الأربعاء، 11 يوليو 2012

مادة الثقافة الإسلامية ودورها في تعزيز قيم الوسطية بين الطلاب (6).

الثقافة الإسلامية، وقيم  التربية والوسطية
تأليف: إلياس بلكا
    اقتراح نموذج لبرنامج الثقافة الإسلامية:
     لعله توضح الآن أنه لا يمكن أن نقدم للطالب ثقافة إسلامية في حدودها الدنيا في فصل دراسي واحد، ولا في كتاب واحد. لذلك أتصور أن مقرر المادة يمكن أن يكون في أربعة أجزاء:
     الكتاب الأول: التاريخ الإسلامي.
    التاريخ جزء من هوية الإنسان، ومكوّن رئيس من مكوناتها، إلى جوار الدين واللغة. ولا يمكن فصل حاضر الأمة ومستقبلها عن ماضيها. لذلك من حق الطالب أن يعرف تاريخه، لا ليعتز به فقط، بل أيضا ليستفيد منه في حركته الحاضرة. ولا أعني أن ندرّس لطلابنا تفاصيل التاريخ الإسلامي، بل منعطفاته الكبرى، وما فيه من انتصارات وانكسارات..
    وهذا يقتضي البداية بجرد عام لأحوال العالم المتحضر عند ظهور الإسلام، حتى يدرك الطالب أن هذا الدين أنقذ البشرية فعلا من انهيار محتم.
     ثم ينعطف الدرس إلى السيرة النبوية وعصر الخلافة الراشدة... وهكذا مرحلة مرحلة حتى نصل إلى القرن التاسع عشر الذي عرف سقوط أكثر العالم الإسلامي في براثن الاستعمار الأوربي.
      وتوجد مجموعة من الإشكاليات التي ينبغي معالجتها في التدريس والتأليف بحكمة وموضوعية وإيجابية، منها مثلا: قضية الخلاف الداخلي في الأمة منذ نهاية الخلافة الراشدة إلى بروز المشكلة المذهبية. ومسألة الانحطاط والنظرة المثالية للعصر الذهبي الإسلامي. لحظات الهزيمة في حياة الأمة، بأنواعها العسكرية والحضارية والأخلاقية..
       الكتاب الثاني: العلوم الإسلامية.
1- العقيدة: رأس الأمر هو التوحيد، لكن السؤال هو كيف نقدم العقيدة بأسلوب سليم شرعا وعصري شكلا. ثم إن التحدي الكبير في مجال تدريس العقيدة هو في بعث الحيوية وحرارة الروح في نفس المتلقي، وذلك بتحقيق  التوازن الدقيق بين التوحيد باعتباره معرفة، وبينه باعتباره روحا تحرك الإنسان والمجتمع.
      ومن مشكلات الموضوع أيضا أن بعض البلاد الإسلامية سلفية وبعضها أشعرية، وأحيانا تتدخل الحكومات فتفرض تدريس عقيدة معيّنة. فكيف ندرّس عقيدة البلاد بما يحقق التقارب بين اتجاهات أهل السنة، ويحفظها من تبادل تهم التبديع، ويوفر طاقاتها لما هو أولى.
2- علوم القرآن والحديث: ليس عندي ما أضيفه هنا، لكن من المهم توعية الطالب بتعدد المدارس في علوم التفسير والحديث والفقه، ويمكن تعريفه أيضا ببعض القراءات المعاصرة للقرآن وبيان بعض أخطائها.
3-علم الفقه وأصول الفقه: بما في ذلك الفقه المعاصر الذي بحث في قضايا جديدة لم تطرح على السلف.
4- الأخلاق، وموقع علم السلوك. من المطلوب توافر التربية الروحية الإيمانية التي تحقق التقوى وتوصل لمقام الإحسان. ولا ينبغي ترك هذا المجال فارغا، فإن للإنسان حاجات روحية يحرص على إشباعها، ولنقتد بابن تيمية وتلميذه ابن القيم اللذان حاولا ملء هذا الفراغ، فكتب الأول مجلدا ضخما في  السلوك ضمن الفتاوى، وكتب الثاني مدارج السالكين.
     الكتاب الثالث: الحضارة الإسلامية.
      يمكن تقسيم مواضيع الحضارة الإسلامية إلى :
1- النظم: وهي كثيرة، منها الاقتصادي (الصناعة، والتجارة، والفلاحة..)، ومنها التعليمي (الكتاتيب، والمدارس، والجامعات..)، ومنها الاجتماعي والسياسي.. لكن ينبغي أن يقع  تركيز خاص على بعض المؤسسات التي أبدعها المسلمون، ولا تزال مفيدة ومطلوبة إلى اليوم، من أهمها: الشورى، والوقف والتحبيس، والاقتصاد الإسلامي، والحسبة..
 2- التمدن: كل ما يتعلق  بالمدينة الإسلامية: تخطيطها، وبناؤها، وعمارتها، وبناياتها..
3-الفنون: كالنقوش والنمنمات والعمارة والخط العربي..
     وتوجد جوانب مهمة في حضارتنا يمكن تخصيصها ببعض الدروس، كمكانة البحر  في تاريخنا، والبحرية الإسلامية، العسكرية منها والتجارية..
     الكتاب الرابع: مشكلات العالم الإسلامي اليوم.
     الهدف من الكتاب تعريف الطالب بأبرز التحديات التي تواجه عالمنا العربي والإسلامي، فيدرك طبيعتها وأسبابها وآثارها؛ وبذلك يتكوّن وعي نقدي عميق بأوضاعنا، ما اعوج منها وما استقام، يكون مقدمة لإبداع الحلول، كل في مجال اختصاصه. ومن الغايات أيضا بعث روح المسؤولية في نفوس الشبيبة وزرع الإحساس بنداء الواجب من الوطن والأمة.
     وأهم هذه المشكلات: التجزئة. والتنمية ومعضلة التخلف. ومشكلة التبعية. والعلمانية والتغريب الفكري. والعولمة،   والعلاقة مع الآخر.  والأقليات والدولة القومية. ونظريات النهضة. والتطرف بنوعيه: الإسلامي والعلماني..
      ويمكن ترجمة هذه الكتب الأربعة إلى مختلف اللغات، حتى يجعلها المهتمون بالعالم الإسلامي غير العربي، وبالأقليات المسلمة بأوربا وأمريكا، أساسا لكتب أخرى تتوافق والواقع المحلي.
      الأستاذ المدرس:
     الأستاذ هو حجر الرحى في عملية التدريس، ويقع عليه واجب إضافي إذا كان يدرس الثقافة الإسلامية. وبيان ذلك فيما يلي:
   1- طبيعة التكوين المطلوب: ينبغي أن يكون موسوعيا، يجمع بين الاستيعاب الإجمالي لتراثنا الإسلامي وبين الوعي العام بطبيعة العصر ومشكلات العالم. ولابد أن يكون الأستاذ متمكنا من المادة العلمية، وبمناهجها وكتبها، كما ينبغي أن يتابع الجديد فيها.
        تحدّث الإسباني ريبيرا عن الصفات التي كان يشترطها الأندلسيون في الأستاذ، فذكر منها: العلم، وكيف كان أهل الأندلس يتداولون قولة مالك رحمه الله: أدركت سبعين ممن  يقول: قال فلان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين، وأشار إلى أساطين مسجد رسول الله. فما أخذت عنهم شيئا، وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال لكان أمينا، لم يكونوا من أهل هذا الشأن.
  2- الجانب البيداغوجي: في العقود الأخيرة تطورت كثيرا مناهج التدريس وأساليبه، فينبغي للمدرس أن يحيط بطرف منها حتى يؤتي التدريس أكله. يقول ابن طولون في بيان بعض الأساليب التربوية في تراثنا أثناء الكلام عن منصب المدرّس: "وحق عليه أن يحسن إلقاء الدرس وتفهيمه للحاضرين. ثم إن كانوا مبتدئين، فلا يلقي عليهم ما لا يناسبهم من المشكلات، بل يدربهم ويأخذهم بالأهون فالأهون، إلى أن ينتهوا إلى درجة التحقيق." ولذلك أبدع المسلمون مناصب غير المدرس، مثل المعيد الذي يعين الطلاب على فهم درس الأستاذ، ومثل المفيد الذي يقدم بحثا زائدا على بحث الجماعة.. وهذه مناصب مستقرة ومنظمة، لها نظامها وعليها أجرها المحدد.
   3- الجانب التربوي: للمادة خصوصية، فهي ليست كغيرها، والمفروض أن يكون الأستاذ مربيا، بمعنى أن يجمع بين امتلاك ناصية المعرفة بالموضوع الذي يدرسه وبين التلبس بسمت حسن وأدب ودين. إن التحلي بالأخلاق الرفيعة شرط التأثير في الطلاب وتعديل سلوكهم وأخلاقهم إلى الأفضل. وإن من أخطر وسائل التربية الاقتداء، لذلك يجب أن يكون المربي قدوة حسنة.
      وهذا النمط من الأساتذة هو الذي يمكن أن يحوز ثقة الشباب الطلاب، وأن يحفظهم من سبل التطرف والغلو بأنواعه، ويوجههم لطريق الوسطية والاعتدال. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه الطبراني في مسند الشاميين: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله: ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وعلّق عليه ابن القيم، فقال: "أخبر أن الغالين يحرفون ما جاء به، والمبطلون ينتحلون بباطلهم غير ما كان عليه، والجاهلون يؤوّلونه على غير تأويله. وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاث، فلولا أن الله يقيم لدينه من ينفي عنه ذلك لجرى عليه ما جرى على أديان الأنبياء قبله من هؤلاء."
     ويقول ريبيرا في كتابه عن التعليم في الأندلس: "وفضلا عن هاتين الصفتين الجوهريتين: العلم والدين، كانت هناك صفات أخرى موضع التقدير الكبير في الأستاذ، ومنها تحري الصدق، حتى في الأمور التي لا تتصل بالعلم(..) وعلى الأستاذ أن يكون في درسه بشوشا، واجتماعيا، سخيا في ملاحظاته، وأن يتوقى التدليس في الرواية، وأن يتزين بالتقوى، وأن يبتعد عن التلاهي في الأمور(..) وأن يحرض الطالب ويرغبه في العلم وأن يكون معه ما يكونه الأب لابنه، أو الأخ لأخيه، وأن يكون له المثل الأعلى. وأدى هذا في واقع الحياة إلى وجود علاقات ودّ حنون، ومودة صادقة، بين الأستاذ وطلابه."
    وسائل التدريس:
     ينبغي أن تتنوع طرق تقديم الدرس، ولا تقتصر على أسلوب واحد، حتى لا يقع الملل للطلاب. كما أن تنويع هذه الوسائل يساهم بفعالية كبيرة في الاستيعاب الجيد للمادة. وهذه أهمها:
1-             الإلقاء: أي المحاضرة.
2-             مناقشات صفية: خاصة في مظان الخلاف.
3-             مشاركة الطلاب: كلما استطاع الأستاذ إثارة انتباه الطلاب وإشراكهم في الدرس بالأسئلة والإضافة والتعليق.. دلّ ذلك على نجاح التدريس.
4-             استخدام الوسائل السمعية- البصرية: كالمقتطفات من أفلام وثائقية، أو الصور، أو البيانات..
5-             استعمال الخرائط بكثرة، خاصة في التاريخ الإسلامي، والمشكلات المعاصرة للأمة.
6-             استخدام لغة الأرقام، وتعويد الطالب على التفكير تفكيرا كمّـيا أيضا، لا كيفيا فقط. وقد    استفدت هذين الأسلوبين الأخيرين من المفكر الجزائري  الرائع مالك بن نبي رحمه الله، فقد بيّن في مذكراته أثر المعرفة بالجغرافيا وبالأرقام الكبيرة في توسيع أفق المتلقي.
ملاحظات ومتفرقات:
      ولابد من درجة كافية من الجرأة الفكرية وحرية التعبير في تناول قضايا المادة. إذ توجد إشكالات حقيقية، تحتاج إلى علم وحكمة لتحريرها وحلّها. مثلا كيف نقدم للطالب مفهوم الجهاد في الإسلام؟ إن الكلام المتكرر عن السلام والتسامح في الإسلام.. كلام صحيح ومطلوب، لكن الشاب المسلم حين يفتح القرآن الكريم يجد آيات عديدة في القتال والجهاد.. أما لو ولج إلى بعض مواقع الأنترنت، فستمطره بمئات النصوص، من آيات وأحاديث ومأثورات السلف وأقاويل العلماء.. فيتساءل ما موقع هذه النصوص من عالم اليوم ومشكلاته. لذلك لابد أن نقدم له قراءة صلبة للموضوع، تجمع بين تفسير النصوص وتأويلها – بالمعنى الذي يقصده ابن جرير الطبري- وبين مراعاة مقاصد الشريعة وفقه الأولويات من جهة ثانية، وبين اعتبار العصر وخصائصه وطبيعته من جهة ثالثة. فلا ينفع تجاوز الموضوع، أو المرور بسرعة فوقه.. مرور الكرام. ولاشك في وجود جهود لابأس بها في هذا الاتجاه، فعلى سبيل التمثيل بدأ الشيخ الميداني رحمه الله بتعريف الجهاد، وتتبع آياته في القرآن، كما قام ببيان مجالاته، وذكر منها عشرة، أحدها فقط هو القتال العسكري، فأوضح شروطه، وكيف انحرف المفهوم لدى فئات من المسلمين، فأساءوا وما أحسنوا، وهدموا وما بنوا..
      كذلك لابد أيضا من استخدام الأسلوب الهجومي في الكتاب، وليس فقط النهج الدفاعي على نحو ما يستعمله الذين كتبوا في الرد على الشبهات المثارة على الإسلام. يقول العلواني: "على المستوى الفكري يواجه الطالب الجامعي في العالم الإسلامي العقائد والفلسفات الغربية التي تقدم له مع دفاع هزيل يائس عن الإسلام، إذ لا توجد مؤسسة أكاديمية في العالم الإسلامي الحديث يدرس فيها الفكر الإسلامي وتعمق فيها الرؤية الإسلامية بالقوة نفسها والأداء الذي تدرس بهما الأفكار  والرؤية الغربية لطلبة الدراسات الثانوية والجامعية في الغرب، أي بترابط وشمولية وجدية والتزام من قبل الجميع."
       و في هذا الإطار أتساءل أيضا: هل يجدر بنا إضافة وحدة خاصة ومستقلة إلى مقرر الثقافة الإسلامية، وهي: تاريخ التشكّل العام للغرب. أي نقدم للطالب رؤيتنا العربية- الإسلامية حول التاريخ العام للغرب، منذ المرحلة اليونانية بقارة أوربا إلى الفترة المعاصرة التي تعيش ذروتها بقارة أمريكا.. مرورا بالعصور الوسطى والكنيسة والإقطاع وعصر النهضة والكشوفات الكبرى في الجغرافيا والعلوم.. ثم القرن التاسع عشر المميز بانفجاراته المعرفية والإيديولوجية الضخمة، وبحركة الإمبريالية والاستعمار.. بمعنى أن نقدم لطلابنا قراءتنا نحن لهذا التاريخ، وليس القراءة الغربية التي كثيرا ما تكون منحازة ومتمركزة على الذات. وسيكون تأريخنا للغرب وتجاربه  موضوعيا، لكننا سنبرز فيه أيضا القوى الدفينة المحرّكة لهذا التاريخ، وسلبيات التطور الغربي ، وكيف أعاد تشكيل العالم، وغيّر الأرض والسماء، وكيف أنتج مخاطر لا حصر لها على الحياة والحيوان والإنسان، وكيف أوصل نفسه – وسائر العالم معه- إلى مآزق عميقة على مختلف الأصعدة؟
     هذا التدريس لو تمّ، بعمق وموضوعية وعقلية ناقدة فاحصة.. فإنه سيكسب الطالب نموذجا معرفيا model  يرى به العالم، ويفهم به ظواهره المعقدة فهما إجماليا، ويميز بينها ويحكم على بعضها، ولا يقع فريسة سهلة للانبهار بما عند الآخر.
     وفي الأخير أقترح تدريب الطلاب على قراءة مقدمة ابن خلدون، بحيث يقرر الأستاذ لكل فصل دراسي فصولا مختارة من المقدمة. إن من رأيي أن كتاب ابن خلدون هو أعظم تأليف في الثقافة الإسلامية قديما.. ليس فقط بالنظر لمضامينه الرفيعة، بل أيضا لأنه كتاب يعلم النقد والتفكير والموضوعية، كما يبعث على التأمل والمقارنة وعمق النظر..
انتهى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق