الأربعاء، 11 يوليو 2012

مادة الثقافة الإسلامية ودورها في تعزيز قيم الوسطية بين الطلاب (3).

الثقافة الإسلامية، وقيم  التربية والوسطية
تأليف: إلياس بلكا
خطأ غلاة  العلمانيين:
     يخبرنا التاريخ بأنه يستحيل تجاوز الإسلام في أي عملية إصلاح أو تنمية أو نهضة. وكثير من  المفكرين العرب غير واعين بهذه الحقيقة، لذلك يدعون إلى ما يسمونه "ثورة دينية" في العالم الإسلامي، وخلاصتها هو الدعوة لإصلاح الإسلام، كما جرى ذلك في المسيحية. لقد وجدت أوربا أن الكنيسة عائق كبير في طريق نهضتها، فكان الحل هو الثورة على الكاثوليكية، والتي أطلق عليها فيما بعد:  الإصلاح الديني.
     ويقترح الفكر البشري – والعلماني خصوصا – مجموعة من الآليات لإصلاح الأديان، ومعظمها يعود إلى زمن الإصلاح المسيحي، وأهم هذه الآليات وأخطرها – خصوصا بالنسبة للإسلام الذي لا يعرف مشكلة مصداقية المصادر التي تعرفها المسيحية -، هو: آلية التأويل، أو سلاح التأويل.. لأنه ينتهي بإفراغ الحقائق الدينية من مضامينها المقصودة وتعويضها بأفكار بشرية صرفة.
      لكن المقارنة على مستوى المضامين والاعتقادات بين كلا من الدينين الإسلامي والمسيحي، وعلى مستوى الطقوس والعادات، وكذا على مستوى الممارسات التاريخية والعمليـة ...تؤكد أنه  لا يجوز الحديث عن إصلاح إسلامي يماثل الإصلاح المسيحي، وأنه لا يمكن تكرار درس التجربة الأوربية في آخر العصر الوسيط وبداية النهضة. إن الإسلام ديانة أكثر عقلانية من المسيحية بمراحل، ولا توجد في القرآن أخطاء علمية كما في الكتاب المقدس، وهو ما دلّل عليه بوضوح الفرنسي موريس بوكاي، لذلك لم يصطدم الإسلام بالعلم كما اصطدمت الكنيسة بالفلك خاصة، ولا توجد عندنا طبقة إكليروس ولا صكوك غفران ولا رهبانية.. إن هذه المقارنة الموضوعية تصحح لأكثرية من المثقفين الغربيين، ولكثير من زملائهم العرب، وهما كبيرا ومنتشرا وخطيرا، وهو أن على الإسلام – مثله مثل المسيحية – إحداث ثورته الخاصة، وإطلاق إصلاح ديني هو – إلى حد بعيد – نسخة أخرى ومتأخرة للإصلاح المسيحي الذي قاده لوثر وكالفن. إن خطأ هؤلاء المفكرين العرب هو حين اعتقدوا في تماثل النسقين الإسلامي والمسيحي.
     ولعل الكثيرين من هؤلاء لا يعرفون أنه من المحتمل جدا أن تكون أصول الإصلاح المسيحي البروتستانتي إسلامية. أي أن هذه الثورة الدينية التي  يطالب بها هؤلاء موجودة أصلا بين أيديهم، فهي نفسها الإسلام الخالد والمتجدد.. وكنت بدأت بحثا في هذا الموضوع لم أنهه بعد، وسأنشر إن شاء الله أهم نتائجه على صفحات المساء.
الإصلاح بالدين، لا إصلاح الدين:
     وإذا كانت فكرة أو إيديولوجية الإصلاح الديني لا تتلاءم مع الإسلام باعتباره ديانة خاصة، ولا مع التجربة التاريخية الإسلامية .. فإن هذا الدين يحتوي على إمكانيات ضخمة للنهوض الحضاري يلخصها مفهوم إسلامي أصيل هو: التجديد، وهو مفهوم قادر على الدفع  بالأمة إلى الأحسن دون أن تضطر إلى إلغاء هويتها الدينية الراسخة.
     وتشير التجارب التاريخية للأمة جميعا إلى أن الإصلاح يكون بالإسلام، فلا محل للحديث عن إصلاح الإسلام.. وإنه لأمر مثير للإعجاب والتساؤل يشبه " القانون " التاريخي أو الاجتماعي:  قانون خاص بالشعوب الإسلامية وبالتاريخ الإسلامي، وهو أن تاريخ الأمة يدل على أنها لم تعرف ظاهرة إصلاح الدين، كأوربا، وإنما لجأت دائما إلى سبيل الإصلاح بالدين. ويعلل الفاضل ابن عاشور هذه المكانة الاستثنائية للدين في الأمة، فيقول في رسالته الرائعة " روح الحضارة الإسلامية" :"هذا راجع إلى موقع العقيدة الدينية من المقومات لكيان الأمة، فإن موقع العقيدة الدينية من مقومات الكيان الاجتماعي للأمة الإسلامية، باعتبارها مجتمعا دينيا بالمعنى الأخص، وهو موقع رئيس جوهري، كان فيه الدين العامل الأول المباشر لصنع المجتمع، وكان هو الحافز لنهضته الفكرية، والممهد له طريق الاتصال بما أنتجت الأفكار والصنائع.. فبالدين فكّر، وبالدين تحضّر، وبالدين أنتج آثار حضارته، وبالدين أقام الدولة الصائنة للمجتمع وحضارته. وكذلك استمرت مظاهر الحضارة متصلة في نفسه بالدين، وعوامل الدين فعالة في مظاهر الحضارة. فكان وضع الدين على صورته المستقيمة قاضيا بأن يتناول به المسلم الحضارة متلقيا ومنشئا ومتصرفا.."
      إن من خصوصيات التجربة الإسلامية هو أن الإصلاح فيها كان يتم من خلال الإسلام وليس على حسابه، ويجوز أن أرفع هذا إلى مستوى القاعدة التاريخية بحيث يمكن اعتبارها " سنة " بالمعنى القرآني لكلمة " السنن " .
      لا مندوحة عن فهم هذا القانون، والوعي بأن قياس الإسلام على المسيحية خطأ علمي بالغ.. خطأ مسئول عن كثير من الاضطراب الفكري الحاصل في عالمنا العربي منذ حوالي قرن من الزمان.
    أهمية القيم اليوم.
     إن أساس القيم هو المعتقدات والأفكار. وقد توصل العالم في العقدين الأخيرين خاصة إلى خطورة قضية القيم، فلا نهضة ولا قوة ولا نجاح بدون قيم. لقد توصلت العلوم الاجتماعية إلى أن دعوى الحياد التام خطأ صرف، فلابد أن يقوم  منهج البحث الاجتماعي على أساس من القيم، وليس في هذا غضاضة، كما لا يقدح ذلك في الموضوعية العلمية.
     أما عالم الاقتصاد فقد اكتشف قيمة القيم خاصة مع الانهيار المالي الأخير، إذ كان من أهم أسبابه جشع الأبناك وفوضى البورصة وكذب المدراء.. حتى عاد علماء الاقتصاد يتحدثون عن ضرورة استحضار القيم في عالم المال والأعمال. وهذا أمر عجيب حقا، إذ قبل عقد من الزمن فقط كان مثل هذا الحديث هرطقة وأيّ هرطقة.
    والحق أننا مهما حاولنا أن نفكر في القيم فنستنبطها أو نضعها.. فسنجد أنها وثيقة الصلة بالدين. إن الأديان – خاصة السماوية منها- تحتوي على قيم حضارية عديدة، حتى إن بعض الدارسين من الغرب يعتبرون أن الأخلاق هي جوهر المسيحية. تقول الأستاذة إقبال: تبيّن الباحثون والمفكرون أن "التنمية الحالية عملية تقنية واقتصادية فجة أيّ مجرّد ضمّ كمّ إلى كم.. (لكن) مع بروز عدد وافر من الأدبيات النقدية أعيد الاعتبار إلى القيم الإنسانية والحضارية في مجال التنمية، وذلك بهدف أنسنة العملية التنموية. وفي هذا الإطار يلعب الخطاب الديني دورا مهما في تطوير رؤية جديدة للواقع تساعد على صياغة قاعدة جديدة للعمل الإنساني وتساهم في التحول التدريجي نحو أنموذج جديد ينطوي على مفاهيم وقيم جديدة. هذا الأنموذج الجديد هو حصيلة المقاربة الدينية بعلاقة الفرد بالكون القديمة والعميقة."
فشل الجامعة  " العلمانية" في العالم العربي:
     وأكثر جامعاتنا في العالم العربي علمانية، بمعنى أنها أقصت تماما كل حضور للدين وللتربية الدينية  من رحابها، لذلك لا تكاد تفرق بين جامعة مغاربية وأخرى فرنسية مثلا، فالمناهج والمضامين تتشابه كثيرا. لذلك لابد من التركيز على رفد التعليم الجامعي بجرعة كافية من الثقافة الدينية. يقول طه العلواني: "يوم فتحت الجامعات في عالمنا الإسلامي كان ذلك تقليدا وتكريسا لحالة التبعية الفكرية الثقافية للغرب في الشكل والمحتوى.." لذلك فشلت في أداء مهمتها في أن تكون قاطرة للتنمية والنهضة، بل غدت أكثر "الجامعات والمعاهد ومراكز البحث في عالمنا الإسلامي، هي بوضعها الحالي عقبة.. وهي اليوم بمشاكلها وقضاياها معضلة كان ينبغي أن تكون حلا."
النتيجة:
       إن فرصتنا في عالمنا العربي كبيرة، إذ بين أيدينا دين راق هو الإسلام، وهو وراء كل القيم الجميلة في حضارتنا من: علم وفن وجمال ونظافة وتسامح وصدق وتفكير وتدبر وتعاون وإنسانية ورحمة  وسعي في الأرض وعمران لها وقوة وفتوة.. 
وإن الإسلام ليس فقط ضحية الغلو فيه، بل كذلك ضحية الغلو عنه، ولذلك قال المناوي: "دين الله بين الغالي والجافي، وخير الناس النميط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ولم يلحقوا بغلو المعتدين."
     وحلّ هذا الوضع يكمن في اعتراف التيارات العلمانية المتطرفة في الأمة بأن الإسلام هو المرجعية الأعلى للشعوب العربية والإسلامية، وأن تدرك أن نهضتنا لا يمكن إلا أن تقوم بدعم من الدين، لا بإلغائه. وإذا كان إصلاح الدين شرطا للنهضة الأوربية، فإن الإصلاح بالدين هو شرط نهضتنا العربية- الإسلامية. لذلك يجب أن نراعي هذا الدين في مناهج التعليم ومضامين التدريس، بمعنى أنه لا بد من توعية ناشئتنا وشبابنا بالإسلام وتربيتهم على مثله العظيمة. وهذا ما لا يعارضه التيار العلماني المعتدل الذي يعترف بمكانة خاصة للإسلام في حياة الأمة، ويبقى النقاش  قائما ومستمرا حول حدود هذه المكانة ووظيفتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق