الأحد، 24 يونيو 2012

سلسلة التعريف بالمسيحية وفكرها (5): كليمنضوس الاسكندري. إعداد : لحنين حليمة.

تنبيه وتوضيح:
هذه سلسلة عروض وتقارير صغيرة  عن المسيحية: تاريخها وأعلامها ومشكلاتها.. وهي تهدف للتعرّف على هذه الديانة الكبيرة وفق المنهج الإسلامي الذي يقوم على المعرفة قبل الحكم مقتديا في ذلك بالقرآن الكريم الذي لا يكتفي بالرد على أهل الملل والنحل، بل يحسن عرض مبادئ الأديان ويشير إلى محطات مهمة من تاريخها وتحولاتها.
وهذه البحوث التي سأعرضها هنا تباعا هي لبعض طلبتي الذين درّست لهم بماستر مقارنة الأديان مادة: الفكر الديني المسيحي. وأكثر هؤلاء ما عادوا طلبة عاديين، فإن منهم أساتذة وباحثين.. لذلك أنا على يقين أنهم الآن لو استُكتبوا في هذه القضايا سيكتبون بطريقة أعمق وأفضل. لكن بحوثهم وتقاريرهم -وإن كان الغرض منها التدريب والتعليم- إلا أنها مفيدة وتلقي أضواء كافية على أهم قضايا المسيحية ورجالها.
وقد سبق أن أخذت موافقة أكثر طلبتي على نشر هذه التقارير. لكن إذا كان أحد غير موافق على ذلك، فليكتب إليَّ حتى أحذف مشاركته.


ماستر: اللغات السامية ومقارنة الأديان
القديس كليمنضوس الاسكندري
Clément d’Alexandrie
    إعداد : لحنين حليمة  
المبحث الأول: حياته ومؤلفاته
       حياتــــه:
       يمثل كليمنضوس الإسكندري ظاهرة مميزة وربما فريدة في تاريخ المسيحية، إنه أولا الكاتب المسيحي الأول الذي تصور مخططا لمهمة أدبية واسعة النطاق، ومؤلفة من عدة كتب، منذورة لإعطاء برنامج كامل تقليدي حول تعليم الفلسفة.
       وهو الأول أيضا في تصور المسيحية كمنهج يسمح بالتقرب من الكمال الفردي، كمدرسة للحكمة.
       وهو أخيرا أول من كانت لديه الجرأة على تقبل التقليد الشعري والفلسفي اليوناني، وبصورة أعم، كل التقاليد الدينية والفلسفية التي عرفتها الإنسانية[1].
       إن المسيح بالنسبة لكليمنضوس مماثل للعقل الذي اودعه الله جل جلاله منذ بدء العالم في الكوسموس وفي النفس الإنسانية.
       يتميز هذا القديس بسعة اطلاعه وعمق إلهامه وغنى قريحته الوجدانية المنبثقة من نفس ممتلئة حيوية وعشق للعقل المتجسد في المسيح[2].
       وبالإضافة إلى الثقافة الشعرية والفلسفية طعم الفيلسوف فكره بمعرفة التقاليد التفسيرية اليهودية والمسيحية.
       ولكن هل أغوت هذه الثقافة معاصري كليمنضوس:
       إننا نعرف فقط الشيء القليل عن شعبية هذا الرجل، ولكن الشيء الأكيد هو أن التقليد المسيحي محاه بسرعة فائقة من ذاكرته، فمؤلفاته صنفت في عداد المؤلفات الخطيرة والفردية والبعيدة عن الجو الكهنوتي.
       إن مؤرخ الفلسفة والفكر الديني لا يسعه أن يبدي إعجابه بهذه المحاولة الجبارة التي قام بها الفيلسوف ليوقف بين الهيلينية، اليهودية وكذلك المسيحية، هذا التوفيق النادر  يأخذ موقعه بين البحث عن الحكمة والبحث عن الروح الإنجيلية، بين المنطق والوجدان، بين العقل والرمزية[3].
       إذن يستطيع القارئ اليوم أن يجد في كتابات كليمنضوس منهلا للمعلومات المتعلقة بالأدب اليوناني، تاريخ التقاليد، والتقاليد السرية لليهودية وكذلك المسيحية.
       لكن ماذا نعرف عن حياة هذا الرجل؟ كليمنضوس يحمل اسم الإسكندري ليس لأنه من مواليد الاسكندرية بل لأنه مارس فيها وعليها تأثيرا عظيما خل فترة كبيرة من حياته، والحقيقة أننا نجهل بالضبط مكان وتاريخ ولادته، ولكن ما نعرفه بفضل شهادة الفيلسوف نفسه، هو انه سافر إلى اليونان وإيطاليا وآسيا الصغرى قبل أن يستقر في مصر، في الاسكندرية[4].
       ولم تكن أسفاره سوى حث عن الحكمة فقد تنقل من معلم إلى آخر قبل أن يجد في الاسكندرية ذلك الذي على حد قوله "يجني رحيق الزهر في مروج الأنبياء والرسل ليضع في النفوس عرفانا نقيا"، غن كلمنضوس يغدق على المسيحي بانتان هذه الصفات، فقد أثر هذا الأخير في نفسه أشد تأثير، ومثل بانتان أصبح كليمنضوس معلما روحيا ويبدو أنه تلقى سر الكنهوت في الاسكندرية نحو 210 أو 215 ثم ترك المدينة قاصدا أورشليم ربما لأن توجهاته الفلسفية لم تكن على وفاق مع أفكار اسقف الإسكندرية.
       في أورشليم سعفه الأسقف كثيرا وعينه في مراكز مسؤولية متعددة من بينها: بعثه سفيرا لدى كنيسته إنطاكين  وطلب منه تحرير عدة كتب[5].
       عام 233 كان إسكندر الأورشليسي يتحدث عن كليمنضوس بصيغة الماضي مما يفترض أنه مات في هذه المدة تقريبا لكنه واجهته عدة مشاكل من بينها: العلاقة بين الطبيعة البشرية والنعمة بعد الخطيئة الأصلية، ومشكلة تحديد هذه الطبيعة نفسا وجسدا، فيعتبر الإنسان أن له كرامة سامية، غير أن هذه الكرامة لا تبقى قائمة فعلا إذ عاش الإنسان شبيها بالله، أعني على صورته ومثاله ممسوحا بالنعمة الإلاهية التي يجب أن تلازم وجوده لأن الروح القس يسكن من يطيعون الله ويرفع من كرامتهم الإنسانية والسماوية، وبذلك نفس هيكل الروح القدس صالحة، ولأن صلاحها يجعلها على صورة  الله الصالح[6].
من مؤلفاته:
-       التمهيد
-       الطنافس
-       الوصاف
-       أي الأغنياء يمكن أن يكتب له الخلاص؟
-       المؤدب
بالإضافة إلى: البروتيتيكوس والبيداغوغوس والأستروماتيس[7] [8]
المبحث الثاني:   فلسفته:
       إن مؤلفات كليمنضوس الأساسية تبحث عن تبيان العقيدة القويمة ليحصل الارتداد، كما ينبغي تكوين الأخلاق وتعليم العرفان وهذه المراحل الثلاث  ضرورية لتثقيف متكامل.
فالتمهيد مثلا اندرج في التقليد الأدبي للمؤلفات الرامية إلى الارتداد للفلسفة، والفلسفة الحقة ليست سوى الديانة المسيحية، واللغوس الجديد هو المسيح، ويحيى **** كليمنضوس نفس وجداني عميق، إنها نشيد بلحن جديد، بلحن اورفيوس الجديد الذي يحمل بنغمته الكون، يصلح بين الأنفس جمعاء، والواقع أن كل مناهل الشعر والفلسفة اليونانية موضوعة في خدمة هذا المديح للوغوس المتجسد .
       وفي كتابه المؤدب يخاطب كليمنضوس المرتدين الجدد والقارئ الذي يكتفي بإلقاء نظرة سريعة على بعض  عناوين المقاطع في المؤلف لا بد أن يفكر أن المؤلف هذا ليس سوى بحث في الأخلاق العلمية أو دراسة في أصول الآداب العامة والأخلاق ا****: كيفية التصرف فيما يتعلق بالأكل والشرب، والعطور والثياب والأحذية والحلي والرياضة والنوم والحياة الجنسية.... الخ[9]
       إن المبادئ العامة لهذه الأخلاق مأخوذة من التقليد الفلسفي اليوناني وخصوصا من الرواقية والأفلاطونية  أي أتباع الطبيعة، الاعتدال، والبحث عن لذائذ النفس قبل لذائذ الجسد والاحتفاظ بالسيادة على الذات.
        نفاجأ ربما، إذا رأينا كليمنضوس يعرض على المرتدين الجدد تعليما أخلاقيا في غاية الدقة بدل أن يعطيهم الأسس المذهبية التي تؤسس الأنظمة العامة للتصرف، لكن السؤال المطروح هو: لماذا أتت الأخلاقية العلمية قبل التعليم النظري؟ الجواب موجود في التصورات التي كانت تسود التقليد الأفلاطوني ابتداء من القرن الأول بعد المسيح وذلك فيما يخص نظام تعليم أقسام الفلسفة، فقد استبدلت ثلاثية الأخلاق، الفيزياء، المنطق بثلاثية الأخلاق، الفيزياء، اللاهوت، وكان من الخلاق أن تعلم بادئ ذي بدء لأنها تشكل تنقية للنفس وضرورة لتحضير العقل لاكتناه التعليم.
       وقد تتعجب خصوصا عندما نرى كليمنضوس يعرض على أحد الأتباع المرتدين حديثا إلى المسيحية، نظاما تعليميا مستوحى من التقليد الفلسفي الوثني ومن أخلاق هللينية المصدر.
       والسبب في هذا هو أن الفيلسوف مقتنع بتماثل العقل والمسيح.
       إنه العقل نفسه الذي ألهم الفلاسفة، ذلك "العقل" الذي تجسد في المسيح وتكلم بفمه، والفرق أن الفلاسفة امتلكوا "العقل" بشكل جزئي وغامض، أما المسيحي فيمتلك في المسيح تصورا شاملا يقينيا وحقيقيا عن العقل.
       ويتأتى عن ذلك أن حقائق الفلسفة الأخلاقية التقليدية هي بالنسبة للمسيحي مدموجة في نظام معين، تأخذ بعدا جديدا على ضوء العقل الشامل[10].
       لكن في الحقيقة، لسنا نملك كتاب كليمنضوس الذي يجيب على السؤال المتمحور حول البحث عن آثار الكلمة الإلهية.
       ورغم ذلك، نستطيع الافتراض أن الكتب الثمانية وهي "السترومات" عرض للأفكار الغنوصية حسب الفلسفة المسيحية، والكتب الثمانية التي تحمل عنوان "لايبوتيوس" Hypotyposes أو الأوصاف المؤثرة والتي وصتنا بفضل تلخيص  لفوتيوس: هذه الكتب مجتمعة تجيب على السؤال المطروح اعلاه.
       ومن اهم هذه الكتب الثمانية نجد: اليروتيتيكوس والبيداغوغوس والأستروماتيس وهذه المؤلفات تشكل في واقع الأمر ثلاثية حقيقية هدفها مرافقة نضوج المسيحي الروحي بشكل فعال[11].
       البروتيتيكوس تعني هذه الكلمة "حث" موجه إلى كل من يبدأ درب الإيمان ويبحث عنه بل أكثر من ذلك يتطابق البيروتيتيكوس مع شخص: شخص ابن الله يسوع المسيح الذي يحث بنفسه البشر لكي يبادر بعزم السير نحو الحق، فيصبح يسوع نفسه بعدها بيداغوغوس أي مربيا، يسوع في النهاية هو أيضا ديداسلكوس أي "معلم" يقدم التعاليم الأعمق، وهذه التعليم موجودة في مؤلف كليمنضوس الثالث الأستروماتيس وهي كلمة يونانية تعني "السجاد" إذ يتألف بالفعل من تركيب غير منتظم المواضيع العديدة، ونشره مباشرة لتعليم كليمنضوس الاعتيادي[12].
       وهكذا نستطيع أن نعيد تركيب خطوات فكر كليمنضوس على الشكل التالي:
-       الفلسفة الحقيقية ليست سوى معرفة "العقل" الذي أظهره الله للناس في الكتاب المقدس وفي المسيح.
-       الحكيم الحقيقي هو المسيحي الذي يحقق كمال الحياة الأخلاقية وكمال المعرفة اللاهوتية فيصبح غنوصيا حقيقيا.
-       الغنوصي الحقيقي إذن هو المفسر أي الذي يمتلك الذكاء الروحي للكتاب المقدس.
والحقيقة أن هذه النظرة ليست بعيدة عن التقليد الفلسفي اليوناني ففي زمن كليمنضوس، أخذت الفلسفة تصبح شيئا فشيئا بحثا عن "العقل" القديم أي عن "العقل" الذي أظهره الله منذ بدايات البشرية، وما علينا سوى أن نفتش عن أثر هذا "العقل" في التقاليد البربرية أي المصرية والعبرية الأكثر دنوا من البدايات.
هكذا إذن تصبح الفلسفة تفسيرا للأساطير والتقاليد الأكثر توغلا في الماضي السحيق.
أما الفيزياء فموجودة في الفصل الأول من سفر التكوين وهي معدة لأن تفسر رمزيا.
اللاهوت، أي الأسرار الكبرى: يظهر خصوصا في كتابات العهد الجديد في الأناجيل وفي رسائل بولس.
والحال أننا نعرف أن "الايبوتيبوس" تحتوي على تفاسير لكل من التكوين والخروج والمزامير ورسائل بولس، لقد حقق هذا الكتاب إذن برنامجا تعليميا يتضمن فيزياء ولاهوتا منبثقين من الكتاب المقدس.
والسؤال الأخير هو : هل يستطيع من خلال كل هذه العناصر التي نملك أن نحدد محتوى العرفان بالمنظور الكليمنضوسي؟
العلافان يشمل بالنسبة للفيلسوف تقليدا محكيا وسريا بثه المسيح للرسل ثم بثه الرسل بدورهم إلى طائفة من المعلمين الروحيين وعلى رأسهم بانتان.
 وموضوع هذا التقليد السري هو الأسرار الماورائية المنبثقة من التقاليد اليهودية والمسيحية.
 وكليمنضوس يماثل بين العرفان والمعرفة والمحبة، كما أنه بالنسبة إليه تطور اخلاقي متواتر في هذه الحياة وفي الحياة الثانية، تطور ناتج عن نشاط النفس الحر، تطور لا حدود له لأن "الله يتراجع دوما ويهرب من الإنسان الذي يلحقه".
هذه نظرة مختصرة عن حياة كليمنضوس ومؤلفاته وكذلك فلسفته، نتمنى ان نكون قدمنا صورة متكاملة عن هذا القديس.
المصادر والمراجع:
1- موسوعة اعلام الفلاسفة العرب والأجانب، قدم له الرئيس شارل حلو إعداد الأستاذ زوني إلي ألفا مراجعة الدكتور جورج نخل، الجزء الثاني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1412هـ / 1992م.
2- مقالة: الإنسان في المجتمع الفاتيكاني الثاني لمطران عبده خليفة.
3- Encyclopeadia universalis France, éditeur à Paris, Vol4, 1980
4- الشبكة العنكبوتية في موقعين:
www.musdarh.net / Articles / 36 htm
www.cisro.org (Editrice Vaticana)


[1] - موسوعة  أعلام الفلاسفة العرب والأجانب، قدم له الرئيس شارل حلو إعداد الأستاذ زوني إيلي ألفا مراجعة الدكتور جورج نخل الجزء الثاني، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1412هـ/1992م، ص: 270.
[2] - نفسه ص: 270 بتصرف.
[3] - موسوعة اعلام الفلاسفة ص: 273.
[4] - Encyclopaedia Universalis France, éditeur à Paris, Volume 4, 1980, p :615.
[5] - نفسه، ص: 615، بتصرف.
[6] -  مقالة مطران عبده خليفة تحت عنوان: الإنسان في المجتمع الفاتيكاني الثاني
[7] -  الموسوعة www.cusro.org (Editrice Vaticana ) 
[8] - الموسوعة
[9] - الموسوعة ص: 272 بتصرف.
[10] - باختصار Encyclopedia Universal, p : 618
[11] - الشبكة العنكبوتية باختصار  (النص الأصليwww.cusro.org (Editrice Vaticana : 
[12] - الشبكة العنكبوتية باختصار  (النص الأصليwww.cusro.org (Editrice Vaticana : 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق