الاثنين، 16 يوليو 2012

سلسلة التعريف بالمسيحية وفكرها (11): تــــــــــرتوليانس. إعــداد : حسناء بوشمال.

 
ترتوليانوس من آباء الكنيسة الكبار، وأحد مؤسسي الكنيسة الإفريقية، وهو الذي افتتح التأليف المسيحي باللاتينية..


ماستر الدراسات السامية ومقارنة الأديان
تــــــــــرتوليانس 

 (155-160م/230م)
إعــداد  -حسناء بوشمال.
مقـدمـة:
يعتبر العلامة الإفريقي ترتوليانس، من أهم الشخصيات الكبيرة في الكنيسة المسيحية حوالي القرن الثاني الميلادي، وأحد أبرز مؤسسي الأدب اللاهوتي اللاتيني ومن أعظم أخلاقيي ولاهوتيي الغرب. ويعد شاهدا هاما لأزمنة الكنيسة الأولى التي كان فيها المسيحيون روادا أصيلين لثقافة جديدة، في المواجهة المتقاربة بين التراث الكلاسيكي والرسالة الإنجيلية.
عاش ترتوليانس في مرحلة مصيرية من تاريخ الحضارة الغربية، حيث كانت تتلاقى الثقافتان المسيحية والوثنية وتتجابهان، فكان أول من حاول الجمع والتركيب بينهما. إذ كان أول من افتتح الأدب المسيحي باللغة اللاتينية، بين نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث الميلادي، ومعه بدأ اللاهوت في الكنيسة اللاتينية من حيث فضله على تقدم المصطلحات اللاهوتية. فكان من كبار كتّاب الكنيسة الذين تركوا أثرًا في مسيرتها التاريخيّة.
1-نسبــــــه وحياتــــــه :
اسمه الكامل، كوانتوس سبتيموس فلورانس ترتوليانس (Quintus Septimius Floren Tertulianus). ولد في قرطاجة (تونس) مابين 155-160م، من عائلة وثنية، وكان والده يعمل قائد فرقة رومانية في إفريقيا ( قائد مئة).
تلقى ترتوليانس أوترتوليان، تعليما جديا منذ نشأته، فدرس علوم البلاغة والفلسفة، والتاريخ والحقوق والطب، فكان كاتبا مجيدا متضلعا من اليونانية تضلعه من اللاتينية. وقد حملته دروسه على السفر إلى روما، فقضى فيها أخصب سنوات عمره، ويبدو أنه عمل هناك كمحام.
عاش ترتوليان حياته الأولى على شكل ارتداد مستمر، ويبدو أنه ترك روما نهائيا في حوالي 195م،  وعاد إلى وطنه قرطاجة، إذ حدث تحول عميق في حياته، بعد أن أصبح مسيحيا. فكرس حياته للدفاع عن دينه الجديد، وعن إيمانه بكل قوة وحماس، فسخر علمه ونشاطه لخدمة المسيحية، والدفاع عنها من البدع حتى آخر لحظة من حياته.
عرف ترتوليان بقوة شخصيته وحبه للمعرفة، فكان طموحا قلق الطباع، متطرفا في أفكاره ومواقفه بشكل لا يعرف حدودا، وكان يعتبر أن لا وجود لحل وسط بين الخير والشر، وبين الحقيقة والضلال. ولما كان يكتشف أنه وقع في خطأ ما، لم يكن يتردد في حرق كل ما صنعه. وعندما اهتدى إلى المسيحية هاجم الوثنيين واليهود والهراطقة بشكل لا هوادة فيه. وهذا التطرف في المواقف جعله غير صبور وكثير المبالغة في المواقف وكثير التناقضات في الأفكار.
يعلمنا التاريخ أن وفاة هذا المفكر الديني، كانت حوالي 220م في قرطاجة، إذ لزم ترتوليان في آخر حياته الصمت، وكان يخرج بين الحين والحين عن هذا الصمت ليوجه نقدا لاذعا إلى الكنيسة الأرثوذوكسية، ويرجح المؤرخون أن آخر كتاب وضعه يرجع إلى عصر البابا "كلستس" (217-222م). وقد قال القديس أغسطين فيه، أنه كان قد ترك مجموعة من أتباعه يحملون اسم الترتوليانية، ظلت حية حتى بداية القرن 5م، بعد أن كان ترتوليان قد انضم إلى "الهرطقة" المونتانوية[1].
2-مؤثـرات في حياة ترتوليانس:
عاش ترتوليان في بدايته، حياة فاسدة اعترف عنها حين صار مسيحيا، وقد كان منهمكا في الملذات الجسدية وحياة الترف المملوءة بالرغبات، ويبدو أنه ترك روما نهائيا حوالي 195م، وقد انسحب قلبه نحو حياة المسيحيين المقدسة. وقد اعتنق ترتوليان المسيحية وهو في الثلاثين من عمره، فقد قادته الأحداث إلى أزمة شخصية حادة، إذ كانت السلطات الرومانية ولفترة من الوقت تراقب عن كثب نمو الجماعات المسيحية في قرطاجة وتطورها بريبة وشك متزايدين. فلم يكن المسيحيون يشاركون في التقدمات العامة، ولا يحظون بالعظمة السامية للإمبراطور. وقد عاش ترتوليان في عهد المحنة الكبرى، أي في الوقت الذي كانت فيه الإمبراطورية الرومانية، ترزح تحت نير الحكم القيصري وظلمة الوثنية، إذ كان الرومان يعذبون النصارى وكل معتنق للمسيحية الجديدة. 
 وقد تأثر ترتوليانس بالشجاعة الخارقة التي أبداها المسيحيون في مواجهة الآلام القاسية التي كانت تصدرها السلطات الوثنية بحق المسيحيين، فشهد بأم عينه كيف يرفض هؤلاء المسيحيون أن يتنكروا لمعتقداتهم وإيمانهم بينما يواجهون الموت الجسدي بثقة وشجاعة باسلة1.
هذا الإيمان الواثق لم يجده ترتوليان في وثنيته السطحية المبادئ، وعندما كان يتأمل هذه الأمور كان يزداد اقتناعا بأن هؤلاء الشهداء لا بد من أنهم يملكون شيئا جديدا لا يقدر بثمن، فإذا كان درب المسيح هو الحق فليس أمامه سوى طريق واحد يمكنه السلوك فيه. هكذا غير ترتوليانس إيمانه الجديد بشكل جذري، واتجه إلى المسيحية، وأصبح مجادلا كل مقاوميها من وثنيين ويهود وهراطقة، بغيرة وحماس شديدين.  
3-مؤلفـــــاتــــــــه 1 :
وضع ترتوليانس بعض كتبه باللغة اليونانية، ثم عاد فنقلها إلى اللاتينية ليوسع مجال الانتشار، إذ أن اليونانية كانت قليلة الذيوع في بلده. واستمر على الكتابة باللاتينية فكانت مصنفاته أولى الكتب المسيحية بهذه اللغة، وذلك نهاية القرن الثاني الميلادي2.
تتميز كتابات ترتوليان، بأن معظمها متأت عن مواقف وآراء معينة، وهي تهدف إلى محاربة  الهراطقة والوثنيين، ساعية إلى تثقيف وتوجيه المسيحيين في الوقت نفسه3. وقد بلغت مؤلفاته قمة إنتاجه في المدة ما بين 197-213م. وفيما يلي هذه المؤلفات حسب تسلسلها التاريخي، كما اتفق عليه العلماء بناء على مراحل ثلاث في حياته:
*      أولا: مدة انتمائه إلى العقيدة الأرثوذكسية "السليمة":
تحوي هذه الفترة نحو عشرين مؤلفا تدور موضوعاتها كما يلي:
      1- كتاب الاستشهاد: ( 197-203م)، وفيه يتوجه ترتوليان إلى المسيحيين المجوسيين ليحثهم على الاحتفاظ بالسلام فيما بينهم وعلى تحمل الألم بشجاعة لأجل المسيح.
       2- إلى الأمم: (197م)، كتاب دفاعي ينقسم إلى جزئين: الأول مكرس لفضح جرائم الوثنيين، والثاني لدحض العقائد التي تنادي بتعدد الآلهة.
     3-كتاب الدفاع أو الأبولوجيتيكوس[2]: (نهاية 197م)، يعتبر من أعظم مؤلفاته. وهو كتاب موجه إلى حكام الولايات الرومانية، وفيه يبين عدم مشروعية الاضطهاد، ويظهر فيه سخافة ازدراء الوثنيين للمسيحيين، مؤكدا عمق وثبات الإيمان المسيحي، ومطالبا بمزيد من العدالة في محاكمة المسيحيين. وفيه يتحدى فيقول: "إننا نتكاثر إذ تحصدوننا، وإن دم المسيحيين لبذرة، وإن لكم فيما تأخذونه علينا من عناد لعبرة، فمن ذا الذي يشهده ولا يتزعزع ثم لا يبحث عن السر فيه، ومن ذا الذي يبحث فلا ينضم إلينا، ومن ذا الذي ينضم إلينا، فلا يتوق للعذاب وللموت في سبيل الحصول على النعمة الإلهية كاملة والعفو شاملا؟ "[3]
إلى جانب ذلك يتحدث ترتوليان في كتابه هذا، عن مقومات العقيدة المسيحية، ويشرح تعاليم وعقائد المسيحية ويدافع عنها، مركزا على الجوانب الخلقية والروحية، والإشارة بالعفة والأخلاق الفاضلة للمسيحية، محددا أيضا الاختلافات بينها وبين التيارات الفلسفية الأساسية في عصره.
     4- المسرح:(في حولي عام 200م)، انتقد فيه ترتوليان الطابع الوثني غير الأخلاقي للألعاب البهلوانية والمسرح، ويدين فيه باسم المسيحية كل من يشاهد المسرح، سواء ألعاب السرك أم المشاهد المسرحية الأخرى.
      5- محاربة البدع: يستعرض فيه الوسائل الفاجعة لمحاربة البدع الخارجة على المسيحية. ويدل على أن حجة استناد الهراطقة إلى نصوص الكتاب المقدسة لمهاجمة المسيحية واهية، وذلك لأنه ليس من حقهم أن يستخدموا كتبا لا يعترفون بما جاء فيها، فهذه الكتب هي ملك الكنيسة فقط، لأنها هي التي حافظت عليها طوال الأجيال.
      6- سر "أبانا" والأسس الأخلاقية للصلاة: (200-206م).
      7- سر العماد:(حوالي 200-206م)، وفيه يتعرض لكل المشاكل التي تدور حول العماد.
      8- الصبر:(ما بين 200-206)، وهو يعرف الصبر المسيحي على أنه وضع الاستعداد الذي يجب أن يكون عليه كل مسيحي كي يتحمل الألم من أجل الله. ويعترف ترتليان أنه شخصيا لا يمتلك هذه الفضيلة.
     9- فضيلة التوبة: (بين 200-206م)، يتحدث فيه أولا عن فضيلة التوبة، ثم يميز بعد ذلك بين توبة ما قبل العماد التي يمارسها المرتد، وتوبة ما بعد العماد التي تقوم على اعتراف علني.
     10- الزينة النسائية: (200-206م)، وهو مؤلف من جزئين. الأول يتحدث فيه عن زينة النساء، والثاني يحارب فيه الأشكال المختلفة للحزلقة النسائية.
     11- الزواج الثاني: وفيه يكتب إلى زوجته طالبا منها أن تتزوج مرة أخرى إذا مات زوجها. ثم يذكر بمطلق الزواج المسيحي وعدم زواله، وفيه يقبل وجود زواج ثان، إلا أنه يحبذه ويعتبره ضعفا بشريا.
       12- الرد على هرموجين الغنوصي: وفيه ينتقد الرسام القرطاجي هرموجانوس لقوله بأزلية المادة. يثبت أن العالم له بداية، وأن الله هو خالقه، وأن المادة خيرة.
       13- الرد على اليهود: (200-206)، وفيه يدل على أن الناموس القديم المبني على العدل والانتقام، يجب أن يختفي ويترك المكان للناموس الجديد، ناموس الحب الذي سبق وتحدث عنه الأنبياء.
       14- الرد على إيلياكس( من أتباع مرقيون): ( 217-222م)، يفند فيه نظرية مرقيون.
*                    ثانيا: المدة الشبه المونتانية، وفيها كان يتأرجح بين الإيمان "السليم" والمذهب المونتاني:
      1- إلى العذارى: (حولي 206م)، وفيه يأمر العذارى بضرورة لبس غطاء الرأس كعادة الحرائر الشريفات من الرومان آنذاك. وذلك ليس في الكنيسة فقط عند الصلاة كما يأمر الكتاب وحي الله، لأن غطاء رأس المرأة علامة خضوعها تحقيقا لوضعها الأصلي في الخلق أنها من صنع آدم وتخضع له، بل في الشارع أيضا. ويعتبر هذا الكتاب أول علامة تحول ترتليان عن الأخلاق المسيحية المعتدلة.
     2- الرد على مرقيون:( 200-211م)، عبارة عن خمسة أجزاء، ومن الكتاب 1-3. يدل الأول على وحدانية الله ضد مرقيون، ويصف الله بأنه عادل وخيّر. والثاني يدل على وحدة الهوية بين الله والخالق. والثالث يدل على وحدة الهوية بين المسيح الخير الذي أعلن عنه الأنبياء في العهد القديم.وفيه يرفض أن يعتبر المسيح " إيونا" أتى من العالم الأعلى.
      3- الدفاع عن نفسه: كتبه ترتوليان للدفاع عن نفسه، لأنه لما ارتدى الرداء الخاص بالفلاسفة التوجا الرومانية[4]، أخذ الناس يستهزئون به، فكتب يدافع عن نفسه.     
      4- الرد على فالنتين: (من 209-211م)، وفيه يدحض غنوصية فالنتين.
      5- في النفس: كتاب ألفه نحو عام 210م، طرق فيه مسائل وجود النفس وماهيتها وأصلها ومصيرها، كما استلهم أفكاره  في هذا الكتاب من الفلاسفة خاصة الرواقيين، وأورد فيه أقوالا من أفلاطون وفيتاغورس وغيرهم.
      6- تجسد المسيح: (209-211م)، كتبه ردا على البدعة الظاهرية التي أنكرت أن المسيح جسد. ودل فيه على ضرورة أن يكون للمسيح جسد ليتمم عمله الخلاصي، وولد بما أنه كان عليه أن يموت.
      7- في قيامة الأجساد: (209-211م)، فيه دل على صحة قيامة الأجساد، مستندا إلى البراهين العقلية أو الكتابية.
       8- عظة إلى كاستتانيس: كتاب وجهه إلى صديق له بعد وفاة زوجته، يحرم عليه الزواج مرة أخرى، معتبرا الزواج الثاني بعد وفاة الزوجة الأولى بمثابة زنى، وهو الأمر الذي هو ضد الكتاب المقدس الذي يقدس الزواج.
       9- الإكليل:(211م)، كتبه بمناسبة رفض جندي مسيحي حمل إكليل الغار، كما جرت العادة في توزيع الهدايا العسكرية. ووضع العسكري في السجن بسبب رفضه الأوامر العسكرية. وكان أغلب المسيحيين والأساقفة قد أدانوا موقف الجندي واعتبروه متزمتا، طالما أنه لم يقدم البخور أو سجد للآلهة. وهذا الكتاب يدافع ترتوليان فيه بشدة عن موقف هذا الجندي الشجاع، ويقول فيه بأن الخدمة العسكرية في ظل الإمبراطورية لا تتفق مع معتقدات المسيحيين.
      10- عبادة الأصنام: (211-212م)، يعالج فيه ترتوليان العلاقات بين المسيحيين والوثنيين، فيحل المشكلة بشكل صارم وشامل للغاية، إذ يحرم فيه على المسيحيين صناعة التماثيل التي تستخدم في العبادة والتجارة في هذه التماثيل، وهو في هذا الأمر محق ولا غبار عليه. إلا أنه حرم أيضا على المسيحيين الانخراط في سلك الجندية، ويحرم التجارة مع الوثنيين وممارسة الوظائف الرسمية في الحكومة. كما يحرم الدخول في المدارس الرسمية، وهكذا دعا ترتوليان المسيحيين إلى العزلة التامة بشكل متجمد وقاس.
     11- الرد على العقرب: (حوالي 211-212م)، رسالة موجهة ضد الغنوصيين الهراطقة الذين أنكروا ضرورة الاعتراف بالإيمان حتى الاستشهاد.
     12- إلى سكابولا: (212م)، كتبه بعد حادثة كسوف الشمس التي تمت في 14 آب (أغسطس) عام 212م. وهو عبارة عن رسالة وجهها إلى الحاكم الروماني المسؤول عن مقاطعة أفريقيا، وذلك بسبب اضطهاد المسيحيين وفيه يهدده بغضب الله.
*                    ثالثا: المدة المونتانية في حياة ترتوليان:
     1- الهرب في أثناء الاضطهاد: (حوالي 213م)، وهو أول ما كتبه بصفته المونتانية. ويهاجم فيه عملية هرب المسيحيين في أوقات الاضطهاد، وينتقد استخدام الرشوة للقضاة الوثنيين ليعيشوا في أمان دون مضايقات. ويؤكد على أن الاستشهاد واجب على المسيحي، وإلا وقع تحت طائلة الجحود.
     2- الرد على براكسياس: (بعد 212م)، يهاجم فيه عقيدة المونارخيانية والشكلية (الموداليزم)، التي وضعت عقيدة الثالوث في خطر، و"شوهت التعليم المسيحي القائل بوحدانية الله في ذاته وصفاته الذاتية الثبوتية الثلاثة". وفيه يؤكد على وحدانية الله ووجود ثلاثة أقانيم إلهية متساوية في جوهر واحد وذات واحدة غير متجزأة.
     3- في الصيام: (بعد 213م)، كتبه ردا على النفسانيين (الأرثوذكس) ينتقد فيه المسيحيين الأرثوذكس غير المتمسكين بتقاليد الصيام. ويعرض لعقيدة الروح القدس المونتانية عن الصيام.
     4-Pudicitia : يبدو أنه آخر مؤلفات ترتوليان، وفيه يهاجم شخصا يعتقد أنه أسقف. لأن هذا الشخص قبل توبة الناس الذين ارتكبوا خطيئة الزنى، بعدما تابوا وقبلوا التأديب الأخلاقي اللائق بهذه الخطيئة. والكتاب يحمل بعنف لا مثيل له على هذا الشخص طبقا للمعتقد المونتاني، الذي لا يقبل توبة بعض الخطايا كعبادة الأوثان والزنا حتى وإن تاب مرتكبها.
يضيق بنا المجال لعرض كلّ ما ألّفه ترتوليانس، وهي كتابات موضوعية تعطي كمية وافرة من المعلومات القيمة عن المجتمع الوثني والمسيحي في إفريقيا الشمالية، إبان الفترة الأخيرة من القرن الثاني للميلاد. ولكنّنا نكتفي في الختام، بهذه الإشارات البسيطة، على أن الكثير من مؤلّفات هذا الكاتب ما تزال تتميّز إلى اليوم بتناولها لقضايا حاليّة ومعاصرة.
4                   - فكــره الــدينــي:
كان ترتوليانس – كما مر معنا سابقا- في بداية حياته وثني العقيدة، ثم تنصر بعد ذلك وأصبح من أشد المدافعين عن المسيحية، إذ نصب نفسه حارسا أمينا على استقامة المعتقد، وعمل على نشر جوهر المسيحية بشكل إيجابي، لذا تبنى الطريقة النظرية ليوضح أسس العقلانية للعقيدة المسيحية.
وقد دعا ترتوليانس في مذهبه الديني إلى التمسك بتعاليم المسيحية ، والتخلي عن مبادئ الكنيسة الرومانية الطبقية. ويبدو أنه كان مناضلا دينيا تزعم تيار التطرف المسيحي. وككل مدافع جيد عن العقيدة، اهتم ترتوليان بسلامة العقيدة المسيحية وأولوية الإيمان وقانونه في ذلك أن الله واحد لا تختلف هويته في التوراة عنها في الإنجيل. فالخالق في التوراة هو إله المحبة عينه في العهد الجديد، كما أن المسيح هو المخلص المرسل من الله الذي أعلن عنه الأنبياء، إذ ليس هناك من تعارض بين العهدين القديم والجديد. فلا يمكن الاستغناء عن الأول والاكتفاء بالثاني[5].  
هذا، وقد اتّسمَ فكر ترتليانس اللاهوتي بالدفاع ضد الغنوصية2، فكان بذلك تلميذاً لإيريناوس أسقف ليون3، مما يجعلهُ يؤكد وحدة الكتاب المقدس كعهدين (ضد مَرقِيون)، أهمية إيمان الكنيسة في تأويلهِ، وفوق كل شيء حقيقة "جسد" المسيح، أي ولادته الحقيقية، موته وقيامتهُ، ضد كل محاولات التفسير الرمزيّة أو الظاهرية.
 يبرز دور ترتليانس مهماً، في تتبُّع أشكال ممارسة سر التوبة في تاريخ الكنيسة. إن كتابه "في التوبة" (De Poenitentia) الذي ألَّفهُ بينما كان ما يزال في حضن الكنيسة، كان يحث الخطاة على التوبة في الكنيسة، حيثُ كان يعتبرها فرصة تمنح لمرَّة واحدة فقط، وقد كان يُشدّد على موضوع الاعتراف العلني (exhomologesis)، أما في كتابهِ الذي ألفه في الفترة بعد اعتناقهِ المونتانية، فقد كان يعتبر بأن الخطايا هي مقسمة إلى نوعين: خطايا عرضية وهي الخطايا القابلة للغفران، وخطايا لا تُغتَفر أي الزنى والقتل والاجحاد. وكان يعتقد بأن غفران الخطايا هو قدرة أعطاها الله فقط للأشخاص الروحيين، وليس للأساقفة. وقد كان ترتليانس كجميع المونتانيين يقول بأنه على المسيحيين أن يقبلوا بالاضطهاد وألا يُظهروا أية مقاومة أو محاولة للدفاع عن النفس أمام الشهادة1.
اعتبر ترتوليانس أن الوحدة المسيحية هي فضيلة عظيمة، ولكن لا يجوز أن نشتريها على حساب الحق. ويجب فحص الأفكار الجديدة، وتشخيص الأخطاء في وقت مبكر قبل أن تنتشر ويستفحل أمرها. وقال: " إن الحق واحد بينما البدعة متشعبة متنوعة، والحق يعرف من موافقة الكنائس جميعها عليه، بينما البدعة هي محلية ومحصورة بفئة قليلة. الحق يتبدى من أقوال الرسل بينما البدعة مظهر حديث. الحق يثبته الكتاب المقدس بينما البدعة تنصب نفسها ضد الكتاب المقدس وفوقه"2.
أعطى ترتوليانس قدرا كبيرا من التفكير في مسائل لاهوتية وفلسفية عديدة، فتعمق بها بشكل منهجي بدءا من وصف إله المسيحيين، فنجده يقول: " إن من نعبده هو إله واحد"[6]، ويتابع مستعملا التضاد والمفارقات التي تميز طريقة كلامه "إنه غير مرئي، وإن كان يرى لا يمكن استيعابه، وإن كان حاضرا بواسطة النعمة، لا يدركه عقل، وإن كان بإمكان الحواس البشرية أن تدركه، ولذا فإنه حقيقي وعظيم"[7].
اهتم الإفريقي أيضا بفكرة الثالوث، فنجده أول من ابتكر عبارة" الثالوث الأقدس" ليصف من خلالها "طبيعة" الله. ويقدر ما ابتكر من كلمات جديدة بحوالي 982 كلمة تقريبا. فهو يقر في هذا الصدد بالتمييز العددي والفعلي ضمن الوحدة بين الأب – الابن – الروح القدس، وقد أقر مجمع نيقيا عام 325م بعدد لا بأس به من أفكاره في هذا الموضوع3.
ونجده أيضا يعنى بفكرة الروح القدس، مبرهنا عن طابع المسيح الشخصي والإلهي، إذ يقول:" نحن نؤمن بأن يسوع المسيح قد أرسل، حسب وعده وبواسطة الأب، الروح القدس، البارقليط، مقدس إيمان الذين يؤمنون بالأب والابن والروح القدس...". ونقرأ أيضا في أعمال الافريقي نصوصا عديدة حول الكنيسة التي يعتبرها ترتوليانس دوما كأم، وحتى بعد انضمامه إلى البدعة المونتانية، فهو لم ينس الكنيسة التي يعتبرها أم الإيمان والحياة المسيحية. 
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن ترتوليانس مر بأزمة حادة في الكنيسة في ما بين السنة 203و 212م، فمن الثابت أنه أخذ يتحدث بإعجاب ملحوظ عن عمل الروح القدس في الكنيسة، وعن الأنبياء، كما بدأ يثني على الممارسات الزهدية الجامدة عند الجماعات المونتانية في ذلك الزمن، وعلى نقيض ذلك، كان ينتقد "التسامح" الذي وجده في الكنيسة الأرثوذكسية في ما يختص بلباس النساء وحجاب العذارى، والزواج الثاني والصيام، بل ذهب فيما بعد إلى أقصى الحدود في انتقاد الكنيسة الأرثوذكسية ليميزهم عمن حصلوا على أنوار الروح القدس المحفوظة والذين كان يسميهم "الروحانيين"، فكان يتحدث عن أعضائها تحت اسم "النفسانيين"1.
وفي حوالي العام 213م، فقد ترتوليانس "كل اتزان" في علاقته مع الكنيسة، وانتقد كذلك تشجيع الأساقفة لهرب كثير من المسيحيين في أثناء الاضطهادات. هذا وإن انخراط المسيحيين في وظائف الدولة جعلهم في نظره متواطئين مع عبادة الأصنام. كل هذه الأشياء وغيرها جعلت ترتوليان ينتقد الكنيسة. ففي رأيه لا مجال للحلول الوسط، إذ على المؤمن أن يختار بين الله والعالم. ولا حلول وسط بين الفضيلة والرذيلة، لذلك رأى أن الكنيسة بوصفها الذي وصفناه، أصبحت مكانا لا يؤمن خلاصه كما يرى هو هذا الخلاص.
وخلاصة القول في هذا الباب، إن أهمية فكر ترتوليانس الديني تتجلى في كون ثقافته الوثنية تطعمت بإيمانه المسيحي العميق، لينتج فكرا غنيا مترابط وقلقا في بعض الأحيان. ارتبط إلى حد بعيد بالمؤثرات الفكرية في محيطه دون أن يشكل نظاما فكريا ناجزا.
5- موقفـــــه من الفلسفة:
كان لترتوليانس جولات وصولات في الفلسفة، فعرف الفلسفات الوثنية معرفة عميقة، وأدان الأنظمة الفلسفية معتبرا أن الفلاسفة لم يتوصلوا إلى معرفة شيء بسيط مما يعرفه المؤمنون المسيحيون.
ولعل أهم ما يستوقفنا في موقفه هذا، هو اعتباره الفلسفة عدوة للدين، حتى إننا لنجده يقول:" أي علاقة توجد بين أثينا وأورشليم، بين الأكاديمية والكنيسة، بين الخوارج والمؤمنين؟ إننا بريئون من الذين ابتدعوا مسيحية رواقية1 أو أفلاطونية أو جدلية، بعد المسيح والإنجيل لسنا بحاجة إلى شيء"2.وهو هنا لا يرفض الفلسفة بحد ذاتها، ولكنه طعن باستعمال الغنوصيين لها بشكل هدام، فهم يعتبرون أن الأساس هو الإنسان بنفسه بوصفه إلها، وهذه المعرفة تؤدي إلى نجاة الإنسان بحيث تتحد ذاته مع الألوهية اتحادا جوهريا. وهذا ما يرفضه ترتوليان رفضا قاطعا3.
وقد كلل ترتوليانس مواقفه من الفلسفة، بمهاجمته للفلاسفة في أخلاقهم، ويقول في ذلك:" إن خير ما في مذاهبهم مستفاد من التوراة، وإن من الفلسفة نشأت البدع المسيحية، وبجدل الشقي أرسطو، ذلك الجدل الذي هو آلة للبناء وللهدم عل السواء، وتبعا لذلك يرى أن التعويل على كتب الفلاسفة لاستخراج الأدلة منها، منهج عقيم"4. ويبتكر ترتوليانس منهجا آخر هو استنطاق النفس، فيبين في كتابه "شهادة النفس المسيحية طبعا" إن النفس تنزع بطبيعتها ومن صميمها إلى الدين، وبخاصة في أوقات الشدة، فتبدي العواطف الدينية التي فطرها الله عليها". وهذا منهج انتهجه الكثيرون من بعده، خصوصا في العصر الحديث لما تناقصت الثقة بالعقل النظري أو انعدمت، فمست الحاجة إلى التماس أساس لنزعاتنا العليا عن طريق العاطفة5.
خــاتمــة:
إنه بالإمكان الآن، وبعد مسيرة هذه المباحث التي سارها هذا العرض المتواضع، قاصدا الوقوف على جوانب من شخصية العلامة الإفريقي ترتوليانس، أن نقدم بين يدي خاتمة هذا العرض المتواضع خلاصة - ما هي إلا كلاما قيل وتناقل فرويناه- مفادها:
إن كانت الرسالة المسيحية هي التي صنعت ترتوليانس، يبقى أن الرجل كان أيضا نافعا للقضية التي تبناها. فلم تمض إلا فترة وجيزة على اهتداءه إلى المسيحية حتى باشر التبشير بالإيمان وتعليمه في قرطاجة. وكانت دعوته هذه ناجحة، فقد خصص وقته لخدمة الإنجيل. فكان يعرف الكتاب المقدس حق المعرفة، وكان يقتبس باستمرار من الأناجيل ومن الرسائل كما من العهد القديم، وكان يسير بكل وضوح على خط الإيمان الرسولي. ولا نجد في كتاباته إلا القليل من الأفكار الدينية "الدخيلة على المسيحية"، والتي تسببت في تعقيد حياة الكنائس.
هذا، وقد أعطت أعمال هذا المفكر، ثمارا حاسمة امتد تأثيرها على مستويات عدة من مستويات اللغة، واستعادة الثقافة الكلاسيكية إلى مستويات تجديد روح المسيحية، وصوغ اقتراحات جديدة لعيش إنساني مشترك.
     ثم إن معظم الكتابات اللاهوتية لترتوليانس، قد وضعت عديدا من الأجوبة لأسئلة أوردها النقاد أو بعض المسيحيين ذوي الآراء المخالفة. وفي الواقع إن التساؤلات الأساسية التي حملت ترتوليانس على الغوص في تفسيرها وتقديم الإجابة عنها منذ أكثر من 1600 سنة، لا تزال في أحيان كثيرة بالأهمية عينها التي كانت لها وقتئذ.


[1]: المونتانية: فرقة اكتسبت لنفسها بعض الشعبية في مطلع القرن الثالث الميلادي، في أوساط افريقيا الشمالية. وكان أعضاؤها يتبعون تعاليم ومثال أحدهم يدعى مونتانوس الذي كان قد شرع بالكرازة نحو العام 170م، وذلك في منطقة فريجة ( تركيا الحديثة). وقد سقط ترتوليانس في هذه البدعة ما بين مابين 202-205م، ولا نعرف إن كان قد رجع إلى الكنيسة الجامعة مرة أخرى قبل وفاته أم لا،  ويرى القديس جيروم أنه سيم كاهنا قبل سقوطه في المونتانية، وإن كان بعض الدارسين يظنون أنه بقي علمانيا.

1 : عن الشبكة الالكترونية:
                             p116.  .www.tawalt.com/monthly/christian/Masihia_NA_4.pdf-
1: عن شبكة الانترنيت: .
                                             http://www.tawalt.com/monthly/christian/Masihia_NA_4.pdf-

2: "تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط"، يوسف كرم، دار المعارف بمصر، 1965م، مكتبة الدراسات الفلسفية. ص: 20.
3:  يتميز أسلوب ترتوليان في الكتابة والخطابة بالفصاحة وقوة الأسلوب، إذ كانت لديه الأدوات اللازمة لذلك، لأنه درس الأساليب الأدبية واستخدم كل مصادره في اللغة والجدل والبلاغة. ولم يكن يتقيد بقواعد اللغة إذ كان يبتدع الكلمات الجديدة ليعبر عن فكرته،لهذا جاءت معظم مؤلفاته غامضة وصعبة الفهم، علما أنه كان يتمعن في كتابة الجمل القصيرة المشحونة بالمعاني والدلالات، وهذا ما أدى إلى الغموض.

[2] : Apologectus، من أشهر مؤلفات ترتوليان، وقد كتبه خلال الحكم الاستبدادي للإمبراطور المتوحش المدعو سبتيموس سفيروس، وهو تقديم ممتاز للإيمان المسيحي كتبه ترتوليان  إبان فترة الاضطهاد.- للتوسع في مضمون هذا الكتاب، انظر:                                                                                                                       
[3] : المرجع السابق، ص: 20.
[4] : كان من المفترض أن تكون ملابس ترتوليان - كعادة معظم رجال عصره- مشتملة على الرداء الأبيض بأكمامه القصيرة، وهو عبارة عن قميص طويل يصل إلى الركبتين مصنوع من الكتان، مشدود حول الخصر بحزام. لكن ترتوليان أظهر استقلاليته عن العادات السائدة بالاستغناء عن التوجا. مفضلا عليه الشملة الاغريقية، وهي نوع من اللباس الذي يطرحونه على الكتف الأيسر.
[5] : " موسوعة أعلام الفلاسفة العرب والأجانب"، قدم له الرئيس شارل حلو، إعداد الأستاذ زوني إيلي ألفا، مراجعة د: جورج نخل. الجزء الثاني. الطبعة الأولى، 1992م. دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.ص: 317.

2 : الغنوصية: مشتقة من الكلمة اليونانية "gnw,sij"والتي تعني المعرفة، ذلك أنها تدل على المعرفة السرية لله التي يدعي أتباعها إمتلاكها. أما الغنوصية فتدل على البدع التي ظهرت في القرنيين الثاني والثالث، والتي نشأت انطلاقا من بحوث العرفان وهي أنظمة فكرية تخلط مذاهب التصوفية اليهودية والثنائية الزرادشتية بالعقائد المسيحية بالاضافة إلى اتجاهات ميتافيزيقية أفلاطونية جديدة.

3 : إيريناوس هو قديس وأحد آباء الكنيسة، وواحد من أهم لاهوتيي القرن الثاني الميلادي، ولد على الأرجح بين عام 140 و160 م في مدينة إزمير. تلميذُ للقديس بوليكاربس. ترك آسيا الصغرى لأسباب مجهولة وذهب إلى غالية. كان كاهناً في مدينة ليون على أيام الإمبراطور مرقس أوريليوس. أُرسل إلى روما ليحصل على إيضاحات بشأن مشكلة المونتانية وبعد عودته منها بين عام 177 و 178 م أقيم أسقفاً على ليون خلفاً لأسقفها الشهيد فوتينوس

1 :  عن الشبكة الالكترونية:                                                                                   
                                                                                                                               www.christusrex.org
2:  " de Prescription Haereticorume" -  نقلا عن الشبكة الالكترونية: www.orthodoxonline.org/web/library/legacy.pdf. p;129                                                        
[6] : الشبكة الالكترونية:                                                   

[7] : المرجع نفسه.
3 : " موسوعة أعلام الفلاسفة العرب والأجانب" مرجع سابق، ص: 317.
1 : عن الشبكة الالكترونية:.  p116.www.tawalt.com/monthly/christian/Masihia_NA_4.pdf-
1 : الرواقية لفظ يطلق على المدرسة الفلسفية التي أنشأها زينون الكيتومي بمدينة أثينا أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، ويطلق على أنصارها اسم الرواقيين أو أصحاب الرواق أو أهل المظال، كما يسميهم الشهرستاني في الملل والنحل، نسبة إلى الرواق المنقوش، وهو ممر مسقوف ومصبوغ بألوان متعددة، وفي هذا الرواق كانت تلقي المحاضرات الفلسفية في ذلك العهد. واستمرت هذه الفلسفة زهاء خمسة قرون، وخلال هذه المدة كانت طرأت على تعاليمها تغيرات كثيرة، غير أن ما يجمع الحركة كلها تعاليمها الأخلاقية التي ظلت على ما هي عليه طوال الوقت.
2 : "تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط"، يوسف كرم، مرجع سابق، ص: 21.
3 : " موسوعة أعلام الفلاسفة العرب والأجانب" مرجع سابق، ص: 318.
4 :المرجع نفسه، ص: 317-318.
5 : "تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط"، ص: 21.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق