كثيرة التعقيد وبعيدة من ان تقدم شرحا واضحا للغنوصية. إلا انه  نستطيع ان نقول ان المد التاريخي قد انقلب على الغنوصية في منتصف القرن الثاني. ولم يعد هناك غنوصي بعد فلنتينوس يستطيع ان يبرز امام الكنيسة الكبيرة.إن الغنوصية تشدد على مفهوم التجربة الشخصية، و متابعة انتاج المزيد من الأناجيل الجديدة والتقشف والتناقض والتحرر وكل هذا قوبل بالمزيد من التتشكك. ففي 180 ميلادي قام إرينيوس أسقف ليون بنشر اول هجوم له على هرطقة الغنوصية، وهو عمل تسبب في القرن التالي بعنف متزايد ضد الغنوصية من قبل آباء الكنيسة.
دخل الغنوصيون في حوار عنيف مع معارضيهم من المسيحيين الأرثوذوكسيين حول العلاقة بين العهدين القديم والجديد. فبينما تعلق الآباء الأرثوذوكس بوحدة العلاقة بين العهدين أبرز الغنوصيون المتناقضات بين ناموس العهد القديم والأناجيل. كما أخذ الأرثوذوكسيون على الغنوصية إيمانها بالقضاء والقدر وبالعقيدة الثنائية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق